«زيد أسيدي الله ينفع بالزيارة». رددها عنصر من الأمن الخاص «البودشيشي»، وهو يرافق طابور المريدين والمحبين الذين جاؤوا من مختلف أنحاء البلاد والمعمور للتبرك بشيخ الطريقة وإقامة احتفالات ذكرى المولد النبوي. منذ الساعات الأولى من صباح أول أمس الأحد، توافد على مداغ آلاف المريدين والمحبين لإحياء الليلة الكبرى. الساحة المقابلة للمسجد الكبير للزاوية تحولت إلى ما يشبه محطة طرقية، اصطفت بها مئات الحافلات القادمة من مختلف أنحاء المغرب، فيما كان مطار وجدة أنكاد على موعد مع عدد من الرحلات الجوية التي أقلت «فقراء» العالم صوب المنطقة الشرقية. كلما تقدمت ساعات النهار في اتجاه المساء، إلا واشتدت حالة التأهب بين أعضاء اللجنة المنظمة وحاشية الشيخ. آخر الترتيبات تجري على قدم وساق، حيث تم تهييء المسجد الكبير، الذي تحول في ساعات النهار إلى مكان لاستراحة المريدين، قبل أن ينهض الجميع ليلا لرقصة روحية تحت عنوان: «الحضرة البودشيشية». استنفار أمني ما إن يتجاوز الوافد على مداغ حاجز الدرك الملكي، حتى تستقبله عناصر الأمن الخاص من أتباع الطريقة. هنا تنفذ التعليمات بصرامة شديدة، ويتساوى الفقراء كما الأثرياء. «لدي تعليمات من رئيسي بعدم السماح بعدم دخول أي شخص لا يتوفر على البادج»، يخاطب عنصر من الأمن الخاص صحافي «المساء» وهو يحمل وزرة برتقالية اللون كتب عليها: «Sécurité». دخلنا الزاوية بعد اتصالات باللجنة المنظمة وحصولنا على «البادج». المنظمون خصصوا مدخلين إلى الخيمة الكبرى، التي تحتضن فعاليات الملتقى العالمي للتصوف في دورته الثامنة، أحدهما للنساء والآخر للرجال. الولوج إلى عمق الزاوية، حيث يقطن المريدون الأجانب، ليس متاحا للجميع. الأمن الخاص يدقق في هوية الوافدين على المنطقة «المغلقة»، بينما يتمركز عدد من أفراد الدرك الملكي والقوات المساعدة أمام مجموعة من الإقامات والمطاعم المتنقلة التي ينتسب أصحابها للطريقة. «هناك مريدون قدموا من دول أجنبية، إلى جانب الفقراء الذين جاؤوا من مختلف أنحاء المغرب، وبالتالي لابد من توفير الأمن والتنظيم الجيد، خاصة أننا نتوقع حضور عدد كبير من الفقراء»، يقول مصدر من اللجنة المنظمة ل«المساء». فرق الوقاية المدنية كانت بدورها على أهبة الاستعداد، بتخصيص مجموعة من سيارات الإسعاف وشاحنات للإطفاء. الليلة الكبرى قد تشهد بعض حالات الإغماء، التي تفرض تدخلا عاجلا لإسعاف المشاركين في الحضرة البودشيشية. فقراء العالم تجمع الطريقة القادرية البودشيشية المريدين من مختلف أنحاء العالم، بشكل يثير من يزور الزاوية أول مرة لطرح السؤال عن سر استقطاب «فقراء» من دول جد متقدمة في آسيا وأوربا وأمريكا وأستراليا، وإفريقيا. «هناك من قضى أكثر من 12 ساعة عبر الطائرة للوصول إلى هذه الزاوية..طبعا إنه جاء يبحث عن دواء القلب»، يقول أحد أتباع الطريقة. في مداغ التقينا بيوسف، وهو مواطن فرنسي اعتنق الإسلام قبل سنوات. قصة انتسابه للطريقة، كما رواها ل»المساء»، كانت محل صدفة إلهية كما يحكي، خاصة وأن أغلب أفراد عائلته يعتنقون المسيحية، في حين لا يؤمن بعضهم بالله. يقول يوسف والابتسامة تعلو محياه: «التقيت بصديق مغربي من أتباع الطريقة القادرية البوشيشية داخل مقر العمل، فعرفني على الدين الإسلامي الذي وجدت فيه إحساسا بالطمأنينة». هنا بدأ يوسف يتعرف شيئا فشيء على الطريقة وتعاليمها، إلى أن اقترح عليه صديقه في العمل، وهو أحد مريدي الطريقة، مرافقته إلى المغرب لحضور احتفالات ذكرى المولد النبوي. «كانت تلك أول مرة تطأ قدماي أرض المغرب، ومنذ ذلك الحين أصبحت مواظبا على زيارته كل سنة لإقامة ذكرى المولد النبوي». توقف يوسف متحدثا لأحد المريدين وهو ينحني لتقبيل يديه على طريقة فقراء البودشيشية، ثم زاد مؤكدا: «طبعا لا يمكن أن آتي إلى مداغ دون أن أزور الشيخ سيدي حمزة». لقاء الشيخ الساعة الثالثة بعد زوال يوم الأحد. ارتفعت أصوات شباب الزاوية إيذانا بفتح أبواب إقامة الشيخ سيدي حمزة لاستقبال المريدين. وما هي إلا لحظات حتى اصطف «الفقراء» في طابور طويل. هنا أمام مقر إقامة الشيخ، في فترة الاحتفالات بذكرى المولد النبوي، رابط عدد من أعضاء اللجنة المنظمة لتيسير ولوج الزوار. «زيد أسيدي... الله ينفع بالزيارة»، يردد عناصر الأمن الخاص، وهم يطالبون المريدين بالإسراع لولوج الصالون الذي يجلس فيه الشيخ. تخلص صحافي «المساء» من شارة الصحافة، واصطف بين عموم الفقراء والمحبين لمعايشة أحاسيسهم في هذا اللقاء السنوي. على طول الطريق المؤدي إلى صالون فسيح، حيث يجلس الشيخ، وقف عدد من الشباب لإضفاء مزيد من الحماس على الزيارة، وهم يرددون عبارات من قبيل «الدعاء مقبول بإذن الله»، «الله ينفعكوم بزيارة السيد». داخل منزل الشيخ، كان «الأب الروحي» للطريقة يجلس فاغرا فاه، وهو يستمع للأمداح التي ينشدها مجموعة من الشباب. رائحة بخور «العود القماري» تعم المكان، مضفية عليه مزيدا من الخصوصية في نفوس الزائرين. عند مدخل الصالون، وقف شاب يحمل كيسا بلاستيكيا مخصصا لجمع مساهمات المريدين، فيما تكلف آخر بترديد عبارة: «وجدو الزيارة يا الفقرا». أحد الأتباع استل من جيبة ورقة مالية من فئة 200 درهم، ورمى بها في الكيس على غرار باقي الأتباع. بعض الفقراء الأثرياء يقدمون هبات سمينة للزاوية. كانت علامات الدهشة و»الحال» تحتل محيا عدد كبير من زوار «سيدي حمزة». شاب من مدينة الدارالبيضاء، اسمه أمين، أصيب ب»رعشة روحانية» قوية وهو ينظر إلى الشيخ، المحاط بحاشيته والمكلفين برعايته. ظل الشاب يصرخ، وهو يلقي نظرة على شيخ الطريقة: «الله..الله». إقامة الشيخ لها «قدسية» خاصة في نفوس عدد من المريدين. «المساء» عاينت بعض الأتباع وهم «يتبركون» من مياه صنبور يوجد عند الباب الخلفي لإقامة «السيد»، فيما لم يجد آخرون غير تقبيل أرضية المنزل. «هذه أمور نادرة، لكن ما يمكن أن أؤكده هو أن المريدين لا يعبدون الشيخ وليس في طريقتنا أي شيء من هذه الطقوس»، يعلق أحد أتباع الطريقة في حديث ل»المساء». كل من زار الشيخ يعود في اتجاه المسجد الكبير للزاوية، الذي سيحتضن الليلة الكبرى. داخل المسجد كان آلاف المريدين القادمين من مختلف أنحاء البلاد مستلقين على أرضيته، فيما استسلم آخرون للنوم في انتظار الساعة الحادية عشر ليلا، حيث سينطلق الحفل. حضرة بودشيشية تجاوزت عقارب الساعة العاشرة ليلا بقليل. أحمد العبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، كان أول من وصل إلى المسجد الكبير، إلى جانب حفيد الشيخ معاذ. وما هي إلا بضع دقائق، حتى حل «سيدي حمزة» محاطا بمقربيه وأعضاء اللجنة التنظيمية للحفل. دخل شيخ الطريقة المسجد عبر البوابة الخلفية، وجلس على مقعد أشبه بسرير. المنظمون وضعوا ستارا حول مكان جلوس الشيخ إلى حين انطلاقة الحفل. إلى جانبه الأيمن أخذ أحمد العبادي مكانه رفقة ابن الشيخ جمال القادري البودشيشي، فيما جلس الفيلسوف طه عبد الرحمان في الجانب الآخر. وما هي إلا لحظات حتى ظهر الشيخ عبر مجموعة من الشاشات التي تم نصبها في المسجد لترتفع أصوات الحاضرين وهم يرددون: «الله.. الله». ظل المريدون والمحبون مشدوهين إلى شاشات التلفاز. أحدهم همس في أذن صديقه قائلا: «الحمد لله سيدي حمزة في صحة جيدة». انطلق الحفل بتلاوة آيات من سورة الفتح، ليأخذ منير القادري بودشيش، حفيد الشيخ ومدير الملتقى العالمي للتصوف، الكلمة للترحيب بالضيوف والمريدين، ويبرز دور الزوايا في مواجهة التطرف. بعد نهاية كلمة الزاوية التي ألقاها منير القادري بودشيش، انطلقت المجموعة الوطنية للأمداح والسماع للطريقة القادرية البودشيشية، في تنشيط أولى فقرات الليلة، حيث أبدى الشيخ تفاعلا مع الأناشيد الصوفية، معلنا لكل من يسأل على حاله أنه في «صحة جيدة». حماس الشيخ ألهب الحاضرين، الذين بدأ «الحال» يلبس بعضهم. وما هي إلا لحظات حتى وقف الجميع في حضرة بودشيشية جماعية، انخرط فيها الصغار كما الكبار، يتمايلون ويهتزون ثم يعودون إلى وضعهم الطبيعي بعدما تخفت أصوات المسمعين. تجاوزت عقارب الساعة الثانية صباحا، وبدأ العياء يتسلل إلى أجساد عدد من الفقراء. بعض الأتباع استسلموا للنوم داخل المسجد الكبير، فيما بدأ آخرون الالتحاق بالحافلات التي ستنطلق في رحلة العودة. وحدها عيون عناصر الوقاية المدنية ظلت تراقب الوضع عن كتب، تحسبا لأي إغماءات في صفوف المريدين. هنا مداغ، عاصمة فقراء البودشيشية. بودشيش *: الزوايا تساهم في تخليق المجتمعات باستئصال جرثومة الفساد - كيف حظيت دورة هذه السنة للملتقى العالمي للتصوف بالرعاية الملكية؟ أولا ما ينبغى أن نعيه جيدا كمغاربة هو أن بلدنا الأمين أكرمه الله سبحانه وتعالى بإمارة المؤمنين، الحامية للملة والدين، تلك الحماية الحبلى بمعاني التوجيه والتأطير والرعاية للحقل الديني بمختلف مكوناته ومؤسساته. وليست الزوايا والطرق الصوفية ببلدنا إلا ثابتا من بين ثوابت هويتنا الدينية والروحية التي تحظى بعناية أمير المؤمنين حفظه الله. ولذلك فهذا الإنعام المولوي الكريم بالرعاية للملتقى العالمي في دورته التاسعة ترسيم لعنايته ورعايته لمثل هذه الملتقيات العلمية الكبرى، والتي تكشف عما تكتنزه المملكة من ثروة روحية يمكن أن تسهم في إظهار إسلام المحبة والجمال والسلام للعالم أجمع. - أي دور للزاوية في مواجهة التطرف؟ التصوف لا يمكن لوحده أن يواجه التطرف، بل مواجهته هي مسؤولية المجتمع بشكل عام، ويجب على كل واحد أن يتحمل مسؤوليته. لكن التصوف من خلال خطابه وتربيته ينبني على قيم المحبة واحترام الآخر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن»، وبالتالي فالإسلام رسم لنا طريق التعامل مع الآخر. طبعا التصوف، في الشق الخاص بمواجهة التطرف، فهو فاعل من فعاليات المجتمع. فالتصوف هو ثابت من ثوابت الهوية الدينية، إلى جانب إمارة المؤمنين والعقيدة الأشعرية والفقه المالكي والتصوف السني، وهي الثوابت التي تشكل صمام أمان لاستقرار الأمن الروحي. - كيف يمكن للتصوف أن يساهم في الإصلاح في زمن الألفية الثالثة؟ إن ما يميز التربية الصوفية، هو تركيزها على جوهر الإنسان، ذلك الجوهر الذي اصطلح عليه في جميع أدبيات تزكية النفوس بالقلب. فشيوخ التربية عملوا على تخليق الأفراد والجماعات من خلال بناء السلوك بناء عميقا، يسبر أغوار الذات الإنسانية بشكل عملي وميداني، بعيدا عن التنظيرات التخليقية التي لا تقدر على تغيير السلوكات لتبقى مجرد دعاوى وأقوال بعيدة عن الأفعال، والسلوك فعل في النفس وأثر في الواقع. ومؤسسات الزوايا تساهم في تخليق المجتمعات باستئصال جرثومة الفساد عبر مناهج التزكية النبوية التي تؤمن بالحلم والستر واليسر والمحبة والتدرج وتوجيه القلوب لله تعالى من خلال ذكره سبحانه، ليسري الصلاح والإصلاح بلطف وجمالية. هذه الطبيعة الروحية للمنهج الصوفي تجعل منه طاقة أخلاقية مواكبة لمختلف السياقات. فالزمان والمكان يتغيران بخلاف الجوهر الروحي المرتبط بالكينونة الوجودية للإنسان، أي الإنسان الذي يحتاج إلى تذكيره بعبوديته لله تعالى والتي أقر بها أزلا، ولعل هذا هو سر الجاذبية لمختلف الأجناس لهذا الفضل التربوي المحمدي الذي نحن في أمس الحاجة إلى التعاون مع مختلف الفاعلين المجتمعيين على إظهاره وتربية النشء عليه لما فيه من وقاية وتحصين من مختلف التيارات الهدامة والعدمية والعنيفة. فالتربية الصوفية تفتح أبواب الأمل وتزرع الثقة والتفاؤل والإقبال على المبادر والعمل بشكل إيجابي نافع. * منير القادري البودشيشي: مدير الملتقى العالمي للتصوف