“وقال قائل: النفس طبيعةٌ دائمة الحركة. وقال قائل: النفس تمامٌ لجسمٍ طبيعيٍ ذي حياة. وقال قائل: النفس جوهرٌ ليس بجسمٍ محركٌ للبدن. وعلى هذا؛ ولعل آخرين يقولون في تحديدها ونعتها أقوالاً أخر، لأن الملحوظ بسيط، والمدروك بعيد، والناظرين كثيرون، والباحثين مختلفون، والكثرة فاتحة الاختلاف، والاختلاف جالبٌ للحيرة، والحيرة خانقةٌ للإنسان، والإنسان ضعيف الأسر، ….. غشاؤه كثيف، وباعه قصير، وفائته أكثر من مدركه، ودعواه أحضر من برهانه، وخطؤه أكثر من صوابه، وسؤاله أظهر من جوابه، فعلى هذا كله الاعتراف بها – أعني بالنفس وبوجدانها – أسهل من الفحص عن كنهها وبرهانها.. قال: وإنما صعب هذا لأن الإنسان يريد أن يعرف النفس وهو لا يعرف النفس إلا بالنفس، وهو محجوبٌ عن نفسه بنفسه؛ وإذا كان الأمر على هذا، فالأمر أن كل من كانت نفسه أصفى، ونوره أشع، ونظره أعلى، وفكره أثقب، ولحظه أبعد، كان من الشك أنجى، وعن الشبهة أنأى، وإلى اليقين أقرب؛ والإنسان ذو أشياء كثيرةٍ، من جملتها نفسه، فلكثرة ما هو به كثيرٌ يعجز عن إدراك ما هو به واحدٌ، أي إنسان”[1] كلام نفيس وحكيم يتحدث فيه أبو حيان التوحيدي عن النفس، حيث يشير إلى ما يكتنف البحث في هذا الموضوع من صعوبات جمة، مردها إلى طبيعة النفس وجوهرها المستعصي عن الفهم والإدراك. بل لما كان الإنسان، في هذا المجال من البحث، هو الدارس والمدروس، حيل بينه وبين الوصول إلى الحقيقة لأنه “محجوب عن نفسه بنفسه”. ويستفاد من هذه العبارة أو المقولة الأخيرة أن النفس حجاب وأي حجاب؛ وأنها كثيرا ما تغدو حجابا كثيفا وحائلا يمنع الإنسان من معرفة حقيقة الأمور، عندما يكون شديد التعصب لرأيه أو مذهبه أو توجهه السياسي، أو بسبب تقليده الأعمى، أو بسبب تكبره وعجبه وغروره، أو أسيرا لسلطان أهوائه وميولاته وشهواته. وعندما يتجرد المسلم من التعصب والتقليد الأعمى ومن الأخلاق والصفات المذمومة من كبر وعجب وغرور ورياء ونفاق، ويتحرر من قيد أهوائه، تغدو “نفسه أصفى، ونوره أشع، ونظره أعلى، وفكره أثقب، ولحظه أبعد،( و)كان من الشك أنجى، وعن الشبهة أنأى، وإلى اليقين أقرب”. وقتئذ يفتح له باب العلم والمعرفة ويسهل عليه تربية نفسه وتزكيتها، ويلج فضاء الصلاح والإصلاح. والإنسان خلق للعبادة، فإن خرج عنها بعبادة هواه والدنيا، خرج عن أصله وأصبح غريبا عنه وذلك عين التيه. احذر أن تكون غريبا عن أصلك وفطرتك، واحرص على أن تكون غريبا في الدنيا تفز بسعادة الدارين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بدأ الإسلام غريبا ويعود غريبا فطوبى للغرباء”. ثم إن لذة البصر تكمن في النظر إلى المخلوقات وعجائب الدنيا، فإن أثمر تدبرا سهلت معرفة الخالق ورق الحجاب، وإلا كان المبصر من الذين لهم أعين لا يبصرون بها، لأنه وقف مع المخلوقات فحالت بينه وبين الخالق فعمي. لا تنظر إلى الدنيا بعين البصر، خشية أن تسحرك وانظر إليها بعين البصيرة لعلك ترى عجبا، وإن لم تفعل فلا عذر لك “بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره”.
------------
[1] – أبو حيان التوحيدي: “الإمتاع والمؤانسة” ج 3 ص 109 منشورات دار مكتبة الحياة بيروتلبنان د.ت.
د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين، تطوان المغرب، جمادى الثانية 1438- موافق مارس 2017.