ومن أبدع ما تناولته الأساطير البحرية، وصف العوالم السعيدة الفاتنة، والشواطئ الظليلة الحالمة التي تخفيها آفاق البحار، والتي تهفو نفوس الملاحين إليها فيودون لو أدركوها، ليمضوا فيها ما بقي لهم من العمر، تاركين في سبيلها الأوطان والولدان. وقد وصف (المسعودي) الشواطئ التي تخرج إليها وتستظل بأشجارها ونخيلها عرائس البحر، بأنها (أطيب رائحة من الكافور). كما تحدث عن مدينة لطيفة من الحجر الأبيض اللامع تسمى (البراقية) لما ينبعث منها من بريق عجيب، وفيها تسمع ضوضاء دون أن يرى بها إنسان. وعندما يقصدها الملاحون يجدون بها (ماء زلالا حلو الطعم، فيه طعم الكافور). وتحدث صاحب (نخبة الدهر) عن عين في جزيرة (ضوضا) قرب ساحل (مقديشيو) يجري فيها نهر يوجد لمائه رائحة الكافور وطعمه. كما يوجد ماء إذا شرب منه الشيخ عاد شابا كما كان. ويتحدثون عن جزيرة (سلطا) في بحر اليمن كجنة من جنات الله على الأرض، أهلها قوم خيرون، يكرمون من يقصدهم، ويزودونه بما يكفيه ثلاث ليال، من التمر والنارجيل والطيور المشوية والطيب، ويجهزون له سفينة لعودته. ويعرض (الفيروز أبادي) صورة مبهجة لجزائر (مرغناي) في تعريفه بها في قاموسه المحيط فيقول (وفيها كل فاكهة شرقية وغربية، وكل ريحان وورد، وكل حب من غير أن يغرس أو يزرع). كما تناولت الأساطير البحرية سير بعض الجزائر التي تعيش فيها مخلوقات عجيبة الأشكال والأطوار، وتأوي إليها المردة والشياطين. وقد حدثنا (المسعودي) في (أخبار الزمان) عن جزيرة بالبحر الأخضر (أي المحيط الأطلسي) تدعى (ملكان) وهي تنسب إلى دابة بحرية بهذا الاسم تعيش فيها (ولهذه الدابة رؤوس كثيرة، ووجوه مختلفة، وأنياب معقفة، وليس لها طعام إلا ما تصيده من دواب البحر). ومن جزائر ذلك البحر أيضا جزيرة (الزور) التي تحمل اسم قوم، لهم أجنحة وشعور وخراطيم، يمشون على رجلين وعلى أربعة، ويطيرون من الجزيرة ثم يعودون إليها. كما توجد من تلك الجزائر في بحر اليمن، جزيرة تدعى (الولهان) وهي تنسب إلى شيطان بهذا الاسم، في صورة إنسان، يمتطي ظهر طائر يشبه النعامة، يأكل لحوم الناس، ويلتهم الغرقى وهم أحياء. وفي ذلك البحر أيضا جزيرة (البيدج) وهو اسم صنم من زجاج أخضر، موجود فيها، يجري من عينيه الدمع على مر الزمان، ويخرج منه صفير عجيب، ويروي الملاحون أنه يبكي قوما كانوا يعبدونه، فغزاهم أحد الملوك، وقتل بعضهم، وسجن البعض الآخر، واستعصى عليه تحطيم الصنم، فبقي يبكي عابديه. ومن تلك الجزائر ما يلوح للسفن كالسراب، مثل جزيرة (الضريف) التي تظهر شواطئها عن بعد، فيرى الملاحون فيها مباني، وأناسا وأشجارا. غير أنهم كلما حاولوا الاقتراب منها بعدت عنهم، وعجزوا عن بلوغها، ولو كرروا ذلك مرات عديدة. كما يوجد نوع آخر من الجزائر الخفية التي تعجز عن إدراكها الأنظار، ولا يفلح في ذلك إلا من كتبت لهم السعادة والخير. ومن ذلك النوع جزيرة في بحر الهند، لا يستطيع بلوغها إلا من يوفق إلى اصطياد سمكة معينة تسمى (السائل) فمن حملها شهد الجزيرة، واستطاع دخولها. واغتنم ما بها من خيرات. وفي ذلك البحر جزيرة أخرى بها عين من شرب منها أصابه الجنون. وفي جزيرة (سرنديب) واد به حيَّات ضخمة تجذب الإنسان بنظراتها الآسرة حتى يدنو منها مسلوب الإرادة فتقتله، ثم تأكله إن كانت جائعة. ومن تلك الجزائر العجيبة أيضا جزيرة (البهت) في البحر الأخضر(أي المحيط الأطلسي) ، وبها بحيرة ملآى بقماقم (سليمان) عليه السلام. ويروى أن (موسى بن نصير) توجه إليها، فما ان تخطى جنوده أسوارها العالية، حتى أخذوا يقهقهون برغمهم، ولم يعودوا، وذلك لأن بها حجر (البهت) الذي يسمى (مغناطيس الإنسان) ولا يملك من رآه إلا الضحك. ويزعمون أن أحد تلك القماقم فتح، فخرج منه مارد يقول (يا نبي الله لن أعود) ثم تبخر في الهواء. وأن (موسى بن نصير) أرسل بعض تلك القماقم إلى الخليفة في دمشق. والواقع أن كثيرا مما روى عن تلك الجزائر والشواطئ المجهولة، قد تأثر بسير الأنبياء وغيرهم من الشخصيات التي خلدت ذكرها المأثورات الدينية. ومن ذلك ما روي عن سكنى (المسيح الدجال) في جزيرة (برطايل) التي تتصاعد منها الأصوات المنكرة، ودقات الطبول المجهولة المصدر، طوال الليل والنهار. ومما ذكر من عجائب البحر المحيط، أن فيه عرش إبليس، يحمله نفر من الأبالسة والعفاريت العظام، وله في إحدى جزائر ذلك المحيط سجن يحبس فيه من خالفه من الجن والشياطين. وتدور كثير من الأساطير البحرية حول (الخضر) عليه السلام، الذي يظهر للسفن الضالة أحيانا فيرشدها إلى الطريق الصواب. وقد روى بعض رواد البحار، أن البحر هاج بهم ذات مرة حتى أشرفوا على الهلاك، فتجلى لهم شيخ جليل. أبيض الشعر عليه ثياب خضر، وسمعوه يقول: (سبحان من برأ الأمور، وعالم ما في الصدور، ومن ألجم البحر بقدرته على أن لا يفور). ثم نصحهم قائلا (سيروا بين الشمال والشرق حتى تنتهوا إلى جادة الطريق فاسلكوا وسطها، تسلموا من الغرق). فاتبعوا نصيحته حتى نجوا، وقصدوا مدينة بها أناس طوال الوجوه، معهم قضبان من الذهب يحاربون بها فعلموا منهم أن الذي أرشدهم هو (الخضر)عليه السلام. وكان أصحاب السفن يعتقدون أن لكل سفينة حراسا غير مرئيين تحفظها، فيقدمون لها أفضل الطعام. وقد حدثنا (بزرك بن شهريار) عن سفينة كانت توضع فيها كل يوم صحيفة أرز بسمن، لأولئك الحراس وأن بعض المتسللين إلى السفينة للسفر عليها خلسة كانوا يتخذونها طعاما لهم. وقد ذكر (ابن بطوطة) – في إحدى رحلاته – أن بعض الملاحين كانوا يعتقدون أن من شرب من ماء البحر في محازاة متعبد (سهل بن عبد الله التستري) وهم خارجون من (البصرة) إلى (الابلة) سلم من الغرق. وقد تسربت إلى كتب التفسير والحديث كثير من الأساطير والتصورات البحرية، التي لا يتسع لها هذا المقام. ولعلنا بهذه الأمثلة المحدودة، واللقطات الخاطفة، التي عرضناها هنا نكون قد أسهمنا في توجيه أنظار المهتمين بجمع تراثنا الشعبي وتحقيقه، إلى هذا المجال البكر الخصيب، الذي يحتاج إلى تضافر العديد من الجهود، مع الاعتماد في ذلك على المصادر المكتوبة، والمصادر الشفاهية التي تخلدها ألسنة الكثير من أبناء الشواطئ العربية على اختلاف أوطانهم، والتي لم تحظ بعد بما تستحق من اهتمام الباحثين. انتهى *-.-*-.-*-.- والله الموفق 2016-03-28 محمد الشودري Mohamed CHAUDRI