* على العربي المعاصر أن يتبع العربي القديم في اتخاذ العقل وسيلة لحل كل مشكل جديد. سؤال نطرحه: كيف يتاح للعربي المعاصر أن يتابع السير على طريق العربي القديم، لتجيء عصريته عصرية وعربية معا؟ والإجابة المقترحة هنا هي: أن يكون ذلك باتخاذ الوقفة نفسها التي وقفها سلفه، لينظر إلى الأمور بالعين نفسها، ألا وهي عين "العقل" ومنطقه دون الحاجة إلى إعادة المشكلات القديمة بذاتها، ولا إلى الاكتفاء بالتراث القديم لذاته، فإذا كانت قد عرضت للأقدمين – مثلا – مسألة "الكبائر" ومرتكبيها، أيعدون كفارا لارتكابهم تلك الكبائر،أم يظلون على إيمانهم برغم ما اقترفوا؟ وذلك بمناسبة موقف الخوارج من جهة، وموقف المرجئة من جهة أخرى، حيال من أخذوا بالتحكيم بين علي ومعاوية، ثم إذا كان المعتزلي واصل بن عطاء قد اختار لهذه المسألة موقف العقل المتروي، قائلا إن مرتكب الذنب الكبير ليس كافرا– كما يقول عنه الخوارج– ولا هو مؤمن– كما يقول عنه المرجئة – ولكنه في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، وتعليل ذلك عنده هو أن الإيمان مجموعة كبيرة من الصفات، فإذا ارتكب المؤمن ذنبا في إحداها، وبقيت له سائرها، فإنما يكون إيمانه قد نقص ولم يرتفع عنه ارتفاعا كاملا.. فهل يجوز للعربي المعاصر أن يقف من الأمر عند حد تلاوة هذا الخبر مرة ومرة وألف مرة، ليزعم أنه بذلك يحيي التراث ؟ كلا، بل الاحياء الصحيح هو أن يأخذ العربي المعاصر من موقف العربي القديم صورته لا مادته، فيأخذ مثل هذه الوقفة العاقلة المتزنة المتوسطة بين تطرفين، ليطبقها بعد ذلك فيما يعرض له هو من مشكلات عصره، كمشكلة الفرد والجماعة – مثلا – أنجعل الفرد محورا أولا وآخرا لنضمن له حريته، أم نطويه في الجماعة طيا لنضمن العدل لبقية الأفراد ؟ فها هنا قد يقف العربي وقفة عربية أصيلة،ليقول:الصواب منزلة بين المنزلتين، مثال آخر: أنرغم شبابنا على التزام التقاليد في بنائهم لعلاقاتهم الاجتماعية، كالطريقة التي يقيم بها الزواج والأسرة، والتي ينظم بها علاقة الكبير بالصغير والحاكم بالمحكوم، والغني بالفقير، والمخدوم بالخادم ؟ بحجة أن التقاليد عرف أجمعت عليه أجيال متعاقبة ؟ ها هنا أيضا قد يقف العربي وقفة عربية أصيلة – يأخذ صورتها – دون مادتها من التراث، فيقول إن مجرد إجماع الناس لا يكفي أن يكون دليلا مقنعا، لأن الناس– كما قال ابن جني بالنسبة إلى اللغة – "قد يجتمعون على خطأ"، وإنما العبرة بما يقوم على "عقل"، والعقل – كما حددناه – هو القدرة على الانتقال من وسيلة إلى هدف، فإذا كان الهدف المقصود هو أن تزدهر في المجتمع صناعة – مثلا – ثم إذا كان هذا الازدهار مرهونا بأن تحطم بعض التقاليد، برغم الإجماع عليها – فلتحطم، لتكون وقفتنا حيال المسألة وقفة عقلية، على نحو ما وقف أسلافنا. ولكنني ألحظ عكس ذلك تماما في حياتنا الجارية، ألحظ مقاومة للعقل وأحكامه، واستقبالا حسنا للوجدان وميوله، لو قيل لنا أن العلماء يحاولون بالعلم – والعلم عقل – أن ينزلوا إنسانا على سطح القمر، رأيتنا وقد لوينا الشفاه امتعاضا، سواء أفصحنا عن امتعاضنا ذلك بالعبارة أو لبثنا صامتين، كأنما جهاد العقل في هذا السبيل قد داخلته الأبالسة بالشر والخبث والدهاء، أو إذا قيل لنا أن العلماء يحاولون بالعلم – والعلم مرة أخرى هو عقل – أن يحلوا قلوبا سليمة محل قلوب مريضة، أو ما شابه ذلك، هززنا الأكتاف بالسخرية، وكأن تلك المحاولة فيها ما يشبه الكفر بمنزلة الإنسان وقيمته. وإنما ضربت هذين المثلين نقلا عن مقولة لأحد المفكرين العرب الذي قال في الخمسينات من القرن الماضي: "إنني رأيت بعيني، وسمعت بأذني، عالمين من علمائنا – وأقصد بالعلماء هنا علماء البيولوجيا والفيزياء وما إليها – رأيتهما وسمعتهما (في موقفين مختلفين) يندد أولهما بمحاولة الوصول إلى القمر، قائلا إن ذلك قد يزحزح هذا الجرم السماوي عن فلكه الذي أراده له الله، فيكون من الكوارث ما يكون، ويندد ثانيهما بمحاولة استبدال الأعضاء السليمة بالمريضة قائلا إن ذلك محال لأنه ضد طبائع الأشياء والكائنات، وإذا كان ذلك شأن رجال العلم منا، فأترك لك أن تتصور موقف عامة الناس". انتهى كان للعقل أعظم القيمة عند أسلافنا، فذلك ما ينبغي أن يكون له بين المعاصرين، لنقول ان الأمة العربية واحدة. تاريخها الفكري موصول بين الأولين والآخرين. *.*-*.*-*.*-*.*-*.* والله الموفق 2015-01-01 محمد الشودري