قبل 90 عاما، وفي خضم الحرب العالمية الأولى، أُقيم أول مسجد في ألمانيا. قصة إنشاءه تلقي الضوء على الوضعية الدينية للأسرى العرب والمسلمين في تلك الحرب والكيفية التي تطور بها الوجود الإسلامي في ألمانيا عموما. وتزايد الوجود العربي بألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية حين احتاج اقتصادها الصاعد إلى الأيدي العاملة. العمال الأوائل انكفئوا على أنفسهم ولم يجيدوا اللغة، اما أبنائهم فيشعرون اليوم أنهم اوروبيون وطنا ومسلمون دينا. لم يقترن بدء تشييد دور العبادة الإسلامية في ألمانيا زمنيا ببداية وصول الإسلام أو المسلمين إلى هذا البلد الأوروبي. إذ يعود تاريخ بناء أول مسجد في ألمانيا إلى 13 يوليو 1915 وتحديدا أثناء الحرب العالمية الأولى. حيث تم انشأ مسجدا خاصا للمسلمين المعتقلين إثناء الحرب العالمية الأولى، والذين كانوا يعملون في جيش دول المحور، حيث اعتقلت القوات الألمانية، من ضمن ما اعتقلت، جنودا مسلمين من أصول مغربية، جزائرية، هندية، سيبيرية، سنجالية وتاتارية. قرابة 15.000 من هؤلاء الأسرى تم وضعهم في معسكر أطلق علية "معسكر الهلال" في منطقة "فونسدورف" في برلين والذي خصص للأسرى للعرب والأفارقة الذين كانوا يعملون مع الجيش البريطاني، بينما وضع الأسرى المسلمون العاملون مع الجيش الروسي في معسكر أخر مجاور. أول مسجد في تاريخ ألمانيا وأثناء فترة الاعتقال في المعسكر بدء الأسرى بتنظيم حياتهم وممارسة شعائرهم الدينية، فكان من بينهم من يؤمهم في الصلاة ويلقي عليهم الدروس الدينية. ولقد روعيت الاحتياجات الدينية للأسرى المسلمين من قبل إدارة المعتقل، حيث كان لديهم الإمكانية لاختيار الأكل المناسب لهم دينيا والقيام بوجباتهم الدينية كالصلاة والصيام. وهكذا سمحت إدارة المعتقل في صيف 1915 بتخصيص مكانا للصلاة في "معسكر الهلال" والذي يعتبر أول مسجد في تاريخ ألمانيا. هذا المسجد كان عبارة عن بناء خشبي مستدير على مساحة إجمالية قدرها 18 متر، بارتفاع 12 متر، و ارتفاع المنارة 23 مترا، صمم لاستيعاب 4000 شخص. وقد تم افتتاح المسجد في 13 يوليو 1915 في حفل شارك فيه الأسرى المسلمين. ووفقا لوصف احد المراقبين للمشهد آنذاك في صحيفة ""Teltower Kriegsblatt فقد "تجتمع أمام مدخل المعسكر، الذي رسمت علية تهاني باللغة العربية، رهط من الضيوف الغربيين ومسلمون من كل الدول دول العالم: أتراك، فرس، تتار، بولغاريون ومسؤلون المان." النواة الأولى للمهاجرين المسلمين وقد سارت الحياة الدينية في فونسدورف بشكل مريح حتى نهاية الحرب العالمية الاولى حيث كان يمارس المسلمون شعارهم الدينية بحرية، وكان السلطان العثماني يتبرع بإرسال لحوم الضأن في عيد الأضحى ويتولى إمام سفارته في برلين إمامة المسلمين في صلاة العيد. وعندما وضعت الحرب أوزارها، تم إطلاق سراح الأسرى المسلمون ليعودون إلى بلدانهم، ولكن ليس جميعهم عاد إلى وطنه، بل ظل منهم عدة مئات في برلين، حيث استغلوا الفرصة للبقاء والعمل في ألمانيا هروبا من الفقر المدقع في بلدانهم. وفي هذا الوقت كانت ألمانيا قد بدأت تشكل منطقة جذب للمهاجرين المسلمين عموما، حيث تدفق الكثير منهم إلى عاصمة هذا البلد من مختلف البلدان الإسلامية، معظمهم من البلدان العربية، ولكن أيضا من الهند وإيران وتركيا، سواء لغرض الدراسة فيها لما تمتع به النظام التعليمي الألماني من سمعة جيدة، أو للهجرة إلى ألمانيا للهروب من وصاية الاستعمار البريطاني والفرنسي التي كانت مفروضة في بلدانهم. وهكذا ومع ازدياد أعداد المسلمين تشكلت في برلين في عشرينات هذا القرن جمعية إسلامية، استطاعت أيضا أن تكسب مسلمين ألمان ضمن صفوفها. كما نشأت أيضا اتحادات ومنظمات وجماعات إسلامية عدة. النشاط الإسلامي في فترة الحكم النازي غير انه ومع وصول النازيون بقيادة أدولف هتلر إلى السلطة في عام 1933 وسيادة أجواء سياسية أخرى في الرايخ الألماني، فقد انعكس ذلك أيضا على طبيعة حياة ووجود المسلمين في ألمانيا حيث تعرضوا للملاحقات وحملات التنكيل، مما دفع بالكثير منهم إلى مغادرة برلين، بالتالي أدى ذلك أيضا إلى ضعف الوجود الإسلامي في المدينة بفقدان المنظمات والاتحاديات الإسلامية أعضائها شيئا فشيئا حتى صار النشاط الإسلامي في المدينة اثراً بعد عين. لكن معاناة الجالية العربية والإسلامية في ألمانيا النازية لا تزال قضية مغيبة تماما ولم يتم التطرق لها بالشكل المنصف. عودة تدريجية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حاول المسلمون في برلين إعادة تشكيل أنفسهم مرة أخرى وبدأت، بعيدا عن أنظار الرأي العام، تتبلور ملامح حياة إسلامية في المدينة التي كانت آنذاك مجزأة إلى شطريين. ومع وصول أول موجهة من العمالة التركية المهاجرة إلى برلين في بداية ستينات هذا القرن بداء الوجود الإسلامي في الظهور واكتساب أشكال القبول العام والاعتراف. وقد زاد حجم الجالية الإسلامية في ألمانيا وبالتالي عدد المساجد في هذا البلد المسيحي حتى وصل في برلين وحدها إلى ما يزيد على 70 مسجد. وتشكل الجالية الإسلامية في ألمانيا حاليا ما يزيد على الثلاثة مليون شخص من مختلف الجنسيات وهي تتمتع مثلها مثل غيرها من الجاليات والطوائف الدينية الأخرى بالحريات الدينية المنصوص عليها في الدستور الألماني، بصرف النظر عن الجدل "السياسي" حول مدى خطورة ما يسمى "بالتطرف الإسلامي" على المجتمع الألماني، وهو جدل برز إلى السطح في الآونة الأخيرة وتحديدا في الخطاب السياسي للأحزاب المحافظة في أعقاب النشاط الإرهابي للجماعات الإسلامية المتطرفة في أوروبا. التواجد العربي بالمانيا وترجع بداية هجرة العرب التي تعتبر أساس الوجود العربي الإسلامي الحاضر في أوروبا إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما وقعت بعض البلدان العربية والإسلامية ضمن دائرة الاستعمار الأوروبي. وبالنسبة إلى ألمانيا بدأت الهجرة الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية لكونها كانت بحاجة إلى الأيدي العاملة لسد النقص الشديد الذي خلفته الحرب، فقد قام أرباب العمل ببذل جهود متواصلة لاستقدام أعدادا كبيرة من دول العالم الثالث وفي مقدمتهم العرب والمسلمون. تعتبر الجالية التركية من أكبر الجاليات المسلمة التي تعيش في ألمانيا اليوم (2 أكثر من 2 مليون شخص) وذلك بحكم العلاقات المميزة التي كانت تربط ألمانيا بتركيا قبل الحرب العالمية الأولى. ويبلغ عدد أفراد الجالية العربية المقيمة في ألمانيا 360 ألف شخص أغلبهم من المغرب العربي. شريحة العمال العرب بألمانيا كان هدف العرب المهاجرين الأساسي في بداية الأمر العمل لفترات مؤقتة لتحسين أوضاعهم المعيشية ثم الرجوع إلى الوطن الأصلي خاصة وأن جل المهاجرين لم يصحبوا عائلاتهم معهم في البداية، استمرت تلك الهجرات وتطورت لتشمل أعداداً كبيرة من الطلبة الدارسين من معظم الأقطار العربية والإسلامية إضافة إلى أعداد غير قليلة من القدرات والكفاءات العلمية. تتميز الغالبية العظمى من شريحة العمال بضعف المستوى الثقافي وضعف قدرتهم على التأثير الإيجابي في أبنائهم أو توريث قيمهم وعاداتهم بالإضافة إلى ضعف شديد في إتقان اللغة الألمانية وتباين كبير في القيم والطباع الشيء الذي دفع بهم إلى الانحياز للعزلة. تحرص شريحة العمال هذه على التشبث بالإسلام وعلى تكثيف الصلة بالوطن الأم وهذا يتجلى واضحا لدى الجالية المغربية على وجه الخصوص في رغبتها في الرجوع عند تحسن الأوضاع الاقتصادية. كما ساهمت هذه الفئة من المهاجرين في بناء المساجد والتي غالبا ما تكون في مناطق السكن المعزولة. الكفاءات العلمية والطلبة بدأ الشباب العربي في السنوات الأخيرة في السفر إلى ألمانيا بغرض الدراسة أو العمل وكذلك بغرض التعرف على المجتمعات والثقافات الأخرى. تعتبر شريحة الطلبة والكفاءات هذه صاحبة الفضل في إنشاء الاتحادات الطلابية أولاً ثم المراكز الإسلامية المتقدمة والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية واستقر الكثير منها بألمانيا نتيجة للأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية التي لم تغريها في الرجوع إلى بلادها الأصلية، بحيث يتواجد بألمانيا العديد من الأطباء العرب الأكفاء والمهندسين المتفوقين ورجال الأعمال الناجحين. ويتمتع الشباب العربي المقيم بألمانيا بمستوى ثقافي مرتفع ، حيث ساهم هؤلاء الشباب في بناء جل المؤسسات الطلابية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. فهم الكثير من هؤلاء الشباب لطبيعة وجودهم في المجتمع الألماني وضرورة التواصل مع أفراده وساهم الكثير منهم اليوم في جوانب الحياة المختلفة للمجتمع الألماني. استطاع العديد من هؤلاء الشباب المحافظة على هويتهم الإسلامية والثقافية والاندماج في نفس الوقت في المجتمع الأوروبي لكون ذلك الاندماج ضرورة لا بد منها ووسيلة في الخروج من العزلة عن المجتمع. إلا أنه في الآونة الأخيرة بدأت تظهر فئات من الشباب ذي الأفكار والآراء المتشددة أو بالأحرى المتطرفة الشيء الذي ينعكس سلبا على وضع المسلمين بأوربا ويشوه صورة الإسلام. جيل الشباب الجديد تعد الأجيال الجديدة من الشباب التي شبت وترعرعت بألمانيا جزءا لا يتجزأ من الجالية العربية المقيمة بألمانيا. تحمل الأغلبية من هؤلاء الشباب الجنسية الألمانية ويستشعر الكثير منهم أنهم أوربييون وطنا ومسلمون دينا. ويعتبر العديد من هؤلاء الشباب المجتمع الألماني مجتمعهم الذي لا بديل عنه ويفكر القليل منهم بالرجوع إلى بلد آبائهم ويساهمون بشكل فعال في أوجه الحياة المختلفة الاجتماعية الثقافية الاقتصادية والسياسية. إلا أنه هناك عدد من الشباب العرب الذين ابتعدوا عن دينهم أو حتى تركوه بسبب تأثرهم الخطير بآفات المجتمع الأوربي كالمخدرات والفساد والانحلال الخلقي. ...................................................... الصورة : مسجد بالعاصمة الالمانية برلين.