شقوق وتصدعات في الدعائم الأساسية تبدو واضحة للعيان، أتربة وأحجار تتهاوى للتو من أسقف منازل، لم تقو على الصمود بفعل عامل الرطوبة، التي اجتاحت كل جوانبها، واضطر سكانها لإخفاء معالم هذه التصدعات باستعمال الثوب، الذي لم يتحمل عبء الأتربة والأحجار المتراكمة. لا ماء ولا كهرباء ولا قنوات للصرف الصحي. أواني بلاستيكية متناثرة هنا وهناك. براميل لجلب المياه فارغة تتقاذفها القطط التي فضلت مشاركة وتقاسم ساكنة هذه المنازل همومها ومعاناتها بعدما ملأت بطونها برؤوس سمك السردين، التي تم جلبها من سوق السمك غير بعيد عن هذه المساكن بقلب المدينة القديمة. رائحة كريهة تزكم الأنوف، تنبعث من وسط فناء منزل وتشعرك بصداع ودوران في الرأس إلى درجة الغثيان. هكذا نعيش تصرح امرأة تجاوزت عقدها السادس لجريدة «الأحداث المغربية»، وتجاعيد الزمن حفرت وجهها، والدهر قوس ظهرها. تتكلم وعلامات الحزن والأسى بادية على محياها. «توفي زوجي منذ 3 عقود من الزمن وترك في عصمتي بنتا معاقة، أضطر إلى التسول بها في شوارع المدينة من أجل تأمين قوت عيشنا وآداء ثمن السومة الكرائية حتى لا تطردنا مالكة المحل، لقد كنت أشتغل من قبل في سوق الفحم الخشبي قبل أن تطاله جرافات السلطات المحلية من أجل تهيئة باب سيدي عبد الوهاب»، البنت المعاقة كانت جالسة في كرسي متحرك دون أن تهمس ولو بكلمة واحدة، ليست لأنها فضلت الصمت ولم ترغب في الحديث عن معاناتها، بل كونها لا تقدر على النطق أصلا، واختارت التعبير عن مأساتها بعينيها الغائرتين، تتمعن فيما يدور ويروج من حولها. الصعود إلى السكن العلوي، يكشف عن حالات أكثر حزنا وبؤسا، امرأة تعيش رفقة ابنها العاطل، الذي فضل السكوت مكتفيا بعبارة «ما كاين والو نهدرو ولا نسكتو فول فول»، قبل أن تنطلق والدته في الحديث، وهي تشير إلى سقف أحد البيوت الذي هوى تماما ولم تبق منه سوى بعض القضبان الحديدية، التي تآكلت بفعل الصدأ، قائلة «ننتظر اليوم التي تتهاوى على رؤوسنا ونتمنى أن لا يحصل ذلك ليلا حتى تتاح لنا الفرصة للهروب من جحيم دمار يحولنا لجثث». هكذا كانت تتكلم مي «هنية» لجريدة «الأحداث المغربية» بلغة راقية يبدو أنها امرأة مثقفة تتقن الحديث باللغة الفرنسية بشكل جيد، لكونها اشتغلت لسنين طويلة مع الفرنسيين الذين كانوا يقيمون بوجدة كخادمة في بيوتهم. «أعيش هنا في هذا المنزل الذي يعود للورثة رفقة ابني، الذي فضل الصمت وابنتي المطلقة رفقة طفليها، ننام في غرفة واحدة بعدما هوى سقف البيت الآخر، وتحول لمكان لرمي المتلاشيات بعدما صار دمارا، أشتغل كخادمة في البيوت من أجل إعالة ابني المريض الذي لا تسمح له صحته البدنية والعقلية بالاشتغال، وكذا إعالة ابنتي المطلقة وحفيدي أيضا»، قبل أن يقاطعها أحد أبناء الجيران وهو يحمل بين ذراعيه طفلا وسيما بين، قائ«لا أنظروا لهذا الملاك البريء لقد تخلت عنه أمه في وقت سابق منذ كان رضيعا وذهبت لوجهة غير معروفة، بسبب حمل غير شرعي، وظل يعيش بيننا كواحد منا، نهتم ونتعتني به جيدا رغم فقرنا وحاجتنا..». تسول ودعارة لكسب القوت ومكافحة المرض «نجاة» امرأة نحيلة الجسم في عقدها الخامس، دعتنا لمعاينة سكنها البئيس،«يا لاهو معايا تشوفو فين راني عايشة» عبارة رددتها بشكل مستمر. وهي تسعل، حيث كادت أن تختنق لكونها تعاني ضيقا في التنفس، ثم تنطلق في الحديث «أنا امرأة هجالة»، أعيش رفقة ابنتي التي خرجت للتو من زيجة فاشلة بعدما هجرها زوجها وترك في عصمتها طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها 4 سنوات ، أضطرللسعاية من أجل إعالة أسرتي وتأمين ثمن الدواء لكوني أعاني من عدة أمراض مزمنة. هكذا تعيش مجموعة من الأسر القاطنة في المنازل الآيلة للسقوط ما وراء أسوار المدينة القديمة، وما تختزله من معاناة ومآسي إنسانية حقيقية . فكل الأسر التي تحدثنا إليها في المدينة تبقى متخوفة من مصيرها التي تعتبره مجهولا، لكون الحلول االمقترحة عليهم من طرف الجهات المعنية غير مجدية وغير منصفة أيضا. يقولون أن لجنة مختلطة زارتهم في وقت سابق بعد عملية إحصائهم، حيث طالبتهم بإفراغ منازلهم لكونها لم تعد صالحة للسكن، وقد تتهاوى على رؤوسهم في أية لحظة، كما أنهم لا يملكون بديلا عن منازلهم الآيلة للسقوط التي يكترونها بصفة مشتركة مع آخرين، وحتى الوعود التي قدمت لهم من طرف الجهات المعنية في السابق من أجل الإستفادة من سكن لائق لم يتحقق منها شيء، بل في الوقت الذي عزموا على قبول هذه الحلول وجدوا أنفسهم عاجزين عن آداء مبلغ 9 ملايين سنتيم لفائدة شركة العمران مقابل الحصول على سكن لائق. وتجدر الإشارة إلى أن عدد المنازل الآيلة للسقوط في المدينة القديمة وباقي أرجاء وجدة وفق بعض المصادر تجاوزت 200 منزل تهدد حياة قاطنيها بشكل مستمر.