لم يكن سيدي إبراهيم المشيشي يعلم بأنه على موعد قريب مع القدر المحتوم، وهو يقرأ ويعيد قراءة مقالتنا عن "خاي علي" الذي اعتبرنا غيابه الأبدي ضربة موجعة لذاكرة دار الضمانة... ذاكرة لم تحض يوما بالتفاتة من أجل صيانتها وترميمها... ذاكرة نهش جسدها العليل كل من سنحت له فرصة الانقضاض والاعتداء عليها... وتشاء الصدف الماكرة أن يغيب عنا سيدي إبراهيم المشيشي في عز الحملة الانتخابية دون أن يتقدم ولا حزب واحد ببرنامج استعجالي لحماية الموروث المادي والرمزي لدار الضمانة... موروث يعتبر أغلى رأس مال تتوفر عليه المدينة، بواسطته تتواصل مع العالم ،وبمداده تبصم حضورها بين الشعوب. خبر غياب سيدي إبراهيم هز أركان المدينة، وتناقلته ألسن أبناء وزان حيث وجدوا في كل ربوع العالم من يصدق الخبر/ الفاجعة، والرجل ظل رفقة أصدقائه بمقهاه المفضلة التي كان يضع بها آخر اللمسات على كتاب كان يعتزم إصداره هذه الأيام، بعد أن أصدر واحدا حمل عنوان" قليل من كثير" وبسخريته المعهودة يعني هذا العنوان "أجي قولك ما كاين والو"....رجل عشق الثقافة حد الجنون، وسكنت الندوات والصالونات الثقافية نخاعه الشوكي....فها هي دار الشباب تبكي صاحب التدخلات المثيرة للجدل...أليس هو الذي خاطب الأستاذ فتح الله ولعلو سنة 1976 قائلا "لقد وصفت الاقتصاد الوطني بالمريض، وأنت الطبيب المتوفر على الدواء، فلماذا ترفض ولوج قاعة العمليات لانتشال الورم من الجسد العليل؟"وتدور الأيام،وتتعاقب العقود،ويعمل الأستاذ ولعلو بنصيحة سيدي إبراهيم...لكن هل حاصر الورم أم قضى عليه.؟..تلك قضية يجيب عنها الواقع المرير لشعبنا.... ولأن سيدي إبراهيم شخصية استثنائية في تاريخ وزان، ورجل المفارقات العجيبة، والتمرد على السلطة والارتماء في أحضانها في نفس الآن، فإنه لم يخجل يوما الجهر بانتمائه إلى ضفة المحافظين، بدفاعه المستميت عن الملكية التنفيذية وطقوسها العتيقة، ولكنه لم يكن يشعر براحته النفسية والفكرية إلا وهو بين معشر اليساريين !..ألم تشأ الصدف الماكرة بأن يكون آخر يساري ناقشه ونوه بحضوره المتميز، وبمداخلته النشاز أياما معدودة قبل الرحيل غيرا لأستاذ محمد الساسي الذي لم يصدق رحيله المفاجئ....فبكاه مطولا. وبما أن الرياح تمشي بما لا تشتهيه السفن، وبدل أن يلج أستاذنا عالم السخرية ويمتطي خشبة المسرح التي كان سيشكل حضوره فوقها قيمة فنية مضافة، فقد قذفته الأمواج العاتية وألقت به ضدا على إرادته بمهنة التدريس ! ولأن سيدي إبراهيم المشيشي ككل إنسان معرض في مسيرته الحياتية الطويلة للعديد من العثرات والكبوات، فإن إشراقا ته الجميلة وما أكثرها حجبت كل المناطق المعتمة في هذه المسيرة....إشراقات جعلت منه مؤثثيا استثنائيا لرقعة المدينة، ومنارة ترسل ضوءها على الذاكرة الثرية للمدينة. آخر دعوانا بعد الترحم على الفقيد"يا أبناء دار الضمانة باتقائكم الله في ذاكرة مدينتكم، تتقوه في مستقبلها وفي مستقبل أجيالها الصاعدة، وتتصالحوا مع تاريخها المشرق"