يوم الرّابع من أبريل 2010 ، تسلّل إلى بيت جبرا إبراهيم جبرا ( 1919 1994 ) ديناميت أعمى أو لعلّه ديناميت مُبصر ،و حرص بكراهية سوداء ، أن يُفجّر موته باهظ الأثر ، ليس في الدّم و إن كان ثمينا لا يُحتمل رثاؤه ، ليس في الحجر و إن كان لسانَ الذائقة و السّريرة الموغلتين في التاريخ الشخصي و في الجغرافيا القومية ، و إنّما كذلك في المداد و في الذاكرة و هو ، لعمري ، أبشع القتل و أشنع الخراب لأنّه يفتك بكلّ إرث الإنسانية العظيم . صحيح أنّ هذه الجريمة التي لا نعت لها جزء من لعبة الحرب و الرّبح بيتُ جبرا قريب من السّفارة المصرية التي كانت مرمى الموت المُعلن غير أنّ هذه اللّعبة المفزعة فجعتنا ، مرّة ثانية ، في شخصية لا مثيل لها لمّا كانت حيّة هُنا و لا شبيه لها لمّا صارت حيّة هنالك ؛ أقصد في اختلاجات قرّائه الحميميين في كلّ بقعة من هذا العالم الذي هو حزين اليوم إذ تلاشت منه قطع حيويّة من عمارة شعرية و سردية و تشكيلية لا ثمن لها . هذه التحفة المكتظة بالبراعة و الرّوعة و الدّهشة تهشّمت الآن بشكل لا يُطاق و تمزّقت بشكل لا يّصدّق و تراني أسأل نفسي هذا السّؤال الجارح : أكان جبرا و هو معلّم الحبّ و الجمال و الفنّ و الحداثة العليمة و إبداع النّقد و الحريّة و الرّؤيا و إشعاع الرّمز و التوهّج ... يستحق هذا المصير المُضاعف : أن يغيب جسدا ، و كلّ نفس ذائقة الموت ، و أن يغيب ذاكرة ، و كلّ فكرة عالقة بالدّيمومة ؟ قد يكون هذا التّواري صورة فاضحة لتواري فلسطين و العراق في ظلمة مُحتلّة ، لا ريب ، لكن لا مُبرّر لكي يكون جبرا بالذات و إسمه ، للمفارقة ، يعني في اللغة الآرامية الشدّة و القوّة طريدة سهلة للصّيد ، فكأنّ المطاردة التي انطلقت عام 1948 لم تتوقف ، و كأنّ الاقتلاع من الجذور لم يبدأ ! . قدر غريب ، سوريالي و تراجيدي . ما الذي ضاع و إلى الأبد من ذاك البيت المرهف ؟ أرشيف هائل ، بالغ الثراء ، مُؤرّخ يقظ لكلّ ثوران المُخيّلة و جريان الحبر و دوران الحياة و فوران القراءة و غليان الصّداقة و هذيان الجسد ... شديد التنوّع إلى درجة لا تُتخيّل : مكتبة لا نعلم أيّ كتب كانت مكدّسة على رفوفها و المكتبة ، لاشكّ ، تحكي تاريخ قارئها ، بل إنّها هي التي تخلقه و تُشكّله على صورتها . الكثير من الكتب ، بعد الآن تحت الحُطام ، مشهد مُوجع . و أقسى ما يُؤذي هو تلفُ المسودّات الأصلية لإنجاز جبرا الإبداعي في الرّواية و المقالة و القصيدة ؛ تصوّرْ مثلا أن لا يكون مُمكنا الاطلاع على مسودّة رواية مثل البحث عن وليد مسعود أو مسودّة ديوان كالمدار المُغلق أو مسودّة كتاب من طراز تأمّلات في بنيان مرمري أو مسودّة ترجمة من قيمة سونيتات شكسبير ... و أقصى ما يُؤلم هو إقبار أوراق كتبها جبرا و لم تحظ لها بعدُ بمطبعة ، هو إعدام أكثر من عشرة آلآف رسالة هي بمثابة حقل حرثته العديد من الأيدي و الغزير من الأفكار ، هو تمزّق ما لا يُحصى من الجرائد الثقافية القديمة التي قد لا نعثر لها على أثر . ما الذي تهشم و إلى الأبد في ذاك البيت العذب ؟ لوحات ، منحوتات ، تماثيل لأكبر صنّاع الخلود من طينة جواد سليم و شاكر حسن آل سعيد و ضياء العزّاوي و سعاد العطار و محمد غني حكمت و آخرين و آخرين ، و منهم جبرا نفسه ؛ ألمْ يكن واحدا من الرسّامين الماهرين أسلوبا و معرفة أكاديمية ؟ لكن ما يجرحُ أيضا و أيضا هو فقدان صور شخصية على قدر من الفرادة و تسجيلات صوتية و أشرطة فيديو تتضمّن العديد من محاضرات جبرا و لقاءاته الصحفية و هي ، لا جرم ، الصّوت الذي يهزم القبر و الصورة التي تتغلّب على الفناء . يبقى مصير الموسيقى يخز هو الآخر ، ليس لأنّها غاية الفنون جميعا كما كتب جبرا ، بل لأنّها غاية حياته من مبتدئها إلى منتهاها . ماذا كان يضع على مشغّل قديم للأسطوانات ؟ موسيقى باخ ، شوبان ، فيفالدي ، التراتيل المقدسية للمغنية الأوبرالية السيدة تانيا ناصر ، عزف البيانو للسيدة أغنس بشيبر ... و معزوفات أخرى من مختلف الهويّات و الأزمنة . كلّ هذا صمتَ الآن ، ليس لأنّ الأذن لم تعد موجودة ، بل لأنّها هي لم تعد موجودة . أيّة خسارة ! المشهد مُروّع لا يُحتمل خصوصا بالنسبة لقرّائه الأثيرين و أنا منهم الذين كان اكتشافهم لجبرا إبراهيم جبرا خلقا جديدا و مُدهشا لهم ، تعلّموا منه اللغة المُشعّة المُكتنفة بالأسرار و الرّؤى الشفافة بعيدة الغور و تمرين الإبداع المضني و تواضع السّنبلات المثقلات بالعطاء ... هناك شيء واحد لا أحد ربّما سيحرص على البحث عنه ، من بين الرّكام ، هو غليون جبرا . هذه القطعة البسيطة جدّا كَمْ تمنّيتُ أن لا تضيع ، و لجبرا مديح مُؤثر فيها ( الصفحة 146 من كتاب أقنعة الحقيقة و أقنعة الخيال ) و مع الغليون أدوات تحضير القهوة المقدسية التي ما كان يتنازل عن إعدادها لأصدقائه و زائريه ... و ماذا بعد ؟ قد نرفع أنقاض بيت جبرا ، قد نصون ما تبقى من آثار ، لكنّ الأكيد أنّ هذا المنجم المترع بالودائع الثمينة قد نُهب و اندثر كما همدت و خمدت روح « أمّ علي « ، المدبّرة للبيت ، في هذا القتل العبثي بقدر ما هو عاقل للآلته . كتب جبرا في كتابه « معايشة النّمرة « مقالة تقارب موضوع الميراث الذي يخلّفه المبدع و أهميّة صيانته و دراسته و قد حملت تلك المقالة عنوانا مُوحيا : لئلاّ تبقى الأوراق في مهبّ الرّيح ( ص 139 ) ، و حتما قد لا تكون خالجته البتّة رؤيا أنّ ذاكرته الشخصية و تاريخه الثقافي و فضاءه الاجتماعي ستكون يوما في مهبّ الإعصار ! السّلوى الوحيدة ، ربّما ، التي فضُلت لنا هي أن نحافظ على إرثه المكتوب المنشور و أن نُجدّد الكتابة عنه و أن نُحفز على العناية بذكراه . فقط تبقى العبرة المُستفادة من هذه الواقعة الفادحة هي ضرورة أن يهتم مبدعونا ، في مختلف حقول الكتابة و المعرفة ، بمآل تركتهم و أن يفكّروا في وسائل و طرائق تضمن استمرار رأسمالهم الرّمزي في التدفق ( أفكّر في أسماء وازنة كأدونيس و سعدي يوسف و جمال الغيطاني و محمد برادة و محمد بنيس و صبحي حديدي وإلياس خوري و آخرين و آخرين ، بل أفكّر أيضا في محمود درويش : من يعتني الآن بممتلكاته بدءا من أشيائه الشخصية و انتهاء بمسودّات شعره و نثره ؟ و هل هناك من يقوم بحراسة يقظة لهذه المجرّة من الحروف ، خلاف الإهمال الذي يلقيه ضريحه الذي أضحى « تتراكم فوقه بضعة أكياس من النايلون أو زجاجات عصير هنا أو هناك ... « ؟ جريدة الأخبار اللبنانية ليوم الثلاثاء 14 يوليوز 2009 ) . لا تحزنْ يا جبرا إبراهيم جبرا و لا تكُ في ضيق من هذا المحو العصي على المنايا ؛ إنّ قارئا واحدا لك في هذه الدّنيا يبرّر وجودك الأبدي في العالمين .