[email protected] النون هذا الصباح،أحس بضيق لم يعرف كيف يبرره. ربما لأن الأمور لم تسر معه كما يجب خلال هذا الأسبوع.. و ربما هو مجرد توهم، أو أضغاث واقع يملي عليه وعلينا أن نكون أحيانا فرائس لأفكار سوداء،في الصحو كما في النوم ،حتى حين يتهيأ لنا أن الأمور فرت من ثوانيها،أو أنها كذلك والسلام، و"حين تحس بأنك وحيد ومستوحش- مستشعرا المرارة- تعلم كيف تنصت لذاتك". لم يتعلم هذا الدرس من مدرس في المدرسة ، ولم يقرأه في كتاب، و لم يرضعه من ثدي أمه، لكنه تعلمه من هرة تعيش معه، أجل من هرته التي يقل مواؤها،لكن إرسال نفسها إلى سجيتها يصبح بالنسبة لها طقسا كلما تمددت قبالته فيما يشبه لوحة لا ينقصها سوى إطارها، هو يدرك أنه جزء منها لذلك يعلقها في داخله دوما، الناس، بالنسبة إليه،لم يعد يرون، لذلك لا جدوى من تعليق اللوحات في الصالونات .. ولقد قيل:"إن الرجل الوحيد هو الرجل القوي".لكن ما أكثر ما قيل، ثم ماذا يملك المرء غير القول؟ ، وحتى حين يصمت كثيرا، فلو يدرون كم يتحدث مع نفسه في مونولوج داخلي فيه إرسال لنفسه- كما هرته- على سجيتها. "الرجل الوحيد هو الرجل القوي" لم يعد يتذكر أين قرأ مثل هذا الكلام، ولا أي غبي نقله عنه.. فقط ما يعرفه هو أنه هو وحيد ولكنه ليس قويا، يداه واهنتان، لم تعدا صالحتين حتى أن تربتا على كتف حبيب..ثم أين هو هذا الحبيب؟ إذ لم يعد له في هذه الدنيا سوى اسمه الذي يظل أياما طوال ولا أحد يناديه به.. ما جدوى الأسماء حين نعدم من يستعملها، في النداء على الأقل.هو وهرته وجهان يبكيان، هي تتمسد به، وهو يحدثها ويبثها شكواه، ويرتاح تماما حين يفعل، يشبه بطل تشيكوف الذي أحس بالراحة حين تحدث إلى حصانه عن موت ابنه.. في غرفته حيث يضيع بين أشيائه القليلة لا ينقذه من التيه سوى تلفزة صغيرة من نوع فليبس ( حتى التجهيزات أصبحت لها أسماء، وبسببها هي غالية جدا إذا ما قورنت بإنسان اليوم، فلو يدركون كم هو رخيص).. جهاز التحكم عن بعد في يده ينافس السيجارة التي يصبح شكلها في فمه مثل إشالة فوق حرف الظاء يرسمها طفل أعسر يتعلم الكتابة، وحين عليه أن يتنقل بين القنوات بنوع من الروتين ليس إلا- كمن يبحث عن شيء ما- السيجارة في دمه تقوم بالدور نفسه، في صدره تمور وتمور، ثم تخرج دخانا يملأ الغرفة.. و يصبح لرائحتها الممزوجة من عرقه، وثيابه الوسخة، وبطانيته العطنة.. تلك الرائحة التي لا تعني سواه، بها يعرف نفسه، ولا أحد يعرفه لا باسمه، ولا برائحته. قيل له يوما : لم لا تتزوج، وتكمل دينك؟ أجابهم: أحمق من يتزوج في زمن العولمة، وأكثر حمقا من ينجب أولادا. أضاف: أنا الابن الذي لم ينجبه الشاعر العربي المعري. الألف في إحدى مقاهي مدينة الناظور يجلسان وجها لوجه كما في "أستوديو" للتصوير في ذلك الزمن الذي يسمونه جميلا، وفوق الطاولة كأسان، ومنضدة، وعلبة " تييمبو"، حولهما الرواد موزعين بشكل عشوائي، والنادل ينط بينهم بنشاط غريب موزعا ابتسامته الصفراء. قال أحدهما مشيرا إلى النادل: - من يعرفه يجزم بأنه لا يعرف إلا أن يفتح فمه إما مبتسما أو عارضا طلب الرواد بصوت مسموع. أجابه الآخر: - دعك منه، ثم قل لي: أوليس واقعنا نكتة لا ينفع معها سوى الابتسام أو القهقهة المجانية. - أنت كعادتك، لا ترتاح إلا لفلسفة الزلط والخردة.. ما أدراه هو بما تهرف به. ضحكا معا حين رأيا النادل يبسم لهما..و حين تعقباه بالنظر وقف كما الزيزفون ثم حط المطلوب فوق طاولة قبالتهما، وآخر ما التقطت أذناهما هو تعليق أحدهم موجها كلامه لجليسه: - مقهى جديدة اسمها فانكوڤن رست بمحاذاة شارع "طومعتيش"، يقال إنها مخملية،وخطيرة.. وهناك أيضا داوليز.. وأخرى في طور الانجاز... المقاهي تتناسل في الناظور.. مدينتنا تتغير. وحين مر النادل بصاحب فلسفة الزلط والخردة علق الفيلسوف على ما سمع مجبرا النادل على أن يسمعه: - أرأيت، أهلنا يرتشفون شايهم ، ويحصون المقاهي الجديدة بنوع من التباهي المجاني.. وماذا في ذلك يا صاحبي.( قالها النادل دون أن يتوقف عن الحركة). - فيه أن الذهنيات عندنا لم تتغير...إحصاء المقاهي؟ هذه وتلك...اللعنة... فلينظروا إلى الفقر في شوارع المدينة، وإلى غلاء المعيشة ، وإلى العاطلين فيها، وإلى الأسر المعوزة، وإلى البناء العشوائي... ودون أن يسمع النادل كل الكلام انتبه لجليس جديد، وقصده قائلا: - "أروبيو" ( أَنَغْ).. بِمَ أخدمك ؟ لم يكن هذا الروبيو( نَسْ) سوى شاب أسود كغيني تماما. الضاد "الناظور مدينة جميلة،الناظور مدينة غير جميلة" قد نختلف في جمال الناظورأو قبحها،ولكننا لن نختلف أبدا في أنها مدينة ثرية جدا، الأغنياء فيها كثر يتناسلون كما الإشاعات ، وتترهل بطونهم، و تفرع مؤخراتهم بشكل لافت.. ولعلها المدينة الوحيدة في مملكتنا السعيدة التي لا يمكن فيها للموظف ، مهما كان راتبه سمينا،أن يساير طبيعة العيش في مواجهة أخطبوط الغلاء ،و في جميع الصُعُد،وحين يكون على رب الأسرة أن يتبضع لأفواه جائعة تنتظره في البيت يكون مجبرا على دفع ما يؤديه الأغنياء، إذ لا مجال في الناظور للاختيار، ففي كل الأمكنة الثمن واحد وقار، و لا فرق بين فقير وغني كما هي الحال في بقية المدن ،أجل في الناظور، هنا كما هناك ،الأمر سيان (أَمْ حَمّو أم رَمّو). ببساطة لأن الدرهم، في صرة الأغنياء، يمر عليها وهو منطلق،لذلك ترى أعناقهم تكبر أن تُطالا، و الفقراء لا يطيقون لهم عنادا. وعملية التبضع عند أغنياء الناظور لا تتم جزء جزء، إنما هم لا يرضون إلا بالكل/ الكثرة، أما الجزء فهو بمعنى الفتات، هو لغيرهم وليس لهم ..يفعلون ذلك ليس عن جوع إنما عن أمر يصدره جهزاهم "الجيبي" لإبطال الألم الناشئ عن توهم مرضي من أن تُفقد البضاعة غدا ربما ..لذلك يصبح التبضع بكثرة نوعا من الوسواس القهري الخبزي إن صح تعبيري. داخل مجزرة حديثة أخذ (ض) مكانه بين الناس ينتظر دوره، هاله حال الجزار وهو يشحذ سكينا بينما عينه على ساطور موضوع على سندان خشبي.. المكان تزكم الأنوفَ فيه روائحُ اللحم والشحم، الطلبات تنطلق من أفواه عديدة بين طالب أربعة كيلوغرامات لحم بقر، ومثلها لحم مفروم،وبين من يطلب أكثر من ذلك... أحس عرقا خفيفا يسيل على قفاه بدل وجهه، وحين جاء دوره، قال له الجزار بحدة: - أأمرني.. قال بحزم : - نصف كيلو غرام لحم بقر رجاءً. نظر إليه الجزار شزرا وهو يشحذ سكينا علق برأسه بعض لُحَيْمات صغيرة، وحين أدار ظهره هامّا بجز اللحم المطلوب جاءه صوت من أحد الحاضرين حرص صاحبه أن يكون مسموعا: - لك أن تجعل طلب السيد كليغراما بدل نصفه.. وعلى حسابي.. (الرجل رغب فيما يرضيه، والنصف لا يترجم بالضرورة بخلا أو عوزا، على اعتبار أنه هو ابن مدينة أو هكذا يعتبر نفسه، وطلب اليوم، بالنسبة إليه، سينسخه الغد حتما ، دائما حسب الطلب أوالرغبة.. لكن الرجل الآخر، بما أوتي من حكمة ربما، ظن أن الطلب قليل والرجل محتاج، ولا بأس من صدقة جارية بجعل نصف اللحم كيلوغراما). وبسبب هذا التصرف الأرعن عرت صاحبَنا قشعريرةٌ من طراز ريفي رفيع جعلته ينتفض كما الثور يلمح ملاءة حمراء، صرخ في وجه"الكريم": - إلى الجحيم كرمك..من تظن نفسك أيها الجاهل النكرة..أنا رغبت في النصف ليس بخلا، لي من المال ما يكفي لشراء ذمتك حتى،..تفكرون بجيوبكم...اللعنة. "اللعنة" كانت آخر كلمة ينطق بها وهو يخرج دون طلبه كله، أونصفه.. والحق أنه قال ما قال كله باللغة الريفية مما أضفى على المشهد مسحة دهشة، أعقبها صمت طويل..كم دام؟ لا يهم، ولكن التنهد الذي صدر من الصدور كسره و قال كل شيء. أما "الكريم"، فمن حسن حظ الحاضرين أنه لم يعقب كما لو بلع لسانه، وإن اكتفى بالنظر إلى محدثه دهشا دون أن ينبس ببنت شفة..من يدري ، لو تكلم، أوردّ قد تكون العواقب وخيمة، والمجزرة هي أسوأ مكان للخصام، بالأيدي خاصة، هي حتما لن تُترك عزلاء في وجود السكاكين، والسواطير، بل وحتى العظام. الكرم حين لا يكون في محله لا يعني شيئا سوى الإعلان عن بذخ يريده صاحبه إشهارا لا ينقصه سوى الكاميرا الخفية في إخراج بليد. الواو. " أيتها المدينة تبكي في زواياها النساءُ ويبصق الرجالُ حقدا على الأرصفة، والتحية يلفظونها كالشتيمة". جبرا إبراهيم جبرا كثيرون لا يجدون حرجا في أن يتنخموا في شوارع مدينتهم بشكل مرضي، وعلى الهواء مباشرة، بعضهم يفعل ذلك نكاية بزمن لم ينصفه، وآخرون تعودا البصق ليس إلاّ، في الأول حصل ذلك معهم سهوا،ثم رغبة جامحة، وأخيرا احترفوا التنخيم مشاة،و قعودا، في الشوارع، والمقاهي، والأماكن العمومية... و تكفي جولة واحدة، في شوارع الناظور، وغيرها من المدن ليقف المرء على هذه الظاهرة العجيبة،و نحن في النهاية بشر ولسنا ملائكة، والإنسان حين يكون وحيدا، في غياب الرقيب من حقه أن يتنخم ، وينكش أنفه، ويضرط ...وهذه كلها خصائص إنسانية طبيعية مشتركة بين بني آدم، وهذا مفهوم ومستساغ، ولكن حين يفعل ذلك أمام الملأ فهذا اسمه تصرف حيواني غير عاقل. بعضهم لا يجد حرجا في أن يشرب من ماء "مبارك" بعد أن يبصق فيه طبيبهم الشعبي و"العشبي" معا، ولعل اليأس هو ما يدفع البعض إلى ابتلاع ماء يعرف مسبقا بأنه دنس .. ولكنه إذا كان سيؤدي الغرض ويشفي من مرض عضال لم ينفع معه دواء، فلا بأس من شربه وحتى ابتلاع ريق الآخرين بدعوى البركة ممن يعتبرون أنفسهم أولياء في الأرض، ومحظي من يشرب من بصقهم ، وملعون من يجادل في بركة تنخيمهم. مرضانا يدركون أن وجع ساعة خير كل ساعة لذلك لا حرج لديهم في ذلك، لكن التعلم في كل ساعة هو السبيل الوحيد لإدراك الأشياء على حقيقتها، على الأقل في المعارف الحياتية الأولية. الراء قديما كان إنسان الصحراء- والدنيا كانت كلها صحراء- يمتطي دابته، ولا يكاد ينزل، ينتقل، كقطع الشطرنج، من مكان لآخر،له من الألفة مع الأمكنة ما يجعله منسجما مع واقع صعب لكن محتمل.. الفضاء، الليل، النجوم، السحر،الندى، الطيور.. أشياء حية يعانقها حبا وهياما، يعيشها، يتلمسها،تملأ كيانه، وتمده بطاقة هو في حاجة إليه،أكثر من ذلك كان الليل ، لوحده، عالما جميلا ينثال المرء فيه كما الأرنب انثيالا، يهتدي بنجمه، ويسهر ليله، هو السكن مها طال أو قصر..واليوم الزمن غير الزمن، كل شيء فيه مقلوب، الليل مثلا ما عاد أحد يتمتع بجماله، وحضوره، ببساطة لأننا، بالكهرباء، أقصيناه، فلم نعد نعرف سوى النهار. أجدادنا كانوا يسهرون على ضوء الشموع، وعلى " ثيحوجا نتوافيت" في جو حميمي مخملي، أما صغارنا، ففي حضن الجدات يستمتعون بحكايات جميلة عن نونجا و، وثامزا.. تُروى لهم بلغة ريفية جميلة، وبديعة.. الجلسات كانت حميمية، والأسر كانت فعلا خلايا، ، الكل منصهر، و(أنا) ضمير ما كان يعني سوى (نحن). اليوم الآباء ما عادوا يجلسون مع صغارهم،تعطلت لغة الكلام فيما بينهم ،ينتفي الحوار معهم ومع غيرهم بتاتا، الأطفال منشغلون، بل غارقون في الشات عبر غرف الدردشة، ومنصهرون في الفيس- بوك، وحتى حين يضطر المراهق للكلام مع أبيه، قد يهاتفه من غرفة إلى أخرى في نفس البيت، والأب من جهته يجاريه، ويسمع له،رغم أن الفاصل بينهما هو مد اليد؛والجدات حائرات ماعدن يجدن إلى جنبهن لا الحفيد ، ولا أباه.. مما ولد لدينا نوعا خاصا من الجدات، متأقلمات مع الوضع، فلا يكون التعويض لديهن سوى المسلسلات، أما التسبيح، والأذكار فعُوضت بكلام منساب عبر هاتف "فُوني"، لا ينتهي أبدا في الليل كله. والجار كلمة موجودة في المعاجم فقط ،وفي الأحاديث النبوية الشريفة لمجرد الاستهلاك الشفوي، والبيت المجاور ماهو سوى كوم أحجار لا علاقة لأصحابه بمن يحيط به، لا شرقا، ولا شمالا، لا غربا، ولا جنوبا، وحين يغلق المرء الباب دونه لا أحد يدقه، ويصبح الطرق على الأبواب، في زمن اليوتوب،ليس حماقة فقط بل عيبا..و تبادل الزيارات، وصلة الأرحام صارت موضة قديمة،إذ يكفي للهاتف المحمول أن يؤدي غرض السؤال، ولا وقت لأحد من أجل أن يتجشم تعب قطع المسافة مهما كانت صغيرة لتفقد حبيب، أو صديق..اتصالات المغرب تعي هذا جيدا،وتعمل له ألف حساب، لذا هي منكبة دوما على ضخ الزائد في الهواتف، الهدف عندها إنساني بحت، ولِمَ لا صدقة جارية.. فكلمة (ألو) تقدم وجبات تواصلية فورية، وبها وعبر الأثير يتواصل الأحبة، أما عبارة: "لا ينقصنا سوى النظر في وجهكم العزيز" فولّت مع الرسائل التقليدية، لذلك أغلب الأسر لا يهمها النظر في الوجوه بقدر ما هي مهتمة بما هو فوري في كل مجالات الحياة، فليس في الوقت متسع لا لزيارة الأحباب ، ولا لكتابة رسائل لهم، ولا للنظر في الوجوه العزيزة.. بهذا يصبح الهاتف سببا في تدهور العلاقات الأسرية وتفككها، فكم من لقاء أثيري بين الأحبة أقصته كلمة ألو، وكم من أياد كانت من تماس لن تتصافح أو تربت على أكتاف الأحبة في عناق حار وحميمي،وكم من أذرع حيرت أصحابها حين لم يجدوا أين يلقونها ؛ لسان حال التكنولوجيين يجمع : " بالهاتف، ومن بعيد، وحتى من قريب، نعبر لكم عن حبنا، لكننا لا نرغب في رؤيتكم،فنوكيا، أو أي هاتف آخرينوب عنكم، ويكفي صوتكم ليقوم مقام النظر في وجهكم العزيز". اسمعوا مني هذه، ودعونا بعد ذلك نفكر معا : "شاب قر قراره على أن يتمم دينه،اختار فتاة اقتنع بها، وليختصر الطريق اتصل بأخيها( كان هذا دوما خارج بيتهم)، وليعرض عليه طلبه قال له: - قصدي شريف ، أطلب يد شقيقتكم على سنة الله ورسوله. رد الآخر: - آه أنت تقصد فلانة.. والله أنا ألمح فتاة في بيتنا،و لكني لا أدري هل هي لا تزال موجودة،أم لا.. والله لا أعرف". قولوا أنتم هل يوجد شقيق في الدنيا يجهل ما إذا كانت أخته في البيت أولا ، وهل تزوجت، أولا.. لا تستغربوا، ما خفي أعظم، إليكم مثال آخر: "قصدنا أحدهم في الإدارة يسأل عن نتائج ابنته المدرسية، وحين سألناه عن مستواها الدراسي لم يفدنا في شيء، ببساطة كان يجهل تماما مستواها وهو الموظف، المثقف ،والمتنور.. وحين استعرضنا كل الملفات، في كل المستويات، لم يكن يخيفني شيء أكثر من أن يكون جاهلا حتى لاسمها". هذا زماننا فلم نعيبه إذا كان العيب فينا..لم نتحسر على ما سببنا في خسارته. بكلمة: الأسر تفككت، والمبادئ صار لها لونا آخر غير الذي تربينا على تبنيها، والعمل بها، وآخر ما يمكن أن يخطر على بال هو بناء القيم في زمن التكنولوجيا الحديثة،زمنٍ يحرص فيه الاستعمار الجديد على القضاء على هويتنا، وأصالتنا بسلاح العولمة. الكاتب الألماني أوزفالد في كتابه القيم " تدهور الحضارة الغربية" وجه انتقادا لاذعا للتكنولوجيا، وذهب إلى أن الإسراف في تعاطيها من العوامل التي تدمر المشاعر الإنسانية التي يمكن أن تجمعنا تاريخيا،جغرافيا، وحياتيا. فوضى الحروف ( الراء→ الواو → الضاد→الألف → النون) قد لا تكون الناظور أجمل المدن، وهناك حتما مدن، في مملكتنا، وفي العالم أجمل منها، لكننا في الناظور ، كما في المرآة نرى فيها أنفسنا، ويرانا فيها غيرنا، إنها امتداد لنا، والجذر الذي انحدرنا منه .وحين نحب مدننا نزداد قناعة بأن الحياة تعني الكثير، وحين نغار على أهلنا- وحتى حين ننقدهم- نكتشف أن الأشياء وضعت في أماكنها المناسبة، بل أكثر من ذلك نحس بأن الدنيا كلها تصبح أكثر انسجاما رغم الفوضى العارمة. وحين نقتنع بأن مدننا، عزيزة حتى حين تجور علينا كما يقول الشاعر، أدركنا خبث طوية بعض أبناء مدننا حين يتنكرون لها، ولأهلها. العالم الآن قرية صغيرة، له نافذة واحدة كبيرة، ومنها تندلق الرؤوس وتطل، يرسل أصحابها العيون للتملي أولا فيما يقع،ثم للملاحظة والمقارنة ثانيا، ولإصدار أحكام قيمة ثالثا.. ولعل الملاحظة الأولى التي نسجل- ونحن نطل معهم و نرى أين وصلت إليه مدنُ غيرنا- وهي أن القائمين على أمورنا في مدننا أجلاف، وهم إما عُميان لا يرون ما يحدث في العالم، ولا يدركون سيرورة التاريخ عن جهل، أوهم ، أصلا ضد هذا الانفتاح على العالم لأنه يكشف قدرا كبيرا من وضاعتهم مقابل الخدمات التي يقدمها الآخرون كرمى لمدنهم، وبلدانهم.