[email protected] قرأت، منذ مدة، في جريدة، أو مجلة ، خبرا مثيرا أوردته قصاصة يدعو فيها صاحب الخبر إلي تخصيص مقابر لأشهر الشخصيات الروائية مع كتابة أسمائهم على الشاهد حتى يتمكن محبوهم من زيارتهم ، والترحم عليهم؛ القصاصة ، في الواقع أثارت ، في داخلي، نوعا من التوق استشعرت بسببه ألفة حميمية طالما ربطتها مع أبطال مشاهير لكتاب أفلحوا في أن يخلقوا منهم شخصيات من دم ولحم، تعيش، وتتحرك ، وتفرح، وتتألم كما يفعل أيها الناس العاديون؛ من منا مثلا ينسى جان فالجو لفيكتور هيجو، أو سي السيد لنجيب محفوظ، أو هاملت، ومكبث لشكسبير الشاعر الانجليزي العظيم ، أو الطروسي لأديب البحر حنا مينة، أو زينب لحسين هيكل، وزوربا من لا يعرفه أولم يسمع عنه، ومن لم يقرأ عن أخاب بطل "موبي ديك" من المؤكد شاهد الفيلم المأخوذ عن العمل الرائع لهرمان ميلفل.. وتئيض الواوات لأبطال ليست من ورق ، لكن من لحم ودم ،صارت بهوس الفن الروائي، أو المسرحي تعيش معنا، بل وهناك من يقسم بها حين يريد تأكيد ما يراه حقيقة لا مناص عليها. والحق أن اللائحة طويلة ولا يسعني المجال لذكرها جميعا..ولكني أقول بأن هذه الانتاجات حين حٌولت إلى أعمال سينمائية بصمتها هذه الشخصيات أكثر بعد أن أضافوا إليها الأضواء الكاشفة، وتقنيات الأفلام السينمائية، فزادتها ألقا، ثم عاشت في قلوب محبي الأدب والفن السابع.. وها نحن نقرأ الآن عن بعض المخلصين لهم، يدعون جادين لتخليدهم أكثر. الأم في ثلاثية نجيب محفوظ لا يمكن أن تكون إلا أمنا جميعا، ومن لم تكن أمه خرج بانطباع يقول بأن أمينه( اسم الأم البطلة) تشبه الجارة فلانة، أوأم الجار فلان.. أريد أن هذه الشخصيات عاشت لأنها "حية" كما يقول منظرو الرواية، ليس بمعنى ثنائية الموت والحياة، بل لأن لها أمثلة في الواقع دون مساحيق، تأتي أفعالا لا تتجاوز بها ماهو واقعي معيش، بل تتصرف كما في الحياة يفعل أغلب الناس العاديون. لمثل هذه الشخصيات ارتفع صوت الداعي لتخصيص مقابر لها؛ الفكرة ، من حيث الموضوع قد تكون مستساغة عند البعض، وإن كانت غريبة عجيبة، على الأقل في نظري كما سأوضح تاليا. أريد أن أؤكد أولا بأن من دعا لمثل هذا الاقتراح ليس عربيا ، ولا مسلما، ولا حتى أمازيغيا، ببساطة لأن هؤلاء لهم قصصهم، في بلدانهم، مع أحيائهم الذين يعانون ألوانا شتى من القمع، والتهميش،والعنصرية ، والرفض...غدوا، بما أٌنزل بهم، و يُنزل من تهميش، أبطالا لروايات حقيقية، نسجت علاقات أسطورية مع الأمكنة والفضاءات كتازمامرت في زمن الرصاص "البصري".. هؤلاء دٌفنوا أحياء.. أما الذين حٌسبوا ،في الخارج أو عٌدٌّوا كذلك تجاوزا،فلم يكن وضعهم أحسن سوى أن مجال تحركهم أوسع إذا شئنا المقارنة، أما العذاب فواحد وإن تعددت أسبابه، وكذا أمكنته، ومهما تغيرت سحنات وجوه الجلادين فإن السوط واحد قٌدّ من قاموس واحد، واضعه كان يحرص الحرص كله على تيمة"الألم" متفننا في مترادفاته... ترى – وهذا سؤال مشروع- هل أدرك هؤلاء مدى مبلغ ألم الأبرياء حين كانوا يتفننون في تعذيبهم ،كما كانوا يهيمون عشقا في سماع آهاتهم الدالة على بقايا الإنسان الذي آلوا إليه، ليس ذلك وحسب، إنما كانوا لا يتوانون في تجريده من كيانه، في احترافية متقنة نالوا بها نياشين تٌعلق عل صدور بداخلها قلوب نووية. أنْ تٌخصص مقابر لأبطال روائية دعوة لن تجد لها أذانا مٌصغية عندنا لأن منازل الفقراء عندنا، إن وجدت،ما تكون سوى مقابر ، أوهي كالمقابر، وكالجحور..بل بعضهم يسكن في المراحيض، وآخرون في العراء، وغيرهم في الغابات... ثم ما الداعي؟ إذا كان هو الترحم؟ فنحن نترحم على أنفسنا يوميا، نترحم على حظنا المنكود العاثر، وعلى كل شيء،نفعل ذلك ونحن نتعايش مع أحياء بلدنا من الغيلان والسعالي، وآكلي السحت،وهاضمي الحقوق، ومستحوذين على الخيرات لا لشيء سوى أنهم في موقع القرار أو لأن دماءهم ليس حمراء قانية كالتي تسري في شراييننا، دماؤهم مختلطة مع الأوراق النقدية الزرقاء، ومع النبتة الخضراء لتصنع كوكتيلا من بشر، كما البقر يمشي،وكالحمير تفكر،لكن كالذئاب تترصد..،من يتعايش مع هؤلاء هو بصراحة بطل؛أما إن كان الداعي هو زيارة أمكنتهم فعندنا لا أحد يزور منازل من هذا النوع من صلف، وكبرياء، وعجرفة. من دعا لتخصيص مقابر لهؤلاء مصاب بما أسميه "التخمة الحقوقية"،بينما عندنا تٌكرس تٌخمة من نوع آخر همها هدم الإنسان وليس بناءه. الحقوق عندهم مصونة، بدء من الحق في سكن لائق ، والعيش في بيئة سليمة.. وانتهاء باحترام كيان مواطنيهم، وممتلكاتهم، وقيمهم... ،البون شاسع بيننا وبينهم ،هم بما راكموه من تخمة في الحقوق لم يفضٌل لهم سوى تصفح ذواتهم، والتفكير في أشاء غريبة لا علاقة لها بالواقع المعيش نحو تخصيص مقابر للأبطال الروائية والأعمال المسرحية الخالدة. عندنا لا زالت اللقمة تشغلنا، وأكثرنا لا ينام لأن أفواها جائعة عدة في البيوت تظل مفتوحة طوال الأسبوع ،والشهر ، والسنة؛واللحم ، في بعض المناطق المحسوبة على "أحسن بلد في العالم"،لازال عندهم من رابع المستحيلات،أما السكن كيفما كان، لا يهم أن يكون اقتصاديا، أو لائقا، بل الأهم أن يحضن الأولاد، فيكفي أن يمشي الناس في الشوارع متطلعين إلى فوق، يوزعون نظرات مكسورة حول البنايات الشاهقة، والفيلات المترامية...حسبهم مجرد النظر، وإذا كان " الشوف ما يبرد الجوف" قد يبرد "الغدايد" في كل الأحوال. السكن الاقتصادي لا نصيب له من اسمه في بلادنا لأنه بدل أن يتركوا المجال مفتوحا أمام المحتاجين، وذوي الدخل الضعيف، للاستفادة منه، نجد أن أباطرة السماسرة الكبار هم الذين يتكالبون عليه في ماراتون محموم.(زد الشحمة ف.... المعلوف)، أما من يعدم مجرد كسرة خبز فتكفيه الأماني، ثم هو متعود- في نظرهم- على الكفاف فأن يعدم سكنا لن يزيد من همه شيئا أو ينقص.سبحان الله. أن تخصص مقابر للأبطال الروائية من أجل الترحم عليها، عندنا ،فكرة ليست مرفوضة فقط، بل من الوقاحة مجرد التفكير فيها، ليس لأننا لا نملك ذوقا أدبيا، أو نحن ضد ما أضافته هذه الشخصيات الأدبية من قيمة أدبية، بها استطاع مبدعونا أن يلفتونا إلى الأشياء من حولنا، وبها غمرونا بالحماسة، ومن صمودها استمددنا القوة لمواجهة صراعنا مع الحياة. هي - أعترف- شخصيات لمبدعين أعتبر أعمالهم مثل صابون القلوب، بقيمتها الفنية غسلتنا من الداخل، فجعلت ذواتنا ترق،وقلوبنا تجد لها كوة منها تنفذ شمس الحريات، بعد أن تنقشع الغيوم والسحب. هي شخصيات أعادت صياغتنا حقيقة حين منحتنا الرؤية بآمالنا، ومشاكلنا ، وانكساراتنا... ورغم كل هذا ففكرة الترحم عليها في مقابر مخصصة لها أجدها "فانطزية" إلى أبعد الحدود، فبدلا من التفكير في هذا أليس من الأجدر أن نهتم بالأحياء من أبطالنا..هم ، لمجرد قدرتهم تقبل وضعهم، والاكتفاء بالتنفس في بلدان عربية موبوءة، ومدنسة، وغير متجانسة، أبطال أبطال والله. عندنا، الناس لا يرون إلا ما يريدون،عمال النظافة مثلا، من حولنا يزيلون عنا مزابلنا، ولا أحد يهتم بهم، يمر بهم الناس ولا يرونهم، أبناء مدننا، وعروبتنا لا يرون إلا ما يريدون ،ووقت ما يريدون، ومتى توفر الحافز الذي غالبا ما يدغدغ لا الحواس بل الجيوب، حواس هؤلاء تعاني فوضى عارمة، لا تنتظم إلا للأنا الضخمة، أوللمصلحة ؛وحين يختارون شخصية السنة- الطامة الكبرى- لا أحد يدرج اسما واحدا من هؤلاء، أو من بقية قائمة المعذبين في الأرض رغم الدور الهام الذي يؤديه أغلبهم في استغلال بشع خدمة لنا وللمدينة التي تنام ملء جوارحها دون أن تنتبه لشوارعها التي تمتلئ بفضلات أغنيائنا، وتنوء تحت أكوام من القاذورات.. وحدهم المشردون، والفقراء تجدهم يربطون ألفة مع مزابل تغدو،بالنسبة لهم موائد،( إيه، يا زمن، ما نفع ضمادة لمن ينزف حتى الموت )..أفي الحق أن نفكر في أبطال الروايات لتخليدها من تخمة أم هؤلاء أولى بالاهتمام من جوع؟. حين كنت صغيرا قرأت قصة للكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي جسد فيها فكرة التناقض الصارخ بين الناس في مجتمعاتنا من خلال شخصين، الأول يموت بالتخمة،والثاني من الجوع.. قصة الكاتب تنتهي بموتهما. والمعنى هنا هولو منح الأول للثاني ما فضل له من زيادة لعاشا معا. لكن نحن في البلدان العربية، تكافؤ الفرص، والمساواة، وغيرها من المصطلحات الفضفاضة مثل سروال رجل مكتنز لحما وشحما ويلبسه طفل جائع هزيل، هذه المصطلحات تتناطح، مثل البالونات في الهواء، تٌنفخ بمهارة وفي المناسبات فقط.. نحن في هذا ليس منا نسختان، نحن فقط، ماركة مسجلة شعارها يرفعه لصوصنا من صلف، مكتوب عليه: "أيها المعذبون الذين يعيشون بيننا،الأرض لنا، والهواء لنا، والطعام لنا فلم تحسدوننا، عاندوا من تستطيعون لهم عنادا" . هم في هذا مثل العنقاء يطول عنقها، ولا من يخاتلها بغية صيدها..من يجرؤ على أباطرة الفساد هؤلاء ، حَسْبٌ المعذبين منا الركون وتقبل فكرة التنفس معهم ما دام نصيبهم هو مجرد الفتات. في ليبيا، ورد في الكتاب الأخضر، أن المنزل لمن يسكنه، إما أن تسكن أنت أو تترك غيرك يفعل،أما أن تراكمها وغيرك في العراء فهذا اسمه المنكر يجب محاربته، عندنا تجد من يملك عدة منازل ولا يسكنها.. السكن الاقتصادي مثلا من استفاد منه غير الأثرياء الذين يعرفون كيف يقتصدون حقا حين يسطون على حقوق الآخرين في استيلاء مكشوف لكن مدعوم. البسطاء منا هم من يستحق أن نلتفت لهم، ونفكر معهم، ونشاطرهم أحزانهم، ونمد لهم العون بسبب قصر أياديهم...هؤلاء هم أبطالنا الحقيقيون ابحثوا عنهم لتعرفوا ما آلت إليه أوضاعهم.. السكن غر اللائق بيتهم بل قبرهم، وأباطرة الفساد رمسهم، وسارقو أموال الدولة دٌودٌهم.