السيارة المفخخة كانت تستهدف مقر السفارة المصرية بشارع الأميرات ببغداد؛إلا أنها انحرفت عن اتجاهها فاستقرت في البناية المجاورة حيث صبت سعيرها وحممها. ثم سرعان ماانجلت أعمدة الدخان والغبار عن فاجعة تنضاف إلى سلسلة الفواجع التي ظلت تنزل ببلاد الرافدين من دون انقطاع. فقد جاء في تفاصيل الخبر أن البناية المدمرة هي بيت الأديب جبرا إبراهيم جبرا: القاص والروائي والرسام والشاعر والمترجم والناقد التشكيلي. يحكي جبرا في كتابه "شارع الأميرات" ، الذي هو عبارة عن فصول من سيرته الذاتية، كيف أغرم بهذا الشارع في الخمسينيات من القرن الماضي، وكيف اقتنى فيه قطعة أرضية بنى فوقها بيتا لأسرته، وكيف رسم له، بنفسه، تصميما يستجيب لرغباته وامكاناته المادية. أقام جبرا في هذا البيت من سنة 1962 حتى وفاته سنة1994.ولنا، نحن قراءه، أن نتصور: كم كتابا من كتبه عرف النور فيه ؟ في أي غرفة من غرفه ولد " وليد مسعود"؟كم فنجانا من القهوة شرب فيه وهو يكب على ترجمة رائعة فوكنر"الصخب والعنف"؟كم غليونا دخن فيه وهو يبعث الحياة في هاملت وعطيل والملك لير ومكبث ؟كم أسطوانة سمع فيه وهو يتأمل "نصب الحرية" لجواد سليم ؟... لقد مات جبرا منذ ستة عشر عاما؛إلا أن ذلك لم يمنع أنفاسه من أن تظل تتردد في أرجاء هذا البيت، ولا بصماته من أن تبقى مرسومة على كل شىءمن أشيائه التي لمسها. أما اليوم، وقد نسف بيته نسفا، فانه يموت ثانية. لا أتحدث عن نسف الجدران والأركان والأعمدة ؛وإنما أتحدث عن نسف الذاكرة. أتحدث عن اغتصاب تراثه: دفاتره،أقلامه،كتبه، محاضراته، لوحاته،مخطوطاته، منحوتاته، أسطواناته، غليونه، مشاريع إبداعاته... نعم، سيظل إبداع جبرا خالدا، وستظل "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود" من أبدع ما كتب في الرواية العربية خلال مائة عام من عمر هذا الجنس الأدبي. ولكن الصورة كانت ستختلف، كل الاختلاف، لو سلم بيته، وجمعت فيه متروكا ته ومتعلقاته،ليظل أثرا يشار إليه بالبنان، وتشرئب إليه الأعناق. لمثل هذا يذوب القلب من كمد.