الوصول إلى قطاع غزة يتطلب قدرة تحمل نفسية كبيرة، حالما وصلت إلى مطار القاهرة الدولي بدأت المتاعب. فأرة سمينة طردتني من فندق «الصفا» ورحلة موت إلى الحدود الإسرائيلية مع أبو حامد، القائد الميداني المسؤول عن إطلاق الصواريخ بكتائب عز الدين القسام وهدير القصف أدخل الرعب إلى نفسي...إليكم تفاصيل ثمانية أيام من رحلة «المساء» إلى قطاع غزة. ليست كل الطرق تؤدي إلى قطاع غزة على عكس العاصمة الإيطالية روما، فالوصول إلى المنطقة التي تمثل إحدى أقدم بؤر التوتر في العالم يتطلب سلك طريق واحدة في اتجاه معبر رفح الحدودي، على الحدود المصرية الفلسطينية، الذي فُتح خلال مرحلة الحرب لعبور المساعدات الإنسانية والطواقم الطبية وبعض الصحافيين بعد أن طبق المحتل الإسرائيلي حصارا خانقا على القطاع منذ ما يناهز السنتين. الأربعاء 28 يناير جرذان القاهرة وصلت إلى مطار القاهرة الدولي، الذي يسميه أشقاؤنا المصريون ب«الميناء» رغم أنني لم ألمح بواخر أو سفنا راسية في مدرجات أكبر مطار في أرض الكنانة. كانت الساعة تشير إلى حوالي السادسة والنصف صباحا حين سلمني رجل الأمن بالمطار جواز سفري مرحبا بي في مصر حسني ومدام سوزان مبارك. لم أكن قد حجزت بعد فندقا لأقضي فيه اليوم الأول من إقامتي بمصر، خصوصا وأنه ينتظرني يوم شاق بين السفارة المغربية ومصالح المخابرات المصرية للحصول على التراخيص الضرورية للعبور إلى الضفة الأخرى من معبر رفح. عند خروجي من «صالة التفتيش» بالمطار، بادرني بالسلام شاب أنيق بربطة عنق، فاره الطول، يعلق «بادج» على صدره يشير إلى أنه يعمل بإحدى وكالات الأسفار، ثم سألني إن كنت أبحث عن فندق لأقضي فيه عطلتي، استحسنت أمر وجود ممثلين عن وكالات الأسفار بالمطار على مدار ال 24 ساعة، واعتبرت أن المسألة تدخل في إطار عبقرية المسؤولين عن السياحة في مصر الذين فكروا في اختصار الوقت والجهد والمال على الزائر الجديد لأرض الكنانة للعثور على فندق. رافقت الشاب إلى مكتب الوكالة بالطابق الأول من المطار فعرض علي عددا من المطويات وصور بعض الفنادق على اختلاف تصنيفاتها من «البنسيون» إلى السبعة نجوم، فاخترت فندقا من صنف ثلاثة نجوم لأنني سأقضي به ليلة واحدة فقط وفي نفس الوقت لأوفر بعض المال، ولاسيما أن هناك مصاريف كثيرة تنتظرني على مدار الثمانية أيام، وهي مدة هذه الرحلة. سلمت الشاب 50 أوروها، سعر الليلة الواحدة بفندق «الصفا»، ويتضمن مصاريف النقل إليه، حيث دامت الرحلة بين المطار والفندق حوالي ساعة إلا ربعا. وعلى طول الطريق اشتممت رائحة الحرب، إذ انتشرت عدة مؤسسات حربية مصرية بمجرد الخروج من «الميناء» في الطريق المؤدية إلى وسط القاهرة، ومنها الكلية الحربية وكلية الشرطة والمعهد الحربي ومعهد الشرطة ونادي الضباط... فاجأتني الزحمة الكبيرة بالعاصمة المصرية ومستوى نظافة بعض شوارعها، غير أن الصدمة ستأتي من فندق الثلاثة نجوم، إذ بعد وصولنا إلى هناك، أنزل صاحب السيارة الحقيبة قائلا: «يا باشا الأوطيل آهو...» موجها أصبعه إلى عمارة شاهقة، قبل أن يغادر المكان مسرعا. موقع فندق «الصفا» كان فعلا «استراتيجيا»، فبجانبه أحد باعة عصير الليمون المختلط مع دخان سيارة الأجرة التي تركن أمام الأوطيل، وفي الجهة الأخرى يتواجد «سناك» تنبعث منه رائحة لا تشجع على الاقتراب منه، فبالأحرى الأكل فيه. توكلت على الله ودخلت إلى ما يسمى الفندق المتواجد ببناية قديمة، صعدت الدرج إلى غاية الطابق الرابع، وفي كل طابق كانت «تصفعني» رائحة مقرفة غير تلك التي شممتها في الطابق الذي قبله إلى أن وصلت إلى باب الفندق، لأكتشف أن هناك عاملا يصلح قنوات الصرف الصحي «الوادي الحار» بالداخل. أمام هذه المشاهد، نسيت متاعب خمس ساعات من الرحلة ما بين الدارالبيضاء والقاهرة، فقلت في قرارة نفسي يجب أن أصبر على الأوضاع ولا يمكنني التراجع لأنني لا أعرف أين أذهب بالقاهرة. سلمت المكلف بالاستقبال، الذي نهض لتوه من النوم رغم أنني استغربت كيف يمكنه النوم في هذه الغرفة، الوصل الذي أعطاني إياه الشاب الأنيق صاحب ربطة العنق بالمطار، فأعطاني مفتاح الغرفة غير المرقمة، وكانت فعلا لا تحتاج إلى ترقيم، لأنها تستحق أرقام ما تحت الصفر. وضعت حقائبي وقررت ألا أرقد بالمكان، فخرجت مسرعا باحثا عن طاكسي للوصول إلى مقر السفارة المغربية بالقاهرة للحصول على إذن بعبور معبر رفح في اتجاه مدينة غزة. وصلت في حدود الساعة العاشرة إلى السفارة، حيث تم استقبالي من طرف قنصل شاب مهذب سألني عن أحوال الصحافة في المغرب وثورة الصحافة المستقلة به، وعبر عن إعجابه بجريدة «المساء» وعمود «شوف تشوف»، مؤكدا أنه من القراء الأوفياء لجريدتنا، حيث يطالعها كل صباح على النت. أعد لي الوثيقة بشكل سريع، عليها خاتم السفير المغربي، وزودني بمجموعة من المعلومات وحثني على التوجه بشكل فوري إلى مركز الإعلام الذي يتواجد ببناية الإذاعة والتلفزيون المصري. وهو مركز تابع للمخابرات المصرية، حيث يتم الترخيص للصحافيين الراغبين في العبور إلى غزة، وبدونه يستحيل وصولهم إليها. وبعد تحقيق قصير مع إحدى الشابات المصريات بالمركز، تيسرت الأمور وأشرت لي على الإذن بالدخول، وهو ما أنساني بعض الشيء متاعب الرحلة والفندق. هذا الأخير الذي عدت إليه في حدود الساعة الثانية بعض الظهر، وحالما دخلت إليه قفزت فأرة سمينة مسرعة في اتجاه وكرها بالحمام، حيث «طردتني» من الفندق ومن مدينة القاهرة، إذ قررت أن أغادر المدينة في الحال فأهون أن يستشهد المرء بصاروخ إسرائيلي على أن يقتل بعضة من فأرة مصرية من هذا الحجم. غادرت القاهرة في اتجاه مدينة العريش القريبة من معبر رفح الحدودي عبر سيارة أجرة، وبعد أكثر من خمس ساعات من الرحلة، مررنا فيها على أكثر من عشر نقاط تفتيش أمنية وقطعنا فيها صحراء سيناء، وصلنا إلى المدينة الصغيرة الهادئة والجميلة، حيث قضيت الليلة في فندق يحمل أيضا اسم «الصفا». الخميس 29 يناير «حلاوة السلام» بالقرب من معبر رفح الحدودي وبالضبط ب«مركز الشيخ وزيد» تستقبلك يافطة كبيرة كتب عليها «تصطحبكم السلامة»، لأن المتوجه إلى غزة في هذا الوقت يستحق فعلا دعوات الخير لأنه «لا أمان في الصهاينة»، كما يردد الفلسطينيون دائما. وصلت إلى المعبر، وبعد تسلم المخابرات المصرية لجواز السفر وترخيص السفارة ومصالح الإعلام بالاستعلامات، طُلبت مني كتابة التزام على ورقة بيضاء، أخلي فيه مسؤولية السلطات المصرية من أي مكروه قد يصيبني وأقر فيه بتحملي لجميع عواقب الدخول إلى قطاع غزة «المشتعلة». لم يدم التحقيق طويلا مع المخابرات المصرية غير أنه طالت مدة انتظار توصلهم بكشوفات عني من مراكز الاستعلامات بالقاهرة، حيث بقيت أنتظر لمدة تتجاوز ثلاث ساعات. صاح عسكري مصري بعد ذلك مناديا: «الصحافي المغربي»، توجهت إليه وقبل أن يسلمني جواز سفري قال لي: «مافيش حلاوة السلام؟»، ؤفي إشارة منه إلى ما نطلق عليه هنا في المغرب ب«قهيوة»، فابتسمت في وجهه ومررت. الطلب تكرر عدة مرات قبل الوصول إلى آخر محطة للعبور، وهي أداء ضريبة لفائدة الدولة المصرية، بعدها ركبت أوطوبيس يوصل العابر إلى المعبر من الجهة الأخرى، قبل أن أستقل سيارة أجرة في اتجاه فندق «غراند بالاس» المقابل للبارجات الحربية الإسرائيلية الراسية على البحر بمدينة غزة. قذائف البارجات دمرت، خلال عمليات «الرصاص المسكوب»، فندقا مجاورا ل»غراند بالاس» اسمه «شهاب بالاس»، وقصفت مؤسسات أخرى تتواجد في نفس المنطقة. آثار الدمار بادية على القطاع كله، المنازل والمساجد والشركات والمدارس والقبور، الكل أخذ حقه من القذائف الإسرائيلية والصواريخ القادمة من طائرات «إف.16» الإسرائيلية. الجمعة 30 يناير اكتشاف الدمار خلال هذا اليوم برمجت لقاء مع عدد من العائلات التي فقدت أبناءها جراء العدوان الإسرائيلي عليها، ودمرت بيوتها في مدينة غزة، قبل التوجه إلى مدن جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، حيث كان القصف أشد والدمار أوسع والمسشتهدون أكثر. كان كل شيء مؤثرا دموع الأمهات على فقدان أبنائها ودموع الإبن على فقدان والديه، وفي أحيان أخرى تسيل الدموع فقط تحسرا على الوضع الفلسطيني لناس فقدوا كل ما كانوا يملكونه، إذ دمرت منازلهم وجرفت مزارعهم وخربت مصادر رزقهم، بل وحتى بهائمهم استهدفها القناصون الإسرائيليون. زرت المجلس التشريعي المدمر ومركز الشرطة وبناية التلفزيون الفلسطيني ومنازل شخصيات فلسطينية، مثل أبو عمار وأبو مازن وإسماعيل هنية ونبيل شعث، التي قصفت جميعها خلال عمليات «الرصاص المسكوب». خلال هذا اليوم، عشت لحظات انقطاع التيار الكهربائي بالمدينة وترقب أهاليها القصف الذي قد ينطلق في أي لحظة وهم يرددون مقولتهم الشهيرة «اليهود ما فيهم أمان»، ويعتبرون أن الحديث عن الهدنة هو مجرد مناورات صهيونية، وأنه خلال الحرب كانت اسرائيل تمنح للفلسطينيين هدنة ثلاث ساعات في اليوم الواحد، وكانت تخرقها في كل يوم، إذ يشتد القصف في فترة الهدنة. وفي هذا اليوم أيضا رددت على مسامعي العديد من العبارات التي تبرز حجم الانقسام الداخلي في الصف الفلسطيني، إذ يوجد من يعارض مواقف حركة المقاومة حماس، وهناك من يحمل حركة فتح مسؤولية الوضع الذي وصل إليه الفلسطينيون. السبت 31 يناير رحلة الموت خلال الإعداد لرحلة غزة، كان همي هو نقل آثار الدمار إلى الٍرأي العام الوطني عبر جريدة «المساء»، التي كان لها سبق بعث صحافيين إلى بؤرة التوتر. وفي نفس الوقت، كنت أفكر في ضرورة إجراء حوارات مع شخصيات من السياسيين ورجال المقاومة الفلسطينية. وهو ما تأتى لي خلال هذا اليوم، حيث انتقلت إلى منطقة جباليا برفقة صديق فلسطيني، ساعدني كثيرا في مهمتي، حيث قمت بترتيب موعد مع أبو حامد، القائد الميداني المسؤول عن إطلاق الصواريخ بكتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة المقاومة حماس. الوصول إلى أبو حامد يتطلب جهدا كبيرا لحساسية منصبه في المقاومة ولكونه أيضا على رأس لائحة المطلوبين بالنسبة إلى إسرائيل. سيبقى ذلك اليوم راسخا في ذاكرتي. شربت الشاي والتمر، وبعد ذلك دعاني إلى شرب فنجان قهوة قبل أن نشرع في إجراء الحوار، وأطلعني على عدد من أنواع الأسلحة التي تستعملها القسام في محاربة العدو، وحاول تعليمي طريقة استخدامها. كان رجلا طيبا لم يخف إعجابه بالشعب المغربي وبامتنانه له على المساعدات التي قدمها خلال العدوان. خرجنا إلى المكان الذي كنا فيه وانتقلنا إلى مواقع عدد من المجاهدين، حيث كانوا يرابطون أثناء العدوان الصهيوني. كانت الساعة تشير إلى حوالي الخامسة والنصف، كان الظلام قد بدأ يسود المكان المدمر، حين وصلنا إلى الحدود بالقرب من المكان الذي ترابط فيه الدبابات الإسرائيلية التي كنا نشاهدها بالعين المجردة، وقال لي: «إنهم يشاهدوننا الآن بشكل جيد بواسطة مناظيرهم، وقد تأتي القذيفة في أي وقت». أبوحامد استعرض علي عددا من الكرامات التي حدثث خلال الحرب الأخيرة، وقال :«عدد من الجنود الإسرائيليين صرحوا لقنواتهم التلفزيونية بكونهم رأوا أشخاصا يلبسون ثوبا أبيض ناصعا يحاربون إلى جانب المقاومة المسلحة الفلسطينية»، مضيفا أن «عددا من الجنود أصيبوا بالعمى حينما حاولوا دخول بعض الخنادق التي بناها المجاهدون»، مؤكدا أنه من بين تجليات الكرامات التي حدثت خلال الحرب الأخيرة أن «رائحة المسك الزكية فاحت من أجساد عدد من المجاهدين الذين سقطوا شهداء في الحرب الأخيرة على غزة، ولم تفارقهم الرائحة رغم مرور أسابيع على استشهادهم». قضيت مع أبو حامد تقريبا يوما بأكمله وغادرته عند حدود الساعة الثامنة ليلا، حيث خرجت لمشاهدة عدد من رجال المقاومة ملثمين وبأيديهم رشاشات يتربصون بالعدو الذي قد يشرع في غاراته وقد لا يقوم بذلك. الأحد 01 فبراير «الرصاص المسكوب» في حدود الساعة الثامنة ليلا من هذا اليوم، سمعت هديرا قويا لطائرة تمر فوق الفندق، حيث كنت بالغرفة بصدد كتابة مقال لأبعثة إلى الجريدة في اليوم الموالي. فجأة انقطعت الأضواء وسمعت صوت القذائف تنزل على مكان قريب من الفندق. في هذا الوقت شعرت لأول مرة في مقامي بقطاع غزة بالخوف، لأن القصف كان عنيفا والهدير كان قويا، علمت بعد بضع دقائق من انتهاء القصف أن الأمر يتعلق بطائرات «إف.16» التي استهدفت ما بقي من مركز الشرطة الفلسطيني الذي يتواجد على بعد بضعة أمتار من الفندق. في اليوم الموالي، واصلت زيارة الأهالي والمناطق المدمرة، وتمت دعوتي إلى مأدبة غداء من طرف عائلة بمدينة جباليا، حيث لم يقصروا في كرم الضيافة رغم ظروفهم الصعبة. أطباق الكبسة اللذيذة والسمك زينت المائدة الصغيرة، وبعد الوجبة فتح نقاش سياسي بين الحاضرين، الذين كان منهم أستاذ جامعي وصحافي ومزارع وشاب من المقاومة، فهمت من خلاله السر وراء إصرار الشعب الفلسطيني على الصمود في وجه العدو. في نفس اليوم وفي انتظار حلول ساعة مغادرتي للقطاع، الذي ودعته متألما لأن الأمر يتعلق بتجربة لا يمكن نسيانها، التقيت أحد المسؤولين عن حركة فتح حيث تحدثنا بشكل مطول عن الأوضاع والانقسام الداخلي. عند المعبر، وفي طريقي إلى العودة إلى التراب المصري، قابلت نفس العسكري المصري الذي طلب مني «حلاوة السلام» عند دخول القطاع، وعندما تسلم جواز سفري ابتسم حتى ظهر نابه الفضي، فهمس في أذني هذه المرة قائلا: «مافيش حلاوة سلام يا أخينا؟»، هذه المرة ضحكت بصوت عال في وجهه ومررت بدون تعليق.