من خلال حضوري الدائم في خطب الجمعة في مساجد مختلفة ومدن مختلة لامست نمطا شبه واحدا مع بعض الاستثناءات في طبيعة المواضيع المطروحة و مضامينها و طريقة الإلقاء افقدني أي إحساس بالإنجداب إلى حضورها و لا اعرف هل من ضعف في إيماني أم رفض باطني للكثير مما يقال على الدين فوق المنابر. التفاعل الايجابي داخل المجتمع المنفتح على جميع الثقافات و الأديان و التعبير الحر في حدود الحريات المتعارف عليها و التي تنتهي عند بداية حرية الأخر يستلزم الانتقائية و البحث في طبيعة الخطاب المستعمل, واقصد بالخطاب هنا هو تلك البنية الفكرية التي تكمن في وسائل التعبير اللغوية كالمقالات و المحاضرات و الكتب و الحوارات و المناظرات .....إما على نخب معينة أو على الثقافة العامة أي المجتمع بغية تحقيق أهداف معينة ضمن سياقات اجتماعية مختلفة, و الخطاب له موضوع و هو ما سيكون موضوعنا في هذا الموضوع. و موضوع الخطاب الديني مبني على أسس فكرية تنطلق من الكتاب أي القران الذي تأسست عليه الحضارة العربية الإسلامية ثم السنة ثم العلوم التي تفرعت منهما حيث أنتجت ثقافة تعتبر إلى حدود الساعة المحرك الأساسي و المكون المركزي للتاريخ العربي مع كل تقلباته و تجلياته .و قد أثار سجالا على مختلف الأصعدة شأنه شأن باقي الخطابات ,و انطلاقا من مبدأ حرية التفكير و التعبير اتسعت الساحة الفكرية و ففتحت صدرها للجميع و الخطاب الديني كان دائما حاضرا بقوة يطرح القضايا و الأفكار و المواقف و يمارس النقد على جميع الأصعدة, وهو يمارس هذا الحق الطبيعي في الساحة أي صاحب الخطاب له كامل الحرية في التعبير, وان لم تكن يجب أن تكون كي يعبر عن قناعات خاصة أو حتى تبني اديولوجيات معينة يطرح أفكاره و يدافع عنها يرد على الأفكار التي لم يقتنع بها يرسم خط معين لنفسه قد يصدقه فيه البعض كما قد يختلف معه الآخرون إلا انه لا يمارس أي سلطة على القارئ أو المستمع, فإن كان مما هو مسموع حضر المستمع من تلقاء نفسه وإن كان مكتوبا قرأه القارئ انطلاقا من رغبته . المتلقي يختار ما يسمعه و ينتقي ما يقرؤه ويحتكم في ذلك إلى ظروفه وقدراته الفكرية و إمكانياته في الفهم و تكون له حرية الاختيار وحرية تبني أفكار صاحب الخطاب و العمل بها أم تجاهلها و الابتعاد عنها أو مناقشتها.لا احد يستطيع أن يصادر هذا الحق فالاختلاف و الحوار و النقاش هو الأساس الذي تقدمت به الأمم فقط لا يجب للاختلاف أن يصل إلى حد التحريض بالعنف أو القتل أو التكفير لأنها سلوكيات لا تعبر عن الحرية في التعبير بقدر ما تسلب و تصادر حق الأخر. و لما ننتقل بموضوع الخطاب الديني من الساحة الفكرية إلى موضوع خطبة الجمعة فإننا ننتقل من شيء إلى شيء أخر مختلف له خصوصياته وجب الإنتباه إليها وفي تقديري يجب أن تكون له ضوابط بل و يجب أن يخضع لرقابة معينة و المقصود هنا ليس الرقابة المخزنية بل الرقابة الذاتية و العلمية . الجمعة سميت جمعة لأنها مشتقة من الجمع يجتمع فيه المسلمون لعبادة الله بما في ذلك من إحياء للرحم وفيها نداء ألاهي صريح للتوجه إلى عبادته مباشرة بعد سماع الأذان وقال تعالى في كتابه الحكيم – يا أيها الذين امنوا إذا نودي للصلات من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله – الجموع الغفيرة التي تذهب إلى المسجد و السماع لخطبة الجمعة لا تذهب من تلقاء نفسها بل استجابة لفريضة دينية و ضرورة تعبدية ألزمها الدين على الجميع خصوصا الذكور منهم ,في هذه الحالة لا يمكن أن نتحدث عن حرية التعبير فالأرضية التي يوفرها هذا الطقس الديني لا يمكن للخطيب أن يقول فيه كل ما يريد أن يقوله كما في الساحة الفكرية فالوضع في هذه الحالة ليس اختياري أي أن المستمع مجبر على السماع و بصمت دون أي تعليق دون ان يعرف أو يختار الموضوع الذي سيستمع إليه .هذا الواقع التعبدي يوفر للخطيب كل الظروف التي لا توفرها الساحة الفكرية من مكان و زمان متكرر كل جمعة دون انقطاع و جمهور مستسلم و صامت, حسن الاستماع يعد جزء مهم من العملية التعبدية التي هو قادم من أجلها, و لما نتحدث هنا عن الجمهور فهو ليس نخبة معينة لها توجه واحد أو مستوى متقارب بل نتحدث عن عامة الناس صغيرا و كبيرا جاهلا و متعلما نساء و رجالا متشددا و معتدلا, كل هذا يجب أن يكون له علاقة مباشرة بتحديد الإطار و نوع الخطاب وموضوعه, إدن لا يمكن للخطيب أن يطرح أفكاره و آراءه كما يقوم خارج المسجد ليس المجال مجال لذلك في خطبة الجمعة,فيها يتحدث باسم دين كل الناس لا الدين كما يراه هو, فلا مكان لأرائه الخاصة التي قد تكون صائبة كما قد تكون خاطئة و يحمل الدين وزرها ,و كم من أشياء قالها الخطباء وهم على المنبر كانت لها تداعيات سلبية كثيرة .الخطيب في هذه الحالة أمام مسؤولية جسيمة يجب أن يعيها و يقدر أبعادها لا أن يستغلها. فهو في المسجد و على المنبر كل خطأ ارتكبه يحمله للدين ولهدا لابد من الاستعداد الجيد وحصر موضوع الخطاب بدقة لقول ما يجب قوله فقط و الاحتفاظ عل التركيز و البقاء في صلب الموضوع لا أن يرتجل و يرحل بموضوع خطابه من هنا و هناك حتى يفقده مضمونه .أما المضي في فعل عكس ما ذكرناه هو الذي خلق نوع من الاستهانة و الاستخفاف بعقول المستمعين إلى درجة أصبح فيه يوم الجمعة اقرب إلى العادة منه إلى العبادة. يجب تحديد و تسطير الهدف من الخطبة و توقع نتائج مضمونها على الناس ثم تحديد المنهجية واختيار اللغة السليمة و المباشرة لإيصال المعنى دون شوائب و لا تأويلات خاطئة و بالتالي فعلى الخطيب أن : يختار المتفق عليه و الثابت من المواضيع ويقوم بتلقينه و شرحه بطرق مختلفة ويسند المفاهيم و الأقوال لأصحابها بذكر الاسم لا أن يقول مثلا عن بعض السلف أو عن رجل كما يفعل الكثير, لأن تحديد الشخص له دور كبير في درجة الوثوق بالمعلومة و تحديد المواقف. و إن كان هناك من رأيين أو أراء مختلفة يطرحها بكل موضوعية و لا يفصح عن رأيه الخاص و هو على المنبر بل يترك المجال مفتوحا للمستمع سوف يميز بنفسه لتجنب إقحام المسجد في تجاذب و يجنب نفسه من مسؤولية ما سينتجه موقفه لأن الاحتمال أن يكون خاطئا وارد باستمرار. المختلف فيه يجب تركه لجمهور العلماء و للساحة الفكرية حتى تقول كلمتها و تستقر على رأي, ليجنب نفسه من مسؤولية ما قد تنتجه آراؤه الخاصة خصوصا و الأمور لا زال فيها قيل وقال. تجنب الإفتاء في الأمور كيفما كانت لأن الإفتاء له شروطه و أهله و يتطلب بحث و نقاش, و ليس المنبر مكانا مناسبا لمثل هذه الأمور. من غير المعقول أن يناقش الخطيب مواقف الآخرين و هو على المنبر خصوصا وهو يشير إلى أسماءهم آو ربما يصدر في حقهم أحكاما كما لا يمكن التشهير لأشياء خاصة أو سلع معينة أو أفكار معينة. فبقدر ما وجد الحياد بقدر ما تجنب الخطيب مسؤولية أي تفسير أو تأويل قد لا يخدم الإسلام بل يقوم بالعكس و هذا ما يحصل بالفعل. ما يقال على الدين فوق الكثير من المنابر ليس من الدين في شيء و لا يخدمه, و إلا أصبح المنبر في يوم من الأيام مكان لدعاية سياسية أو تجارية أو شيء اخرمن هذا القبيل. التخلص من عقدة الماضي و تجنب الإسراف في طلب تقمصه والابتعاد عن سرد حكايات من هنا و هناك فيها تناقضات بالجملة تستفز المتلقي و نسبها إلى الدين ثم طرحها على أنها نموذجا يجب الاقتداء به على حساب الواقع الراهن الذي فيه نماذج كثيرة حقيقية و ملموسة سواء عندنا أو عند الأخر و لم لا من الأمم الناجحة و المتفانية في العمل و طلب العلى . تجنب العنف في أسلوب الخطاب حيث لا يجب استخدام أساليب الترهيب بلغة تتسم بطابع التهديد والنذير والوعيد.. بل يجب استعمال أسلوب الترغيب, لغة الحوار والحكمة والموعظة الحسنة التي تؤكد احترام عقول وتفكير المتلقين, و إذا كان إلقاء الخطباء في الماضي و هو في أماكن مفتوحة أو حتى في المسجد بوسائل تقليدية يتميز بارتفاع الصوت إلا أن تقليدهم الآن مع وجود التجهيزات من مكبرات صوت و أماكن مغلقة يسبب إزعاج للمستمع. الخطاب يجب أن يتميز بالهدوء و بأساليب متنوعة و بيداغوجية في الإلقاء تجاوز الخوض في بعض الأشياء و المواضيع التي أصبحت في عصرنا و نحن على بعد 14 قرنا من بداية الدعوة و التي أضحت من البديهيات فما معنى أن تقول للناس و هم مسلمون بل وهم داخل المسجد يجب أن تصوموا في رمضان؟ أو تدعوهم إلى الصلات فماذا يفعلون في المسجد إن كانوا لا يصلون . أشياء كثيرة من هذا القبيل يجب تجاوزها.يجب الارتقاء بالمضامين إلى ما يناسب الواقع الراهن و الأوضاع الملموسة لا أن يعيش على أمجاد الماضي و يبقى سجين الذكريات. ويجب على موضوع الخطبة أن يسلك منهج التيسير والتسامح والوسطية والاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفريط ، هكذا سنستطيع الفصل بين الداعية و الخطيب و قد يكونان شخصا واحدا فعندما يكون على المنبر وهو يخطب في الجمعة يكون خطيبا ينقل و يوضح بأمانة الأمور الدينية أو حتى الدنيوية المتفق عليها لكنه و هو خارج المسجد يصبح داعية يتبنى مشروعا دعويا خاصا به يدافع عليه بأفكاره و مواقفه الخاصة. على مر العصور فان الخطاب الديني الناجح هو الذي يقوم على تكريس التسامح واليسر والتيسير، بالإضافة إلى الترغيب والتذكير والانفتاح على مختلف العلوم الكونية والإنسانية.. وإبراز القيم الروحية والأخلاقية.. كما يسعي باستمرار إلى تجديد مضامينه وتطوير أساليب ووسائل إيصاله.