دارةُ الثقافةِ والفنونِ، ومجلسُ الطائفةِ الأرثوذكسيّةِ، ونادي العائلةِ الأرثوذكسيُّ التَّابعُ لمَجلسِ الطائفةِ الأرثوذكسيّةِ في الناصرة، أقامتْ حفلًا تكريميًّا للشاعرِ الزجّالِ سعود الأسدي، وذلك بتاريخ 5-6-2013، في قاعةِ مركزِ الأحداثِ الأرثوذكسيّ في الناصرة، والّتي غصّتْ بالحضورِ مِنْ مُختلفِ البلادِ والشرائحِ الاجتماعيّة، مِن رؤساء مجالس مَحلّيّةٍ وبلديّاتٍ، وأعضاء كنيست، ورجالِ دين، ورؤساءِ هيئاتٍ تعليميّةٍ وثقافيّةٍ، ووفودٍ مِن مختلفِ بلادِ الجليلِ والمُثلّثِ، والوسط العربيّ مِن أصدقاء وأدباء وشعراء وممثّلينَ، ونيابةً عن النّادي، افتتحتِ اللقاءَ الباحثةُ التراثيّةُ المُربّيةُ نائلة لِبّس بكلمةِ اعتزازٍ وترحيبٍ بالمُحتَفى بهِ، وبالجمهورِ الغفيرِ الّذي حَلّ لتكريمِ عَلَمٍ مِن أعلامِ الثقافةِ الفلسطينيّةِ، ثمّ حاوَرَهُ الإعلاميُّ فهمي فرح، والّذي نَوَّهَ إلى جائزةِ الثّقافةِ الفلسطينيّةِ لهذا العام، كما أبرزَ أهمّ لمحاتٍ عن أدوارِهِ الشّعريّةِ الجادّةِ بالفُصحى والمَحكِيّة، والّتي رَسَمَ مِن خلالِها لوحاتِ شِعرٍ إنسانيٍّ وتراثيٍّ بفنّيّةٍ عاليةٍ، وتحدّثَ عن تأثُّرِهِ العظيمِ بالمُتنبّي والمِعرّي، وبالموسيقى الشرقيّةِ والغربيّةِ الكلاسيكيّةِ في شِعرِهِ وصُوَرِهِ، وقد أتحَفَ الحُضورَ بدَماثةِ حديثِهِ الشّيّقِ السّلِسِ، وروحِ دعابتِهِ الطريفةِ بعرضِ لمَحاتٍ عن سيرتِهِ الطفوليّةِ ومَسيرتِهِ الأدبيّةِ، وأدهشَ الحُضورَ بزخَمِ ذاكرتِهِ وحِفظِهِ للشّعرِ وللتّفاصيلِ الدقيقةِ، وقد تخلّلَ الحوارَ مجموعةٌ مِن قراءاتٍ شِعريّةٍ بصوتِ الزجّالِ، وكذلكَ وصلاتٍ مِن شِعرِهِ المُغَنّى، أدّاها كُلٌّ مِنْ أبنائِهِ الفنّانينَ تميم وإياد وبشير في وصْلَتَيْنِ فنّيّتيْنِ، وأغنية أمّ كلثوم "كم بعَثنا معَ النّسيمِ سلامًا"، كما قدّمَ الفنّانُ عازفُ البُزقِ جورج سمعان أغنيةَ "لاهيت ستِّي"، مِنْ تَلحينِهِ وغِنائِهِ، ومِن كلماتِ الشّاعرِ سعود الأسدي، بمُرافقةِ إيقاعِ الفنّانِ سالم درويش، وفي ختامِ الحفل التكريميّ، قدّم د. عزمي حكيم ونائلة عزَّام لِبِّس دِرعَ النادي الأرثوذكسيّ للشّاعرِ الأسدي، وكذلك قدّمَ الأستاذُ جمال أبو مُخّ من باقة الغربية دِرع المثلّث للأسدي. وجاء في كلمة نائلة عزّام لبّس: باسْمِ مجلسِ الطائفةِ العربيّةِ الأرثوذكسيّة، ودارة الثقافة والفنون، ونادي العائلة أُرَحِّبُ بكُم، فهَدفُ المجلسِ الأوّليّ والأهَمّ بناءُ الإنسان، مقولةٌ كرّرناها مُنذ قرّرنا إدارةَ شؤونِ الطائفةِ والبلدِ وكُلِّ أبناءِ شعبنا، وقد توالتْ بَرامجُنا منذ عام 2007 بخُططٍ مَدروسةٍ وتخطيطٍ سليم، بدْءًا بالطفولةِ وحضانةٍ على أعلى مستوى، ثمّ الفتيان والشباب، وناديهم الأرثوذكسيّ الّذي يَعُجُّ بالفعاليّاتِ والدّوراتِ الرياضيّة، إلى الشّيوخِ ونادي المُسنّينَ والمُسنّات، ثمّ تنمية المَواهبِ في دارة الثقافةِ والفنون، مِن عزْفٍ على مُختلفِ الآلاتِ الموسيقيّة، ودوراتٍ في الفنّ التّشكيليّ، وكذلك الكشّاف، ونادي العائلة الّذي نحن في ضِيافتِهِ هذه الأمسية، وقد حمَلنا على عاتقِنا مُهمّةَ تكريم مُبدِعينا ومُبدِعاتِنا، وتَسليطِ الضّوءِ على عَطائِهم وتَمَيُّزِهِم، كي يكونوا عبرةً للأجيال الشابّةِ. وفي هذهِ اللّيلةِ نَستضيفُ أحدَ أبرزِ مُبدِعينا كروانَ الدّيْر، "الّذي عاشَ وعشّشَ في عَرينِ الأسودِ والنّاصرةِ الّتي صاهَرَها وأنشأ فيها عائلةً كريمة، إنّهُ سعود الأسدي اسمٌ لامعٌ، لا حاجةَ لنا بتعريفِهِ، فلا كلمةُ أستاذ تكفيهِ، ولا لقبُ شاعرٍ تَفيهِ حقَّهُ، ولا مُتذَوِّقُ الموسيقى تُغطّيهِ. إنّهُ خليطٌ مِنْ مجموعةِ فنونٍ، تجعلُ مِن سامعيهِ يُنصتونَ لكثافةِ الحَلاوةِ الّتي سيَعيشون بها، على مَدى السّويْعاتِ القادمةِ، فأهلًا وسهلًا بهِ وبكم جَميعًا. وجاءَ في حِوارِ الإعلاميّ فهمي فرح، بعدَ أن دَعا الشّاعرَ سعود الأسدي للمِنصّة: الشاعرُ سعودُ الأسدي صاحبُ ديوانَيْ "أغاني مِنَ الجليل"، و"نسماتٌ وزوابعٌ"، و"عَ الوَجَع"، وشَبَقٌ وعَبَقٌ، ودَعسةُ بنتِ النّبيّ، وإشراقةُ الشّعرِ الغنائيِّ اليونانيِّ، وكتابُ الجَفرا، وأوبرا عايدة، وأوبرا لابوهيم. وُلدَ في قريةِ دير الأسد الجليليّة عام 1938، وتُؤكّدُ ذلك جدّتُهُ زليخة بقوْلِها: "إجا سعود عَ الدنيا يوم الجمعة، في الجمعة الأوّلانية مِن شهر أيلول دبّاغ الزتون. وَعى منذُ طفولتِهِ وصِباهُ الإيقاعاتِ الشّعريّةِ الفصيحةِ والعامّيّة، ونَما على حُبّ الأدب، تُسعِفُهُ في ذلكَ نفائِسُ الكُتبِ في مَكتبةِ والدِهِ الشاعرِ محمّد إبو السعود الأسدي، حتّى أنّه نسَخَ ديوانَ المُتنبّي وحَفظَهُ غيبًا وهو ابنُ سبعة عشرَ عامًا، وتَعلّمَ في ثانويّةِ كفرياسيف ينّي ينّي، ودرَسَ الأدبَ العربيَّ في جامعةِ القدس، وتعرّفَ بشغَفٍ كبيرٍ إلى مكنوناتِ الأدبِ العربيّ والفِكرِ الإسلاميّ في مكتبتِها العربيّة، وأبحاثِ المُستشْرقينَ. قدِمَ عام 1960 الناصرة ليُدَرّسَ اللغةَ العربيّةَ في مَدرستِها الثانويّة، وثانويّةِ القدّيسِ ماريوسف، وثانويّةِ عكّا ومَدارس أخرى، وأمضى بمِهنةِ التعليم 33 عاما. اشتدَّ ميْلُهُ بعدَ عام 1967 إلى الكتابةِ بالّلهجةِ العامّيّةِ الفلسطينيّة، فتمرّدَ على الأشكالِ التقليديّةِ في الشّعرِ العامّيّ، حتّى صارتِ العامّيّةُ حَداثيّةً بفضلِ إبداعِهِ، فهو واجهةٌ كبيرةٌ مِن واجهاتِ الأدب الفلسطينيّ المُعاصِر، عالَجَ مَواضيعَ ثقافيّةً مُتعدّدةً، منها التّراثُ الفلسطينيّ، والفنّ التّشكيليّ، والموسيقى الكلاسيكيّة العربيّة والغربيّة، ولهُ فيها كتاباتٌ مُبتكَرة، وهو يُحاضِرُ في الأدبِ عامّة والشّعر خاصّة، ويُقيمُ النّدواتِ ويُشاركُ في المؤتمراتِ الثقافيّة، ولهُ قصائدُ مُترجَمةٌ لعِدّةِ لغاتٍ، كما تَرجَمَ لهُ الشاعرُ العبريُّ بيرتس دْرور بَناي פרץ דרור בנאי مجموعةً شِعريّةً بعنوان دواليب الهوى" במעגלות האהבה". وقد جَمَعَ الأسدي ضِفتَي الشّعرِ الفصيحِ والمَحكِيّ، ومِن قصائدِهِ: ذكرى المُتنبّي، والتّيهِ الأخير، ورأيتُ الشّامَ في حُلمي، وبغدادُ على الصّليب، وغمَسْتُ خُبزي بمِلْحي، و"مأساةُ ضرْبِ رأسِ تمثالِ أبي العلاء المِعرّي"، والآنَ تحتَ الطبع ديوانُ شِعرِهِ الفصيح بعنوان "لكُمْ مِزمارُكُمْ ولي مِزماري"، على غِرار قصيدةِ جبران "لكُمْ لُبنانُكُم ولي لبناني". وبعد أن رحّبَ الأسدي بالضيوفِ بقصيدةِ تكريمٍ مطلعُها: يا شعر حَيِّ بصَوْتي حارة الرومِ/ للرأي في دعوة منها لتكريمي/ وحارة الروم كانت حارتي/ وأنا أكّن للناس فيها كلّ تعظيمِ/ أحبّتي مِن أيّامِ الشّبابِ وكم أحييْتُ ليلي بها مِن غير تعتيمِ/ ناوَمْتُ ليلي وقد نوّمتُهُ وأنا سهرانُ والليلُ لم يَظفَرْ بتَنويمي. ثمّ تحّدّثَ عن طفولتِهِ: بدأتُ تعليمي في مجدِ الكروم، ربّما لحُسنِ الحظّ أو سوئِهِ، لا أعلمُ، فأنْ أنزلَ إلى مجد الكروم وأتعرّفَ على بيئةٍ مُغايرة، فهذا نعمةٌ مِن نِعَم الله، وقد كنتُ أذهبُ صيفًا وشتاءً مشيًا على الأقدام، وأمُرُّ بجانبِ دعسةِ بنت النبيّ، فكانَ المُديرُ يُسجّلُ الأطفالَ للصّفِّ الاوّل مَن بَلغوا سبعَ سنين، فوَضعَ المُديرُ مَبلغًا مِنَ النقودِ على الطاولة، وطلبَ منّي أنْ أعُدَّها وأحْسِبَها، فقالَ لهُ والدي: واللهِ بزَمانِهِ ما رأى قرشًا، فكيفَ سيَعرفُ القرشَ والمِلَّ والتعريفةَ ويَحسبُها؟ وكانَ القِرشُ يَسوى زلَمة، وحين سألني عن الّلغةِ قلتُ شِعرًا في الحثّ على اقتناءِ الخيْل: أحِبُّوا الخيلَ واصْطَبروا عليْها/ فإنّ العِزّ فيها والجَمالا/ إذا ما الخيلُ ضيّعَها أناسٌ/ ربَطناها فأشْرَكَتِ العيالا/ نُقاسِمُها المَعيشةَ كُلَّ يومٍ/ ونَكسوها البَراقعَ والجَلالا. حينها سجّلَني المُديرُ، وتعلّمتُ في مَجدِ الكروم سنتيْن، حتّى كانت أحداثُ النكبة، فانتقلتُ إلى مدرسةِ قريةِ البعنة، وكانَ مُديرُها الأستاذ سهيل خوري عاشقُ اللغةِ العربيّةِ والشّعر، وهذا الشّخصُ أثّرَ بمَسيرتي جدًّا، مِن خِلالِ تَحفيظِنا عشراتِ القصائدِ وآلافِ الأبياتِ الشّعريّة، وكانتِ الرامة بلدًا ثقافيًّا عريقًا في زمنِ الانتدابِ، وبها مُعلّمون كُثُر، وحينَ لمَسَ المُديرُ عيسى الصّالح أنّي ألهَجُ بالشّعر، طلبَ منّي أن أُعيدَ القصيدة: وطنبورٍ مليحِ الشكلِ يَحكي/ بنغمتِهِ الفصيحةِ عندليبا/ رَوى لمّا ذوى نغمًا فِصاحًا/ حَواها في تقلُّبِهِ قضيبا/ كذا مَنْ عاشَرَ العُلماءَ طفلًا/ يكونُ إذا نشأ شيخًا أديبا/ وطلبَ منّي المُديرُ أن أُعَلّمَ طفلًا آخَرَ ولمْ أُفلِحْ، بلْ صِرتُ أقولُ مثلَهُ: "وطنبورٍ مليحِ الشكح يكحي"، وأخذَ عصا طويلة وضربَني 4-5 جردات، لِيُعَلّمَني كيفَ أُأعلّمُ بشكلٍ مليح. حدّثنا عن والدِهِ الزجّال محمّد أبو السعود الأسدي، وعن قصّةِ قصيدتِهِ في المُعتقَلِ عام 1948 في سجنِ عتليت، مِن قِبلِ جَيش الهاجاناه الإسرائيليّ مع مئاتِ الأسرى العرب، فأرسَلَ لنا معَ الصليبِ الأحمر رسالةً لا زلتُ أحتفظُ بها فيها قصيدة قالَ فيها: حَنّ الفؤادُ لرؤيةِ الأولادِ/ فبكيتُ أهلي والحِمَى وبلادي/ وطفِقتُ في حُكمِ الأسيرِ مُغرِّدًا/ بالهَجر والتقييدِ والإبعادِ/ قامتْ بَناتُ الشّعرِ في أحزانِنا/ ودَقّقنَ مِن فوْقِ الصّدورِ أيادي/ لولا مُنادٍ في المَنامِ يَقولُ لي: اِصْبِرْ على حُكمِ القَضا يا حادي/ لظننتُ أنّي بينَهُنَّ بمَأتمٍ/ ولَخِلتُ أنّ الموتَ ضَمِنَ فؤادي/ فإليكَ مِنّي يا "سعودُ" تحيّتي/ وإلى "الأمينِ" بُغْيتي ومُرادي/ عِّرجْ على "المَأمونِ" مَرجعَ مَجْدِنا/ أمَلي بهِ فهوَ المَسيحُ الفادي/ و"لفيصلٍ" منّي تحيّةُ والدٍ/ وهو الصّغيرُ وفي السّرير يُدادي/ أُوصِيكُمُ في والدٍ مُتألّمٍ/ سَئِمَ الحياةَ على البَنينِ يُنادي كنتُ ابنَ عشرَ سنوات حينها، ولمّا عادَ أبي مِنَ الأسْرِ، واجتمَعَ الناس في بيتِنا للتهنئةِ بالسلامة، وأثناءَ السّهرةِ سألَني عن رسائلِه إلينا، وكانَ يأتي بها الصليبُ الأحمرُ، أينَ الرسائل يا سعود؟ وأينَ القصيدة التي بعثتها إليكم؟ قلت: هيَ في خزانةِ أمّي. قالَ هاتِها! قلت: لا حاجةَ إلى إحضارِها، فأنا أحفظُها غيبًا. فقال: أسمِعْنا. ولما أسمعتُهُم قالَ: لماذا لم تبعَثْ إليّ بقصيدةٍ جوابيّة؟ لم أحَرْ جوابًا يومَها، فأنا ابنُ عشر ولا عِلمَ لي بكتابةِ شِعرٍ أو نثرٍ، وشَعرتُ أنّ والدي قد حشَرَني في الزاوية، ولم أجِدْ بُدًّا بعدَ 28 سنة مِن كتابةِ الشّعر، فأصدرتُ أوّل كتاب لي "أغاني من الجليل"، إذ ذهبت عند عبد المزاوب أبو خليل الله يرحمه، فكتب قصائدي بخطّه وبالرصاص خلال سبعة أشهر، فأمسكَ أبي الكتاب وقلّبه وقال: ما هذا؟ جواب لقصيدة 1948: مرة شفت بعد المسا واحد فقير/ في الصيف فارِش عَ سطحْ بيتُه حَصير/ قاعِد تا يتعشّى أمامُه صحن زيت/ مع زعتر ومسراب من خبز الشعير/ صار يتمنى على ربّه يا ويت ينزِلُّه وجبِة مْنِ السّما ةماهو كثير/ وبين الألم والأمل شْوية رأيت/ حفنة نجوم نزلت بصحنه الزغير/ بالصحن نزلت تسبح ومنها بنيت فكرة جميلة/ بيوعى عليها الضمير/ خبز الغني لو غمّسُه بأشهى طعام بيتغمس بنجمِ السما خبز الفقير تحدّثَ سعود الأسدي عن البيئةِ الّتي عاشَ بها وانتقل إليها فقال: مِن دير الأسد والشّاغور الجليليّ أتيتُ، مِن بيئةٍ ريفيّةٍ حيثُ تحتضنُ ديرَ الأسد المُغُرُ، وقالَ فيها والدي: نِحنا بدير الأسد شيّدنا دار/ عمدانها مِنَ الزجَلِ والاشعار/ صارتْ بلدنا للشّعرِ كعبة/ تقصد إليها سائرُ الزوّار/ صارتْ بلدنا للشّعر كعبة/ وعقولنا بنظْمِ الشّعرِ خِصبة/ نحنا جمَعنا الفنّ في علبة/ مثل المِسك في علبة العطّار. هذه البلدُ الّتي بها الطبيعةُ والشّعرُ وكرومُ الزيتون، وفيها الاسمُ دَيْرٌ، هذا الاسْمُ الجميلُ ديْرُ الأسد جارةُ يَركا والخلوة المعروفيّة، وسحبات الأوف والعتابا والميجانا وصفّ السّحجة، وجارتها البعنة الغالية الحبيبة، ديْرُ الأسد ديْرُ الشّعر، هواؤُها يَتنفّسُ الشّمال الجبليّ النّديّ، والغرب البحريّ الأرجوانيّ، وطقسُها ممتزجٌ بتواشيحِ الصّوفيّة، وفيها مقام بقبْتيْنِ وأعلام، ومِن هناكَ في البعنة كانَ يَدقُّ جرسَ كنيستِها الشرقيّة الخوري خليل الله يرحمُهُ، وأسمَعُ الترانيمَ البيزنطيّةَ والآذان مِن غير مكرفون، ونُشنّفُ آذانَنا بهِ وفي أوقاتِهِ،و بعدَ أن أنهيتُ دراستي الثانويّةَ في كفرياسيف، التحقتُ بالجامعةِ العبريّةِ في القدس، وتخرّجتُ وجئتُ إلى الناصرة بتاريخ 1-9-1960، فقالوا: جاءَ شاعرٌ مُعلّمٌ يَحفظ المتنبي عن ظهر قلب"، فقالَ لي والدي: اِذهب في يومِكَ الأوّل مِن قدومِكَ للنّاصرة الى صديقي الأستاذ عمر القاسم، وهو يُدبّرُ لكَ أوضة (غرفة)، وعن البَرندة (الشرفة) نادى على سليم الشّيخ، وطلبَ منهُ أن يُدبّرَني في غرفتِهِ، وكانَ لقاءٌ جميلٌ في الحارة الشرقيّة، وسهرٌ معَ الشباب، وحديثٌ عن قصصٍ وذكريات. حدثنا عن النشأةِ الأولى في دير الأسد وعن فلّاحينَ يُغنّونَ على البيادرِ أهازيجَ هزليّةً للتسلية، وكلّ واحدٍ يُضيفُ مِن إبداعِهِ مِن حزنِهِ على الدجاجة، وحزن الدجاجة علينا، ولا أكلنا دجاجة ولا قليناها، فقالوا كما يلي: الجاجة راحتْ دار أبوها زايرة/ طلعت على حيطانهم دارْجِة/ وقفت على مِنقارها غِميانة/ يا دمْها طيّحْ سبع وديان/ ويا لحمْها ما أكْلتُه العُربان/ يا ريشها فْراش للنّعسان/ مُصرانها حْبال للجَمال/ يا شحِمْها في لحمها قلوها/ عزموا عليها الأهل والخلّان/ أحلف لكم يا جماعة ما حكيت الزور/ ميتين ليلة طبَخنا شقة العصفور/ وعزمنا عليها حلب والشام وإسطنبول/ وكان ما بتصدقوا هي اللحم في قاعات الدور وعن أيّام الحصّادين والدرّاسين: كانتْ أيّام جوعِها أكثر مِن أيّام شبَعِها، وعَطشِها أكثر مِن رَيّها، والفلّاحُ كانَ يَحصدُ ويُرجدُ ويَشيلُ القشّ عن الجمل، ويَشتغلُ ويُخفّفُ عن حالِهِ بأغاني: أنا خيّال المنجل والمنجل خيّال الزرع/ منجلي يابو الخراخش منجلي في الزرع طافش/ منجلي يا منجلاه أخذته للصايغ جلاه/ منجلي يابو ريشة يا معلق بالعريشة/ منجلي منجل عمّي يْزَوِّل عن قلبي هَمّي/ منجلي منجل أختي ومْعلّق بالزنزلختة/ يا منجلي يا أبو رزة ويش جابك من بلاد غزة/ يا ريت الحصيدة كلّ عام تعود/ ونحصد الحصايد وندرس عَ القاعود/ أحصد بدري قبل ما تيجي الشوبة/ يا حصاد عويد عويد نقّي القمح من السويد كلُّهُ سجعٌ جميلٌ وموزون، كُنّا نُذوّتُهُ في وجدانِنا مِن وزن وقول، ولمّا كنّا نخفّفُ عن حالِنا عناءَ الشمس المُحرِقة حينَ ندرُسُ على لوحِ الدّراس، والله أنا أقول وأعني، ما كان لدى ثلاثةٍ طقيّة أو قبّعة يَعتمرونها على رؤوسِهم، وكنّا طول النهار نَفنّ على البيدر بالشمس، ولمّا ننعس ننامُ على لوح الدراس، والفدّان يَدورُ بهِ وهو نائم، وكنّا نُخفّفُ عن حالِنا بأناشيد ونغنّي شِعرًا، وكان الآخرُ على البيدرِ البعيدِ القريب يُردّدُهُ، وكنّا نُطلِقُ أصواتَنا، وهذا التمرينُ كم كانَ مُفيدًا في تفتيحِ الحنجرةِ بصوتٍ قويٍّ مِن بعيدٍ، وكنّا نقول: يا بو ديِّح يا بو داح وين خبّيت الرّياح (الحبل الذي نشدّ به الدّابة)، بين عَلْما وبينْ سَلْما (في الشمال)/ وبين عروق السيسبان (شجر)، سيسبان مع سيسبان/ سيسبان خيْل المْوالي/ وانقطع حزم الحصان/ مِن وراه ومِن قدّام/ سرديّة مع سرديّة/ (عرب في الحولة تشرّدوا وسمّوهم الطربشيّة، كانوا يعملوا حصر مِن الحلفى، لأنّ مياهَ الحولة كانت تُنبتُ غاباتٍ مِن الحلفى، وقشّ الحلفى للحُصُرِ الطربشيّة)، سرديّة بنت السلطان/ حاجبْها يفرُطُ الرمّان/ (وهذه صورة شعريّة جَميلة وفطرة جميلة، أي حَبّ العَرَق مثل حَبّ الرمّان)، يُفرُط مِدِّ ورِبْعيّة/ (ربعيّة= صاعيْن، والربعية= نصف صاع بمِكيالهم)، زغِرْتِيلُه يا بْنَيِّة/ تكونْ زِغريتِة قويّة/ ونَسمعُ البنتَ مِن البيْدرِ البعيدِ تُزغردُ، وهذا الجوّ الجميلُ مِن الشبابِ والصبايا على البيادرِ لن يَتكرّرَ، فذاكَ عهدٌ قدِ انتهى ووَلّى، وكانتْ هناكَ أهزوجةٌ يَقولُها الختيارُ لأحفادِهِ، ويُتشْتِش للأولاد الكبار فيقول: لْدِيِّ يا وْلادي لْدِيِّ (تعالوا لدَيّ)/ عايِبْها شيخ الرديّة/ (عيب على شيخ أن يَصنعَ الرديّة، وهو درسٌ في الأخلاق)، كنت سارِح ومْرَوِّح/ ومْدَرِّجْ بأوّلِ شْلِيِّة/ (شلعة وشلية الغنم)، طبّْ عليِّ الحراميّة/ كتّفوني بيدَيِّ/ ورَمُوني عَ بيت النمِل/ والنمِلْ يقرِّصْ برِجْلَيِّ وفي حكايتِهِ عن الجغرافيا الفلسطينيّةِ وتَعامُلِ الأطفالِ معَها كنّا نقول: يا جاجةً طِلعتْ عَ راس السّطح تتهوّى/ يا وِقعِتْ عَ راسْ مِنقادِها غِميانة/ (أرادَوا أن يَذبحوها، وحين يَعلمُ أهلُ القرية بفلان ذبح دجاجة، فللدّجاجة حكاية)، سكّينة النصراويّة ما قطعتْ رْقيبِتْها/ وسكّينة الترشيحاوية ما قطعتْ رْقيبتها/ ونُقرّبُ إلى البعنة، سخنين، مجد الكروم، عرّابة وإلخ، ونعمل جغرافية للقرى الفلسطينيّة مِن المطلّة لحدّ رَفح، لأنّ النّهار طويل ونريدُ أن نتسلّى، وأنا كنت شاطر في الجغرافية، لأنّ أبي كان يذهب للأعراس، ويعودُ وبجعبتِهِ أسماءٌ عديدة وغريبة لا نعرفها، وكنّا ندرُس هذه الجغرافيا على البيادر، وذهب دِفْؤُها ولمْ يَعُدْ. أحببتُ الرّاديو جدّا، وإذا فتحَ الجيران الراديو واستمعنا إلى أغاني نجاح سلام، وأغنية السيّدة في يدِها ساعة، كان ذلك يُشعِلُ خيالَنا، فصِرتُ أُلِحُّ على أبي ليَشتري لنا راديو، ورفضَ والدي، ويومَ كان يَرى الشبّابة معي حين كنت أذهبُ إلى المرعى مع الشّلْية، لمْ يَكُنْ يَدري أنّي بحاجةِ شبّابة لتُسلّيني في الوعر. وحينَ أنهيتُ المرحلةَ الابتدائيّة، انتقلتُ إلى مدرسة ينّي ينّي الثانويّة في كفرياسيف، وسكنتُ عندَ شفيق أبو حزّان وكان عندَهُم راديو، وفي أيّام العُطل كنتُ أغتنمُ الفرصة، وأذهبُ إلى رفيق ابْنِ شفيق عازف العود، وكان يَفتحُ الراديو ويعزفُ على عودِهِ وكنتُ أنتعشُ، لأنّ جوعي الفنّيّ كانَ يَركبُني، وكنتُ أسَجّلُ كلماتِ الأغاني وأكتبُها، وكانتْ أوّلُ أغنيةٍ كتبتُها أغنيةَ كوكبِ الشرق من ألحان أبو العلا محمد: كمْ بعثنا مع النسيمِ سلاما/ للحبيبِ الجميلِ حيثُ أقاما/ وسمعنا الطيورَ في الروضِ تشدو/ فنقلنا عن الطيورِ كلاما/ نحن قومٌ مُخلَّدونَ وإنْ كنّا/ خُلِقنا لكي نموتَ غراما/ وإذا نامت العيون فهذي/ يا حبيبي قلوبُنا لن تناما/ خافقاتٌ تدُقُّ مِن ألمِ الوجْدِ نشيدًا فتُحسُّ الأنغاما/ قد قنِعنا بحُبّهِ ورضينا لو بقيَ ساعة ويهجر عاما/ ولكَمْ زارَ في الكرى فودَدْنا لو قضينا هذهِ الحياة نياما/ فرَقّتْ قبلنا العيونُ اللّواتي نمن مِن صحّةِ الجَمال سقاما/ فكأنّ القلوبَ كانت لواءً وكأنّ العيونَ كانتْ سِهام.ا وعن ذكرياتِهَ في الناصرة قالَ: في أحدِ الأيام كنتُ بغرفتي اكتب وأقرأ، وأدخّن لأني مولَعٌ بالتدخين، وأسهرُ كثيرًا لأنّ النّومَ مَخسَرٌ للإنسان، وإذا بالجَمل مَفكوكٌ يَمدُّ رأسَهُ مِن بينِ مَشبكِ الشّباك، فخِفتُ أن يَنتِشَني، فنَدهتُ على الجيران كي يأخذوا جَمَلهم، فقالوا: لقد جاءَ ليُدخِّنَ عندكَ، ووضعتُ السيجارة أمامَهُ، وظلّ الجَملُ يَتنشّقُ منها، بَعدَها ذهبَ لينامَ حتّى الصباح. وتحدّثَ عن المُسجّلِ الصوتيّ، ومرحلةٍ مُتقدّمةٍ في بداية 1960، حينَ وصَلَ إلى استقلالٍ اقتصاديّ ومعاشٍ شهريٍّ يَصلُ إلى 250 ليرة تنطح ليرة، وقرّرَ أنْ يَشتري جهازَ تيب ريكوردر بألف ليرة، وصار يُسجّلُ لأمّ كلثوم وأمين حسنين، ويُسجّل برنامجَ "من أرشيف الأغاني" من إذاعة مصر، و"من الرفوفِ العالية" من إذاعة بغداد، فتعرّف على الجالغي بغداد، والموّال العراقيّ، والعتابا الجبوريّة والأبودية بصوت محمّد القبّانجي، ورشيد القندرجي، وعفيفة إسكندر، وسليمة مراد، وناظم الغزالي. وسجّلَ القديمَ مِن برنامج "بين القديم والحديث" من إذاعة القدس، وسجّل حوالي عشرين شريطًا، وكلّ شريط يظلّ يرقع يوميًّا 16 ساعة. وحينَ جاءَ الوالد سألني: ما هذا؟ وكم ثمنه؟ يا ويْلَكَ مِنَ الله، عند دار بكري جيراننا أربع دونمات أرض تساوي 600 ليرة، فمَن أحسن؟ وأقنعتُهُ أن يُغنّي شِعرًا بنوع المْعَنّى: لا تفتكر أنّ الدّهر كلّه حنان/ لا تفتكر أنّ الدهر كلّه آمان/ ألفين مِدفعجي عَ سور الدردنيل/ في حين مال الدهر صاحوا آمان/ لا تفتكر أنّ الدهر بيرحَمْ عليل/ لا تفتكر أنّ الدهر بيشفي غليل/ ولا تفتكر أنّ الدهر ميلُه قليل/ ويا ابني تاع اتْسمّع الأشعار/ وخلّي الدراسة عَزمَك وحِمّك/ أعطِ الفقير لِترين مِن دَمّك/ ولمّا تقوم بواجبك/ تصير كعبة تؤُمّها الأحرار. فسألته: وكيف المُسجّل؟ قال: بْرِنْجي وكلّ فْرَنجي بْرِنْجي، بالتّركي. وبعد هذا المسجّل كان خمسين ستين مسجّل، وخمسين ستين أسطوانة، وكنتُ أدفعُ خمسَ ليرات بالشهر، لِتسجيل أسطوانات قبلَ شراء المُسجّل. وتحدّث عن شغفِهِ بالموسيقى الشرقيّة والغربيّة: عام 1964 سكنتُ في دار قسطندي مْعمّر في حارة الروم، وكان يُعنى بالموسيقى الكلاسيكية، فنادى عليّ أولادُهُ إلياس وسمير في ليلة رأس السنة الميلاديّة لأسهرَ معهم، وحين سمعتُ أسطوانة الموسيقى الغربية، أحسستُ بموسيقى إلهيّة وطلبتُ أن أسَجّلها، ثم سجّلت أوبّرات وسمفونيّات، وكونشيرتات وسونيتات، وفوجا ومدريجال، فكتبت عن أوبرا عايدة هذه القصة المدهشة التي وجدوها في الآثار الفرعونيّة، مكتوبة بالخط الهيروغليفي، والأجانب كتبوها قصّة أوبرا إيطاليّة مبنيّة تركيبيًّا بأسلوب أوبرا غنائية فرنسيّة، وأنا ترجمتُها شعرًا مسرحيًّا باللغة العربيّة، عن فتاة حبشيّة أُسِرَت عند فرعون مصر، وكبرتْ في القصر، وكانت معركة بين الحبشة ومصر، فأحبّ القائدُ الحبشيّ عايدة الأسيرة الجميلة، فصارت تُنافسها ابنة الملك الحبشيّ، وتتعقّد القصّة وطنيًّا وعاطفيًّا بتصعيدٍ دراميٍّ رهيب، وفي النهاية يُلفّقون على القائد أنّه أفشى أسرار الدولة لعايدة، فحَكموا عليه بالدفن حيّا، فسبقته عايدة إلى القبر، وحينَ سمعَ أنينَها، خرجَ صوتٌ ثنائيٌّ لكليْهما يقول: وداعًا لدُنيا قد حَلمْنا بحُبِّها/ فلمْ يشفنا حُبٌّ ببعدٍ ولا قربِ/ وداعًا لأزهار بها العطرُ والندى/ تُقبِّلني بالحِلمِ من فمِكَ الرّطبِ/ وداعًا لأنغامٍ عزفنا جَمالها/ بأيدي أمانينا على وتر القلبِ/ وداعًا لأحلامٍ نراها تبدّدت/ فكانتْ كعصف الريحِ تلعبُ بالسُّحُبِ/ وداعًا لأرضٍ قد رتَعْنا برَحْبِها/ فصرنا بقبرٍ ضيّقٍ ليس بالرّحبِ/ سعيْنا إلى الخُلدِ الذي ضمّنا معًا/ ولولاهُ لَما كنّا لنسعدَ بالحبِّ. ثمّ انتقلت للسّكن في حارة النبعة (المسمّاة حارة الموارنة قرب كنيسة مار مطانس)، في دار حبيب الخوري في بيت أنيق قديم، سقفُهُ من خشب منقوش من فنّانين أتَوْا من لبنان في بداية القرن الماضي، وتركوا بصماتهم على سقوف كثير من البيوت القديمة في الناصرة، وكان في بيت حبيب الخوري مكتبة صغيرة فيها كتب قيّمة عن ملوك العرب لأمين الريحاني، وأسطوانات أغاني قديمة عربيّة كلاسيكيّ، وإلى جانب الأسطوانات جهاز فونوغراف (صندوق غناني كما كنّا نُسمّيه) قديم مهجور وبوق نحاسي، ولِحُسن حظّي كان الفونوغراف يشتغل وعلبته مليئة بالإبر، وكنت كلّما انبرت إبرة استبدلتها بغيرها، حتى أتيت سمعتُ وحفظتُ كل الأسطوانات. وتحدّثَ عنْ تَعَرُّفِهِ على زوجَتِهِ مها فقالَ: أمّ تميم بنتُ أصل، وأبوها مِن الطيرة وإخوتها أفاضل، ويَخلِفُ الله عليها لأنّها تحمّلتْني كثيرًا، لأنّي أضعُ الأذنية في أذني لسماع الموسيقى حتّى الصباح، وتُلملمُ أوراقي المبعثرة كلّ يوم، وتعطيني رأيَها بالجُمل الشّعريَة وبالقصائد، فهي ناقدتي الأولى وليست هَيّنة، ففي إحدى المرّات جاءَ أبي للمدرسة حيثُ أُعَلّم، وطلبَ مِنَ البناتِ في الساحةِ أن يَندَهْنَني، فرأى يافعةً ممشوقةً تركضُ بخفّة لتُناديني، ومثلما قالَ أحمد شوقي: تلفتت ظبية الوادي فقلت لها/ يا شبه ليلي فدتك الأعين السود/ أخذت سحر الهوى عن سحر مقلتها/ لا اللحظ فاتك من ليلي و لا الجيد/ ليلي مناد دعا ليلي فخفت له/ ولهان في خلوات الأرض شريد. هكذا أعجبَتْ مها والدي، وراحتِ الحكايةُ تسعَ سنين، والله بَعث لي أستاذ وقالَ لي: ابنة جيرانك! وكنت عند دار فراس الخوري، فقالت لي أُمّ حبيب: دايِر تْدوِّر عَ الرّوبة والرّوبة حَدّنا؟ ولمّا صارتِ القسمة، أحضرنا جاهة بخمس تاكسيات، وحين قالوا مبروكة، خرجت العروس لتقدّم القهوة فقال والدي: عليّ الحَرام هذه التي ركضت قبل تسع سنين لتناديك. أتاري كان عند الوالد إلهامٌ ربّانيّ، وأنا لا أُخَيِّبُ إلهامَ أبي لا بالشعر، ولا بالمتنبّي، ولا بالمعرّي، ولا بالناصرة حيث طلبَ أن أُرَبّي أولادي. تحدّث عن مهرجان المتنبي وقصيدة "ذكرى المتنبي" عام 1965: أنا أقول أن لا مُعلّم بدون المتنبّي والمعرّي، فكتبتُ قصيدةً عن المتنبّي، والآخرونَ كتبوا عن حياتِهِ وأبوابِ شِعرِهِ فقلت: يشيد بذكراك الحسام المشطّبُ ويُثني على ذاك اليَراعُ المُذهّبُ/ ومعرفة البيداء لما بلوتَ/ وخيل وليل حالك الجنح غيهبُ/ ودهر يغني في علاك قصائدا/ تزانُ بدُرٍّ من لغاك وتُقشبُ/ اتيت الى الدنيا فكبر اهلها/ وقالوا نبي قوله لا يُكذّبُ/ وفضت بشعر ليس ينضبُ نبعُهُ/ اذا ما ينابيع البواطن تنضبُ/ يقولون للسيف اليماني طيِّبٌ/ وانت من السيف اليماني اطيبُ/ ابا الطيب ان جاب الزمان على هدى/ وها هو يعطيك الذي كنت تطلبُ/ اباحك ملكا لا يُحدُّ/ ممنّعا تُحكَّمُ في ارجائه وتُقَرَّبُ/ فلا الذِّكْرُ يُغني عن وسيعِ إمارةٍ طلبتَ وكمُلْكٍ يزول ويذهبُ/ وما أنا إلاّ شاعرٌ وابنُ شاعرٍ/ إلى متنبي الشعر بالشعر يُنسبُ/ وقع بيدي كتاب الزير سالم، وفيه وصيّة كليب لأخيه الزير سالم المهلهل أبو ليلى، كتبها بدمِهِ على الصخرة البلاطة يقول فيها: يقول كليب اسْمَعْ يا مهلهل/ مذلّ الخيل قهّار الأسود/ على ما حلّ مِن جساس فيا طعني طعنة منها بعود/ أيا سالم توَصّى باليتامى صغار بعدهم وسط المهود/ واسْمَع ما أقلك يامهلهل وصايا عشر افْهَم المقصود/ فأوّل شرط أخوي لا تصالح ولو أعطوك زينات النهود/ وثاني شرط أخوي لا تصالح ولو أعطوك مالا مع عقود/ وثالث شرط أخوي لا تصالح ولو أعطوك نوقا مع كاعود/ ورابع شرط أخوي لا تصالح واحفظ زمامي مع عهود/ وخامس شرط أخوي لا تصالح وقد زادت نيراني وقود/ وسادس شرط أخوي لا تصالح فإن صالحت لست أخي أكيد/ وسابع شرط أخوي لا تصالح واسْفِك دمَهم في وسط بيد/ وثامن شرط أخوي لا تصالح واحْصد جمعهم مثل الحصيد/ وتاسع شرط أخوي لا تصالح فإني اليوم في ألم شديد/ وعاشر شرط أخوي لا تصالح وإلّا قد شكوتك للمجيد. وقد خرج عبدالناصر بلاءات المهلهل المشهورة لا تصالح، وشعرت أنّ هذا الشعر شفاءٌ للنفوس، وكنتُ أسمعُ بالراديو بولَعٍ وشغفٍ كبيرٍ الزجلَ اللّبنانيّ والزغلول وموسى زغيب والشحرور وزين شعيب وطليع حمدان وغيرهم، فكتبت أوّلَ قصيدة ونشرتها في الاتّحاد: عَ طريق العيْن ياما احلى المَشي/ يوم اللِّ غمزتيني وقلتِ بترمشي/ وفهمت يلا ع الوعر نطلع سوا/ ونهوش الزعتر وقلبي تهوشي/ وفهمت يلا ع الوعر نطلع سوا/ وِهْناك كُنّا أنا وإنتِ لا سِوا/ ولما نْعود وقبل نوصَل عمْسوا بيتكُم يقوم يشبقني بالمشي/ وكنتِ بروصِ الحِسِن شسنّ ببرعمِ/ وبالعطر شهقت كل زهرة مفعمِ/ نسرح ونمرح في براءة منعمِ/ ونلعب سوا يا قريمشة ويا نميمشة/ وناكل خبزة مقحمشة/ وبتعضّي بِسْنانِكْ عَ شِفّة مْخَمّشة/ وخدِّكْ مْورَّد متل خدّ المشمشة/ وأكمش النجمات من السما وانت تكمشي/ وكله على ذِكر الصبا تتقرمشي/ وأنشد قصيدة "جيبتين لوز": التي تحفل بالصور والشعر الريفي الفلسطيني: لاهيْت سِتِّي/ وْفُتِتْ عالوزْاتْها/ وْمن عُبّ لوزِه/ مْشَقْت جيبِةْ لوزْ/ وِلْحِقْت سَمْرا / سارْحَه بْعَنْزاتْها/ وْلاعَبْتها الكَمّوك/ فَرْد وْجوزْ/ خَوْثَتْني (جَنَّنَتْني) خِفِّةْ دَمّها وْلَفْتاتْها/ وِخْسِرْت مَعْها وْكان إلها الفوزْ/ أيْ قَشْقَلَتْني (خَسَّرتني)، شاطْرِه بْلُعْباتْها/ وْمن بَعِدْها ظَلّيت رايحْ دوزْ/ دُغْري لَسِتّي وْفُتِتْ عالوزاتْها/ وِمْشَقْت أُخرى مَرَّه جيبِةْ لوزْ !! لعبة "الكَمّوك" من ألعاب التسلية يلعبها أطفال فلسطين، فيُطبق أحدهم يديه على بضع حبّات من البنانير، أو بزر المشمش، أو اللوز، أو الكرز، أو الزعرور، ويهزّ الحبّات بين يديه، ثمّ يفصل يديه، ويمدّهما ويقول لزميله: بالجوز وِلاّ بالفرد؟ فإن حِزر ظفِر، وإن أخطأ خِسِر !! تحدّثَ عن إصابتِهِ بانفجارٍ دماغيٍّ قبلَ عاميْنِ: وكما قال أبو القاسم الشابي: سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ/ أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئاً بالسُّحْبِ والأَمطارِ والأَنواءِ/ لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى مَا في قَرارِ الهُوَّةِ السَّوداءِ/ وأَسيرُ في دُنيا المَشَاعرِ حالِماً غَرِداً وتلكَ سَعادةُ الشعَراءِ/ فقال الأسدي: الانسان معجزة، فحين كان عمري سنتين، أصابني التيفوئيد الخانق، والحكيم حمزة جاء من بلاد الشوف، وبنى مستشفى في حيفا والذي صار بقدرة قادر اسمه "رمبام"، ولم تكن ادوية للمرض فتركوني على طبيعتي في غرفة عزرائيل بالمستشفى، وابي كان مشغولا بالحركة الوطنية مع احمد حلمي باشا في القدس، وامي الله يرحمها كانت كل يوم تأتي إليّ مشيا من دير الأسد الى شارع السلطاني عكا صفد، لتنزل بالباص الى حيفا وتنزل عند جسر الشيخ، وتقطع مسافة بعيدة الى مستشفى حمزة، ولك يكن كيوسكات ومطاعم، فرأت على محطة الباص نساء يأكلن فلافل، فقالت: عزا عزا- هالخايبات ما بيستحوش ع دمهن بياكلوا قدام الناس؟ وكانت امي تنط فوق الشريط قبل ان ينتهي موعد الزيارة وتمسك بيدي الصغيرة، وتدعولي بالشفاء، وكان ابي يعود ويعاتب امي لايش مغلبة حالك ماهو بغرفة عزرائيل وبكرة بتلفوه بشريطة وبتجيبوه ونؤاويه، وصارت حرارتي 44 مثل ما قال د. حمزة وطبت وشفيت، ورأيت عزرائيل ينطنط فقلت له حل عني ودوّر لك على واحد تاني، فأجابتي: لتعرف؟ ولا عدت أسأل عنك. وحين خرجت امي بي من المستشفى ناداها د. حمزة وقال: بدي اطمنك سعود ماعاد يموت. وانا نشالله بقدر أكذب د. حمزة؟ ما في حدا لا يخاف الموت لأن الحياة ما في أغلى منها: خوفي أنا من الموت مش عادي/ بخاف منه خوف بزيادة/ وخوفي مش أنانية وما هو على أهلي وعلى وْلادي/ وماهو على تحقيق أمنية/ كل الأماني إلي منقادة/ ماهو جبن من شيء او نية في الهرب من نيران وقادة/ وماهو ضعف او زود حنية/ الموت عندي نوم ع وسادة/ بخاف بكرة ان متت عينيّ ما يعودوا يحظوا بشوفة بلادي! أنا بَحِبّ الحياة وبَعشقُ بلادي، وبَتصدّى للموت بالخلود في إبداعي، وأنا اليوم بعدَ إصابتي، أحسنُ من الأوّلِ بمليون مرة والحمدلله، وحين كنتُ في مستشفى رمبام في حيفا، حضر رئيس بلديّة الناصرة رامز جرايسي ورآني فقالَ لي: ما بِكَ؟ لماذا أنتَ مُمَدّدٌ هنا في المستشفى؟ فقلتُ لهُ: ولا شيء، أنا مُطَعَّمٌ بالمتنبّي، ومُحَصَّنٌ بأبي العلاء المعري، ووالله لو جاءَني عزرائيل، سأُفَلِّتُ عليه المتنبّي، ورَبُّه ما رَح يْخلّصُه مِن قوْلِ المتنبّي: أُطاعِنُ خَيْلًا مِنْ فَوارِسِها الدّهْرُ/ وَحيدًا وما قَوْلي كذا ومَعي الصّبرُ/ وأشْجَعُ منّي كلَّ يوْمٍ سَلامَتي/ وما ثَبَتَتْ إلّا وفي نَفْسِها أمْرُ/ تَمَرّسْتُ بالآفاتِ حتى ترَكْتُهَا/ تَقولُ أماتَ المَوْتُ أم ذُعِرَ الذُّعْرُ/ وأقْدَمْتُ إقْدامَ الأتيّ كأنّ لي/ سوَى مُهجَتي أو كان لي عندها وِتْرُ/ ذَرِ النّفْسَ تأخذْ وُسْعَها قبلَ بَيْنِها/ فمُفْتَرِقٌ جارانِ دارُهُما العُمْرُ/ ولا تَحْسَبَنّ المَجْدَ زِقًّا وقَيْنَةً/ فما المَجدُ إلاّ السّيفُ والفتكةُ البِكرُ/ ما مقامي بأرضَ نخلةَ إلّا/ كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ/ مَفرشي صهوةُ الحصانِ/ ولكنّ قميصي مَسرودة مِن حديدِ/ أبدًا أقطعُ البلادَ ونجمي/ في نحوسٍ وهِمّتي في سعودِ/ ضاقَ صدري وطالَ في طلبِ الرّزقِ قيامي وقلَّ عنهُ قعودي/ عِشْ عزيزًا أو مِتْ وأنتَ كريمٌ بينَ طعْنِ القنا وخفقِ البنودِ/ لا كَما قد حَييتَ غيرَ حميد وإذا مِتَّ مُتْ غيرَ فقيد/ فاطلُبِ العِزّ في لظًى ودَعِ الذُّلّ/ ولو كان في جنّاتِ الخلود/ لا بِقوْمي شُرِّفْتُ بل شُرِّفوا بي وبنفسي فخَرْتُ لا بجُدودي/ وبهم فخرُ كُلُّ مَنْ نَطقَ الضّادَ وعوْذُ الجاني وغوْثُ الطريد/ إن أكُنْ مُعجَبٌ فعَجَبٌ عجيبٌ لمْ يَجِدْ فوْقَ نفسِهِ مِنْ مَزيدِ/ أنا تَرِبُ النّدى ورَبُّ القوافي وسمامُ العِدا وغيظُ الحسودِ/ أنا في أُمّةٍ تَدارَكَها الله غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ وعن الشام قال: الشامُ هي شامُنا وشامُ الدنيا، لأنّنا نحنُ الرّومُ هنا مِن سلالتِها، وعندما عملت الشّام الدولةَ العربيّة، فكلُّ المُوظّفين في دواوين الدولةِ ودواوين الجند، والضرائب والمكوس وغيرها، كانوا مِنْ مَسيحيّي الشام، والشامُ هي مدينةٌ لحضارةٍ عربيّةٍ أصيلة، كانت ولا زالت وستبقى، وكلُّ الطوائفِ المَسيحيّةِ الشرقيّةِ كانَ لها دوْرٌ هامٌّ في الحضارةِ الإسلاميّة، لأنّ الغساسنة الذين كانوا في الشام، كان أكبرَ شعراءِ العربِ منها حسّان بْنُ ثابت، كان يأتي إلى دمشقَ ويقولُ: للهِ درُّ عصابةٍ نادمْتُهُم/ يومًا بجلقٍ في الزمانِ الأوّلِ / أولاد جفنة عند قبر أبيهم/ قبر ابن مارية الكريم المفض/ يسقون من ورد البريص عليهم/ بردى يُصفق بالرحيق السسل/ يُغشون حتى ما تهر كلابهم/ لا يسألون عن السواد المقبل/ بيض الوجوه كريمة أحسابهم/ شُمُّ الأنوفِ مِنَ الطّرازِ الأوّلِ ومن قصائد سعود الأسدي للشام: هتفتُ بالشامِ ما أحْلاكِ يا شامُ/ والشامُ تشهدُ أنّ اللهَ رَسَّامُ/ بريشةِ الحُسْنِ ربُّ الكونِ زَخْرَفَها/ كالشعرِ زَخْرَفَهُ مَعْنىً وأنغامُ/ يا شامُ يا شامة َالدّنيا وبسمتَها / لولاكِ ما قلتُ: ثغرُ الدهر ِبسّامُ/ ولم اُعيّدْ فأعيادي رَحَلْنَ وما / تفتّحَتْ في رياض ِالرّوح ِأكمامُ/ ولا عَزَفْتُ على قيثارتي نغمًا/عَذبًا لتَدْمُرَ قد نَدّاهُ إحكامُ/ ولا شَدَوْتُ بأشعارٍ مُعَتَّقَةٍ /غَنّى بها بَعْدَ عشتاروتَ آرامُ من جاسمٍ ، وأبو تمّامٍ اتّسقَتْ/ أشعارُه وهو للأشعار تمّامُ/ وهو الذي اعتامَ من شعرِ الحماسةِ ما/ يَعْتامُه الذوقُ، والأشعارُ تُعتامُ/ وَمَنْبِجٍ، ووليدُ الشعْر أرْسَلَه/ كالغيم يَهْمي له في الحِسِّ إرْهامُ/ حتى غَدَا كلّ قوس ٍفوقهُ قُزَحا/ مُضَمَّخًا تستقي رَيّاهُ أنسامُ/ يا شعرُ عَرِّجْ على الشهباءِ شامخةً/ بما ابتناهُ زكيّ العِرْق ِمقدامُ/ قد كانَ سيفًا وَصَمْصَامًا لدولتِهِ/ ما كلُّ سيفٍ بيومِ الرّوْع ِصَمْصَامُ/ وَسَلْ رُباها ورَبَّ الشعرِ ملحمةً/ تعيدُ مجدَ الألَى في مجدها هاموا/ للهِ دَرّكَ يا كِنديُّ كمْ دُرَرٍ / لكَ اشتهى نظمَها في السِلْكِ نَظّامُ/ أقمتَ بالشعر مُلكًا لا حدودَ له/ بمثلِه أبَدًا ما هَمّ هَمّامُ/ ونلتَ خُلدًا وذي الأحقابُ شاهدةٌ / وسائرُ الناس ِأيّامٌ وأعوامُ/ وفي المَعَرّةِ عِمْلاقٌ به طلعت/ شمسٌ فزالَ عن الأفكار إظلامُ/ عَرّى الحقائقَ حتى بانَ غامضُها / كالصبح ِ وانزاحَ تضليلٌ وإيهامُ/ قد شادَ للعقلِ لمّا أن أشادَ به/ صَْرحًا، ولكنْ قليلُ العقل ِهَدّامُ/ من لي بعقل ِ"رهين ِالعقلِ" أعبدُهُ/ ربًّا، فما يعبدُ الجهّالُ أصْنامُ/ والدين فيهم نِفاقٌ لا نَفاقَ له/ وإنّهُ فيهمُ قتلٌ وإجرامُ/ قد جيّشوا الغربَ والأَعرابَ يخدمُهم / في معرضِ الكذبِ والتضليل إعلامُ/ وهي "الجزيرة" عنوان الفسادِ بها / إمامُ فسقٍ له الخَدّام "خَدّامُ"/ يا شعرُ عُدْ بي إلى الفيحاء أسألها/ رشفًا لروحيَ ممّا تسكبُ الجَامُ/ فإن سَكِرْتُ فإنّ الوَجْدَ أسْكَرَني/ شوقًا إليها وبعضُ الوَجْدِ إكرامُ/ وإن شَقَقْتُ ثيابي فاعذروا رجلاً / صلّى وصامَ لمنْ صَلَّوا ومنْ صاموا/ إنّي لأسجدُ في الفيحاءِ مستلمًا/ ركناً لتاريخِها والعدلُ قوّامُ/ على ضفافٍ لنهرٍ جالَ في خَلَدي / منذ ُ الطفولةِ ، فيه الطيرُ عَوّامُ/ كأنّما الطيرُ خيلٌ فيه سابحة / لها من الرّيح إسراجٌ وإلجامُ/ والزهرُ في ضِفّتيه نرجسٌ عَبِقٌ/ أنفاسُهُ لاغَضًى يُؤذي وقُلاّمُ/ وظبيةُ الأنس تشدو في رفارفِه/ يا ليلُ" والليلُ رَغْمَ السِّتر نَمّامُ/ والراقصاتُ حواري النبع ِقد أنِسَتْ/ والوارداتُ ضفافَ النهرِ آرامُ/ والحاملاتُ بَخُورًا مِسْنَ من طرَبٍ/ مَيْسًا، وَرَفّتْ مناديلٌ وأكمامُ/ سُمْرٌ وشقرٌ بناتُ الشام ِقد وُصِفتْ/ بشعرِ من شِعْرُهُمْ تهْواه أفهامُ/ فذا نزارٌ وقد أصْغَى الوجودُ لهُ / مُذ جادهُ من إلهِ الشعر إلهامُ/ أعادَ سحرَالهوى يا حسنَه غَزَلًا/ فَذًّا، همومٌ بهِ تُجْلََى وأسقامُ / وذاكَ شبلي الذي غنّت قصايدُهُ / ببأس ِقوم ٍعلى الأتراك ِ قد قامُوا/ وإنّ سلطانَ باشا قائدٌ علمٌ/ بالنصرِ يخفقُ ما وارَتْهُ أعلامُ/ قد ثارَ والناسُ قد ثاروا لثورثِهِ / ورامَ فوزاً وقد فازوا بما راموا/ وميسلونَ ثَوَى ليثٌ بساحتِها/ هُوَ ابنُ عَظْمَة َقد وَافاهُ إعظامُ/ أولاءِ أقطابُ مَجْدٍ تَمَّ عِقْدُهُمُ/ لمّا أتى الشيخُ عزُّالدينِ قسّامُ/ كم صالَ في ساحةِ الهيجا وصال بها/ كأنّه في رَحَى الميدانِ ضِرْغَامُ/ وهو الشهيدُ قضَى في يَعْبَدٍ ولقد/ باتَتْ تظلّلهُ في الأرض آجامُ/ أولاءِ قومي وقد اُرضِعْتُ مجدَهُمُ/ وقد كَبِرْتُ ولمّا يَأن ِ إفطامُ/ من صُغر سنّي حلمتُ الشامَ أقدُمُها/ وهي التي صاغَها عزمٌ وإقدامُ / قد كنتُ طفلاً بأحلامي ويسعدُني/ بأنْ أظلَّ، وهلْ في الحُلْم ِاُلتامُ/ واليومَ حينَ رأيتُ الشامَ في حُلُمي/ وقد سعدتُ، فهلْ لي بعدُ أحلامُ/ حقّقتُ حُلْميَ في حُلْمي فَوافَرَحي/ فللحزينِ من الأفراح أيّامُ/ آلامُ روحيَ قد زالتْ برؤيتها/ فعَنْ فلسطينَ هلْ تنزاحُ آلامُ/ فالقدسُ في جُرْحِها والجُرْحُ يُؤلمُ/ والشامُ ينتابُها للجرح إيلامُ/ طوباكِ يا شامُ كمْ عِبءٍ نهضت ِبه/ ففيكِ للمجدِ أخوالٌ وأعمامُ/ في الشام أهلي وقلبي فيه موضعُهم/ فلنْ يَضُرَّ بحُبِّي الشامَ لُوّامُ/ إنّ العروبة َإنْ ضاقَتْ بها سُبُلٌ/ نادَتْكِ فانفرجتْ، لبّيكِ يا شامُ ! هوامش: 1- تدمُر: مدينة سورية تاريخية من أشهر ملوكها أذينة وزوجته زنوبيا . 2-جاسم: مدينة في حوران ولد فيها أبو تمّام حبيب بن أوس الطائي الشاعر الحكيم، صاحب ديوان الحماسة. 3-منبِج: مدينة في شمال سوريا ولد فيها الوليد بن عبادة البحتري. 4-الكِنْديّ: هو أبو الطيّب المتنبي شاعر العرب الأكبر، نسبة إلى كندة قرب الكوفة. 5-رهين العقل: هو رهين المحبسين الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعرّيّ نسبة إلى معّرة النعمان قرب حلب الشهباء/ البيضاء مدينة سيف الدولة الحمداني . 6-الفيحاء: هي دمشق سُمّيت الفيحاء لاتساعها. 7-النهر: نهر بردى . 8-نزار: هو نزار قبّاني شاعر الغزل الأكبر. 9- شبلي: هو شبلي الأطرش: أمير شعراء العامة، له ديوان ضخم يحوي قصائد ملحمية تحكي عن أمجاد ثورة جبل حوران على الأتراك، وفيه تصوير لمعاناة جبل حوران من بطش الأتراك، وشدة بأس بني معروف في قراع، مدحت باشا وعسكره، وما لاقاه شبلي الأطرش من نفي وتشريد عن الأهل والوطن في الأناضول وجزيرة رودس وماطة وسواها، ولكن ديوان شبلي للأسف غير مخدوم بالشرح والتعليق ناهيك عن طباعته السيئة. 10- سلطان: هو سلطان باشا الأطرش قائد عام الثورة السورية ضد المستعمرين الفرنسيين حتى نالت سوريا استقلالها. 11-ميسلون: موقعة قرب دمشق استشهد فيها القائد يوسف العظمة في معركة ضد الفرنسيين. 12- الشيخ عز الدين القسّام: ثائرمن جبلة في سورية قدم إلى فلسطين، وقاد ثورة 36 على الإنجليز، استشهد في أحراش يعبد قرب جنين.