كانت الأوضاع في ماليزيا أيام الاحتلال البريطاني -الذي تخلصت البلاد منه في 31 أغسطس/آب 1957- مضطربة ومختلة لأن المحتل سعى وقتها لزرع ألغام الفرقة بين العرقيات والقوميات المختلفة، حيث أجبر الملايو، وهم أغلبية السكان، على السكن في الأرياف لزراعة الأرز، وأُسْكِنَ الصينيون في المدن للعمل في التجارة، وتُرك الهنود يعملون في جمع المطاط، مما أدى إلى تفجر توترات اجتماعية كثيرة، تصاعدت إلى صراعات عنيفة هزت البلاد عام 1969. الأمر الذي جلب المزيد من المخاوف لدى الجبهة الوطنية في ماليزيا، المعروفة اختصارا ب"أمنو"، وحث قياداتها على ضرورة الإسراع بالتغيير. كاتب وكتاب نسب إلى ونستون تشرشل قوله ذات مرة إن تقرير التاريخ سوف يتذكره إيجابيا لأنه سيكون واحدا من كتاب هذا التقرير. كما أن كتاب الدكتور محاضر محمد الموسوم "طبيب في البيت"، يرمي إلى أن يفعل الشيء نفسه لصاحبه. فبعد انتظار وترقب لثماني سنوات، شهد مارس/آذار 2011 صدور كتاب الدكتور محاضر محمد، الذي حمل عنوان: "طبيب في البيت"، والذي ضم بين دفتيه 62 فصلا، وغطت تفاصيل سيرته الذاتية، وأحداث عقود من السياسة والفعل والإنجاز هي بعمر ماليزيا الحديثة. ففي هذه الصفحات تأخذ ذكريات محاضر القارئ في رحلة خاصة داخل خصوصيات حياته، التي لم تكن معروفة إلا لعدد قليل جدا من أفراد أسرته القريبة، بدءا من ذكريات الطفولة، والصبا والشباب، والدراسة والوظيفة، والحب والزواج، لحياته كطبيب، ونضالاته المستمرة كسياسي، والسعي لتحقيق أهداف بلاده. ويدلف من ذلك إلى أهم الأحداث في تاريخ المالايو، من النضال حتى خلال غروب شمس الاستعمار البريطاني، والاستقلال، وما حمله من مخاوف وآمال. أو كما قال: "هذه قصة ماليزيا كما أراها، وهي قصتي أيضا. لقد كتبت عن حكمة آبائنا المؤسسين الذين وضعوا النظام السياسي الذي مكن البلاد لحل المشاكل والتحديات الكامنة في مجتمع معقد بطريقة ديمقراطية وسلمية". كان محاضر -الذي ولد في 20 يونيو/حزيران 1925- هو الابن الأصغر بين تسعة أشقاء، ولم يكن راتب والدهم، الذي عمل مدرس ابتدائي يكفي لتحقيق حلم ابنه محاضر لشراء عجلة يذهب بها إلى المدرسة الثانوية، فما كان من محاضر إلا أن عمل "بائع موز" حتى حقق حلمه، ودخل كلية الطب في سنغافورة المجاورة، وأصبح رئيساً لاتحاد الطلاب المسلمين بالجامعة قبل تخرجه سنة 1953، وعمل طبيباً في الحكومة الإنجليزية المحتلة لبلاده، وفتح عيادته الخاصة كجراح، وخصص نصف وقته للكشف المجاني على الفقراء، مما أهله للفوز بعضوية مجلس الشعب عام 1964، الذي عمل فيه مدة خمس سنوات ثم تفرغ للتأليف عن مستقبل ماليزيا الاقتصادي. إلا أن كتاب "معضلة الملايو"، الذي نشره عام 1970، صار معضلة حقيقية له، إذ قامت الدنيا ولم تقعد لاتهامه شعبه بالكسل والاتكالية، ودعوته إلى ثورة صناعية شاملة تتيح لماليزيا الخروج من حلقة الدولة الزراعية المتخلفة. وبين منع الكتاب من قبل منظمة المالايو القومية المتحدة وقدرة محاضر على التنظير، وحنكته في كسب الأتباع داخل حزبه، صعد نجمه السياسي بسرعة قياسية ليتم انتخابه "سيناتور" في سنة 1974، وتولى وزارة التربية والتعليم، ثم نائبا لرئيس الوزراء، ومن بعد رئاسة وزراء بلاده عام 1981 ولمدة 22 عاما، مما أتاح الفرصة كاملة لآن يحول أفكاره إلى واقع. حيث أوصلت رؤيته ماليزيا لما هي عليه الان، وحولها من دولة تصدر سلعا زراعية أولية بسيطة لدول متقدمة إلى دولة ذات نهضة اقتصادية عالية وصناعية متقدمة. وفي هذا الكتاب، يتحدث محاضر عن والديه وجذوره المختلطة بين الملايو والهند. على الرغم من أن الدم الهندي يجري في عروقه إلا أنه، يقول في الكتاب: "أنا من الملايو وفخور بذلك". وأضاف: "أنا ملايو وليس فقط على الورق. وأنا أيضا ملايو في المشاعر والروح". إلا أن الجزء الأكثر ملامسة هو كشفه لكيفية سعيه لكسب ود زوجته التي كانت زميلته في كلية الطب: "كل من الفتيان سقطوا فوق بعضهم البعض لحمل كتبها". "فبجانب قريباتي من البنات، لم يسبق لي أن اجتمعت حقا بفتيات من قبل وليس لدي فكرة عن كيفية التصرف من حولهن". وأضاف "لكن لم أكن أريد أن تتغافل عنه. ولذا، فإنني التقطت أخيرا شجاعتي لتقديم خدمات حمل كتابها". وقد أعلن الزوجان مشاعرهما لبعضهما البعض في 23 أبريل/نيسان 1949، وهو التاريخ الذي يحتفلان به كل عام". بين مكة وطوكيو قال الدكتور محاضر إن الرسالة الرئيسية للكتاب هي: "حيث هناك إرادة هناك وسيلة"، و"إن أفضل مكافأة ليست المال، ولكن نتيجة عملنا". وقال قبل تقاعده كرئيس للوزراء في الحكومة الماليزية، إن حكومته أدركت تماما أهمية اعتناق قيم إيجابية لتحقيق التقدم المنشود للمجتمع والدولة في ماليزيا، ولهذا دعا منذ توليه رئاسة الوزراء عام 1981، إلى "سياسة النظر شرقا"، والمقصود بها اعتناق قيم العمل السائدة في اليابان وكوريا، التي تقوم أساسا على الانضباط الشديد والإخلاص التام لجهة العمل، والحرص على اختيار المديرين المتميزين ليكونوا قدوة لموظفيهم. وذلك حفزا لمستقبل مشروع ماليزيا للتحول إلى دولة عظمى في 2020، وفق منظورها الحضاري الخاص، الذي قصره على المسافة الفاصلة بين مكة وطوكيو، وما بينهما من معيارية القيم الإيمانية، التي تمثلها مكةالمكرمة، وقيم العمل اليابانية، والتي رمز لها بعاصمتها طوكيو. فهو القائل "إذا أردت الصلاة فسأذهب إلى مكة وإذا أردت العلم فسأذهب إلى اليابان". فقد رأى محاضر أن ماليزيا لا يمكن أن تفصل من قيم أمتها الإسلامية، كما أنها جزء من المنظومة الحضارية الآسيوية، وأن ثقافة العمل في اليابان بشكل خاص هي الأنسب لثقافة وتكوين بلاده. الأمر الذي بدا مخالفا لما جرت عليه العادة في دول العالم الثالث، التي كانت دائما ما تنظر إلى الغرب عموما والولاياتالمتحدة بشكل خاص، كنموذج يحتذى في قيم التطور، وفي مفهوم البحث عن أسباب الرقي الحضاري المادي. لهذا، نجده يحدثنا في كتابه أنه قد نظر شرقا بعد أن وطن نفسه في عقيدة أهل مكة، التي هي في الغرب الجغرافي لماليزيا، فكان دائم الاستعانة بحقيقة الإسلام وقيمته وآثار الالتزام به في ترسيخ رؤيته للحكم وآرائه في السياسة. فماليزيا الكيان الجامع، والدولة الحاكمة، والعقيدة الدينية، والأعراق المتساكنة، والمجتمع المتسامح، والحياة الغنية، والإنسان الفاعل، والإمكانات الوفيرة، وآلام الانكسار، وأشواق النهوض، وأحداث التاريخ، وإرث الماضي، وعنفوان الحاضر، وكل آمال المستقبل، كانت هي قصة حياته. وكلما عبرنا بابا من أبواب هذا الكتاب الممتع نجد أننا رحلنا في عالمين مختلفين مؤتلفين، ليس هما مكة وطوكيو فحسب، وإنما نعايش فيهما فترة من عالمه هو الشخصي، ومرحلة من تفاصيل قصة ماليزيا، التي اختلطت بسيرته، وتمازجت معها، وسمت بها. فهو في كل أفكاره ورؤاه ونشاطه وحركته السياسية، قد اختط المنهج ووضع الإطار المرجعي لنموذج دولة ناهضة اسمها ماليزيا. حاول أن يموضعها في فضائها الحضاري مستعلية بين الأصل والعصر، وأن يصوغ مشروعها الوطني التنموي وفق أحكام القيم العادلة، وفضائل العمل الناجزة. فعرفت ماليزيا بسرعة نموها وتقدمها الاقتصادي المذهل، وعاشت بتناغم مكوناتها العرقية والدينية والثقافية، فكان زعيمها المتوج، قاد مسيرتها النهضوية، وسهل عليه إدارة تعددها الإثني على قاعدة من تسامح الإسلام الوسطي المعتدل. إدارة التنوع قد لا تكون ماليزيا قد صيغت على غرار الديمقراطيات الليبرالية في الغرب، ولكنها أديرت من قبل حكومات منتخبة من الشعب على المستويات المركزية وحكومات الولايات. لم تكن العديد من المستعمرات السابقة قادرة على جعل الديمقراطية تعمل. ولكننا استطعنا. فقد أصبح من الأمور اللافتة للنظر في التجربة الماليزية، في عهد محاضر قدرة المجتمع الماليزي على تجنب الصراعات والخلافات بين المجموعات العرقية الثلاث المكونة للسكان البالغ عددهم 24 مليون نسمة، وهي المالايو الذين يمثلون 58% من السكان، والصينيون الذين تبلغ نسبتهم 24%، والهنود ونسبتهم 7%. فقد أدرك الماليزيون، إثر الصدامات العرقية التي وقعت عام 1969، أن استمرارها يعني أن يخسر الجميع، ومن ثم استطاع قادة المجموعات العرقية إيقاف هذه الصدامات بحيث لم تتكرر بعدها إلى اليوم. وصار التحالف الحاكم يضم 14 حزبا تمثل مختلف المجموعات العرقية، وهذا يعني أن المالايو، وهم الأغلبية، قبلوا المشاركة في السلطة لا الاستئثار بها. وهذه المشاركة هي التي ضمنت انتقال السلطة بسهولة من محاضر إلى خليفته إذ إنه انتقال داخل إطار النظام، وليس تغييرا للنظام. صراعات ونجاحات إن هذا الإنجاز الرائع، كغيره، لا يخلو من الجدل، والرؤية الاستثنائية للدكتور محاضر الذي أكسبته قبضته الحديدية أعداء وكذلك معجبين متحمسين على حد سواء، داخل وخارج ماليزيا. وقد وصف عادة، وبمفارقة غريبة، بأنه الدكتاتور المستبد، والزعيم الملهم، والشجاع والمدافع القوي عن المضطهدين وعن العالم الثالث والإسلام المعتدل. لقد تناول محاضر غريمه السياسي اللدود أنور إبراهيم في فصلين كاملين عنونهما ب"أنور ينضم للمنظمة الوطنية الماليزية المتحدة" و"تحدي أنور"، غالط في الأول الاعتقاد الشائع بأن المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة توددت لأنور، قائلا إن أنور هو الذي قام بالخطوة الأولى. وفي الوقت الذي تحامل فيه بشدة على أنور إبراهيم، اجتهد كثيرا في الدفاع عن أخطاء وزراء آخرين في حكومته. إذ جاء في فصل بعنوان: "الدايم يصبح وزير المالية"، قوله إنه اضطر إلى الدفاع عن عبد الدايم ضد الادعاءات المتكررة التي كانت تتهمه بأخذ الرشى. وكتب محاضر أنه "عندما صار الحديث أكثر من اللازم ولم يعد بإمكاني تحمله بعد الآن، رتبت له الاستقالة". ورغم ذلك، فقد أتيحت للدكتور محاضر الفرصة كاملة ليحول أفكاره إلى واقع، بحيث أصبحت ماليزيا أحد أنجح الاقتصاديات في جنوب آسيا والعالم الإسلامي. فهو لم يكن سياسيا يقف على رأس رئاسة الوزراء فحسب، بل كان مفكرا وكاتبا، له رؤية إستراتيجية واضحة يدعمها تطلع لما ينبغي أن يكون عليه مستقبل بلاده. فهو مهندس خطة 2020، وهو العام الذي اتخذه هدفا لوصول ماليزيا لمصاف الدول المتقدمة، وأن تكون الدولة الخامسة في العالم اقتصاديا، إذ تتلخص الفكرة في الوصول إلي معدل نمو بنسبة 6.7% في الفترة من 1971 إلى 1990، ثم بنسبة 7.1% في الفترة من 1991 إلى 2000، ولتبلغ الغاية بتكرار ذات نسب النمو المرتفعة. بالطبع لم يتحقق كل هذا من فراغ، بل كان وراءه مجموعة من السياسات التي جعلت ماليزيا تتمتع بأحد أفضل بيئات الاستثمار في جنوب آسيا حسب دراسات البنك الدولي. وأهم من ذلك هو أن الحكومة الماليزية كان لديها دائما تصور، أو رؤية للمستقبل. إذ إن محاضر لم يكن فقط سياسيا يتولى رئاسة الوزراء، بل كان أيضا مفكر له كتبه ومؤلفاته، وصاحب رؤية لما ينبغي أن تكون عليه بلاده. الخاتمة في كل منعطف تقريبا، وتصديقا لمقولة تشرشل، أعاد الدكتور محاضر كتابة القواعد. وهذا الكتاب يكشف عن جوانب غير معروفة حتى الآن عن هذا الرجل، الذي يحب الخصوصية بشكل عميق، ولكنه رجل دولة جريء في المحافل العامة. فهو يوفر سردا واضحا ومقنعا للتاريخ السياسي الماليزي الحديث من خلال وجهة نظر أحد أعظم الذين ساهموا في تشكيله. وهو لا يعد اعتذارا وليس دفاعا، ولكنه في كثير من الأحيان عرض حساب مثير مقنع وقوي، حول الكيفية التي تمكن بها الدكتور محاضر من تحقيق ما فعله، وفي وقت قصير جدا، وما السبب في ذلك. لقد عنيت هذه السيرة بالجوانب المتعددة لشخصيته، مثلما انصرفت إلى استجلاء أوضاع المجتمع والدولة في ماليزيا. فهو إذ يضع قصة حياته ضمن إطار ماليزيا التاريخي والاجتماعي، فإنه يتيح بذلك للقارئ التمييز بين التقلبات السياسية في الخطاب والممارسة لهذا الزعيم الذي ولج الردهات المختلفة واستجاب للأحوال المتغيرة، وبين الرؤى والمبادئ الأبعد غورا، التي عملت على صياغة وتشكيل أيديولوجيته الكلية، والتي برزت في أسلوب إدارته للشأن العام. فقد تعامل مع فن الممكن عندما وضع نظرياته السياسية موضع التطبيق، وذلك من خلال جوهر الرؤية المركبة التي نظر بها إلى أحوال بلاده وأحوال العالم من حوله.