بدأت مصابيح الحي تشتعل تباعا على إيقاع صراخ الأطفال وتوسلات الأم، كانت نافدة بيت المكي هي أول نافدة تفتح بعنف، ويخرج منها صوت غاضب : "ثاني بدينا آ الجيران د الويل... حنا ما ننعسوش.. ما كاين مخزن ما كاين حكام فهاد البلاد.." شعرت بالمهانة، احتضنت أطفالها وتوقفت عن التوسل، طالبتهم بأن يكفوا عن البكاء، لكن دموعها استمرت بالانهمار بلا انقطاع، رفعت بصرها الى السماء..لم تجد ما تخاطب به رب السماء غير دموعها الساخنة.."يا ربي راك عالي وعالم.." اختفت كل الكلمات.. هدأ الأطفال قليلا وهم يحيطون بجسمها النحيل، ويحاولون دفن رؤوسهم الصغيرة بين ثناياه.. التفتوا على وقع خطوات قادمة نحو آهاتهم الدفينة.. إنها للا خدوج زوجة المكي، تحمل معها غطاء قديما، وقنينة ماء.. سبقتها دموعها إلى احتضان الأم والأطفال، همست في أذنها "ما كرهتش ندخلك للدار ولكن راكي عارفة.. يلا دخلتك يخرجنا المكي بجوج للزنقة فهاد الليل.." ما كاد الصوت الغاضب يميز خيال زوجته أسفل المنزل حتى صاح بها "ادخلي لدارك، ما قادرين على مشاكل.. تنوض تمشي للبوليس..واه هو يخرجهم ويرجع ينعس وحنا نباتو فايقين.." وضعت للا خدوج الغطاء على الأطفال، ومدت قنينة الماء للأم وعادت مسرعة الى بيتها بخطوات سريعة.. لم يخرج أحد من بقية الجيران، لقد ألفوا هذا المشهد، ولم يعد يستفز فضولهم، فهم يعرفون ماذا حدث وما سيحدث في الليلة القادمة فلم يجازفون في هذا الليل البارد بالخروج، اكتفى بعضهم بالتفرج عليها من وراء شقوق الشبابيك، بينما وجد آخرون الجرأة الكافية لكي يطلوا برؤوسهم كأنهم يتابعون مشهد قطة ترضع صغارها تحت الأسوار.. أيقظ أنين الأطفال خالد الساكن الجديد في البيت المجاور، نزل بسرعة ..أرعبه المشهد، حرك بين جوانحه ذكريات موجعة.. لم يتمالك نفسه، انقض على الباب وأخذ يطرقه بعنف، ويصب جام غضبه على هذا الوحش "اللي ما لقاش الرجال"..لم يفتح الباب، ارتفع صراخ الأطفال من جديد.. تزايدت زخات المطر..التفت إليهم..لم يقل شيئا، أدار ظهره ومشى وهو يردد بصوت مرتفع "لا حول ولا قوة إلا بالله...لا حول ولا قوة إلا بالله.." غاب لحظات، ثم عاد، فتح باب المرآب بسرعة..أخرج سيارته المتهالكة..ركنها جانبا، ثم حمل الأطفال واحدا تلو الآخر، ودعا أمهم للدخول.."ما تخافوش..نجيب ليكم الفراش والغطاء، وباتو هنا حتى للصباح.." قبل أن يطفئ النور ويغادر المكان، التفت إليها وسألها "في الصباح تمشي لداركم ولا تمشي للبوليس؟" لم ينتظر جوابا حائرا، أغلق باب الكراج، اطمأن على سيارته التي كان يغسلها المطر ثم عاد إلى بيته...