قصص قساوسة مرّغوا أنف الكنيسة في التراب، وجعلوا الفاتيكان يشعر بالخزي والعار إذا كان التحرر من الكنيسة قد صاحب الثورة الفرنسية في العقود الأخيرة من الألفية الماضية، فإن السنوات الأولى من الألفية الجديدة شهدت ثورة جديدة على ما تبقى للكنيسة الكاثوليكية في الفضاء الأوروبي وذالك بسبب الفساد الكبير الذي ظل ينهش في جسد الكنيسة الكاثوليكية ويسلبها ماتبقى من وجود، فالفضائح الأخلاقية لرجال الدين الكاثوليك بدأت بالانكشاف منذ سنوات ولا يزال التداعي مستمرا والفضائح الموثقة تتوالى إلى يومنا هذا وانحرافات القساوسة الجنسية أصبحت بمثابة الزلزال الذي أصاب الكنيسة الكاثوليكية في مقتل وأزعج الفاتيكان أيما إزعاج وجعلت هيبة الكنيسة على المحك . إنحراف الكنيسة.. وأعمق أزماتها الوجودية يتردد في الكثير من الأوساط الغربية بأن الكنيسة أصابتها اللعنة، فلا تكاد تخرج من ورطة حتى تسقط في مأزق، فالفضائح تطاردها في كل الأماكن وكل الأوقات ، فبعد سلسلة طويلة ومشينة من فضائح رجال الكنيسة الكاثوليكية في الولاياتالمتحدة شمالها وجنوبها والغرب الأوروبي، لم يعد الفاتيكان قادرًا على إطفاء نار غضب وثورة ضحايا تجرعوا الألم لسنوات طوال على أيدي رهبان وقساوسة منحرفين جنسيًا، وذلك على الرغم من المحاولات المستميتة لتكميم الأفواه ومنع المساس بأباطرة الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية ،وقد حاول الفاتيكان مرات ومرات من خلال جحافل المؤسسات التابعة له ومعاونيه والجهات المنتفعة والجماعات ذات المصالح والأجندات السياسية ،رأب ذلك الصدع الخطير الذي عمقه ظهور العديد من الضحايا الذين نزعوا عن أنفسهم حاجز الصمت وذهبوا يروون قصص معاناتهم مع رجال الكنيسة ،والمآسي والاعتداءات التي تعرضوا لها؛ والتي كانت في كثير من الأحيان تتراوح ما بين التحرشات والمضايقات التي بلغت في كثير من الأحيان حد الاغتصاب . قصص الضحايا تزلزل الفاتيكان روت مجلة (التايم) الأمريكية قصة أحد ضحايا شذوذ القساوسة وهو فرانك مارتينلي وقالت إنه كان صبيًا مشرقًا يبلغ من العمر 14 سنة، وأقسم كصبي بأن يصبح قسيسًا في المستقبل فإنضم إلى كاتدرائية سانت سيسيليا في ستامفورد بولاية كونكتيكات، وكان ضمن قسم للتلاميذ الذين كانوا تحت رعاية الأب برايت في مافيريك . وخلال إحدى النزهات في واشنطن تحرش الأب برايت – جنسيًا- بالصغير فرانك حين حصره في أحد الحمامات، وأجبره على التفاعل معه جنسيًا مقنعا إياه بأن ذلك هو الطريق لحصوله على العشاء الرباني.. وككل الأطفال التزم الصغير الصمت فقد شعر فرانك بالعار والحيرة والخجل من أن ينطق بكلمة واحدة. مارتينلي الآن يبلغ 54 سنة ولم يصبح قسيسًا كما تمنى في صغره، بل دمرت حياته كليا بسبب تذكره للأحداث التي تعرض لها في صغره داخل الكنيسة ، بالإضافة إلى شعوره المستمر بالغضب والاكتئاب و فقدانه للالتزام الديني الذي كان ينشده . و يذكر أن السلطات الكنسية في برايدج بورت اكتشفت ميول القسيس برايت الجنسية في بداية سنة 1964 ولكنها لم تبلغ عن ذلك السلطات المدنية ولا حتى الأبرشية، وسمحوا له بالاستمرار في عمله في عدة مدارس دينية حول البلاد. وظهرت اتهامات مماثلة ضد رهبان في مدارس كاثوليكية في برلين وبافاريا ،وقال شاهد في مدرسة كاثوليكية تقع بمدينة أوغلز بويرن الألمانية إنه عندما كان طفلا، كان يأمره الراهب المسؤول عنه أن يقوم بإحضار الطعام إلى داخل غرفته، وكان الراهب حينها يعرض على الطفل صورا خلاعية، وعندما إفتضح أمر الراهب سعت الكنيسة كي يحصل على وظيفة عمل خارج البلاد. وفي مدرسة كاثوليكية في مدينة ميندلهايم البافارية كان الصبية الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و15 سنة يجبرون ليلا على دخول غرفة الراهب الذي كان يأمرهم بتجرع الخمر وكان بعضهم يتعرض للاغتصاب بعد فقدان الوعي. مئات الضحايا بدأو يساهمون في فضح ممارسات الرهبان في المدارس الكاثوليكية في جميع أنحاء أوروبا ،وجميع الشهادات متشابهة إلى حد كبير، وجميع الضحايا يشعرون أن الكنيسة كانت تحمي الرهبان ولا تكترث لهم لاسيما أن الكثير منهم يعانون من التبعات النفسية لما تعرضوا له حتى يومنا هذا. جرائم الشذوذ الجنسي : اللعنة التي تطارد الكنيسة وضعت فضائح الاعتداءات الجنسية الفاتيكان في وجه الإعصار الذي قد يطيح بالسمعة التي كانت تتمتع بها الكنيسة الكاثوليكية في الأوساط الدينية بأوربا، والأخطر في القضية، أن ملف الاعتداءات الجنسية ضد الأطفال لم يتوقف عند حدود الولاياتالمتحدةالأمريكية أو ألمانيا التي اتهم فيها شقيق البابا السابق بنديكت السادس عشر بإستغلال الكنيسة لاغتصاب 150 طفل، بل امتدت لتشمل العالم المسيحي بصورة رهيبة، فيما وصف بانفجار الملف المسكوت عنه، إذ تم الوقوف على حالات اعتداء جنسي مشابهة على الأطفال بالكنيسة الكاثوليكية من الولاياتالمتحدة إلى إيرلندا ومن المكسيك إلى كندا، والنمساوألمانيا، واضطرت الكنيسة إلى دفع عشرات ملايين الدولارات لتعويض الضحايا والحيلولة دون الملاحقات القضائية. وسبق أن أرغم الكاردينال برنارد لاو المتهم بحماية كهنة اعتدوا جنسيا على أطفال على الاستقالة من أسقفية بوسطن، شرق الولاياتالمتحدة في 2002، وعام 2004 توصل تحقيق جنائي إلى أن عدد الكهنة الذين اعتدوا على أطفال بلغ في الولاياتالمتحدة 4400 بين 1950 و2002، وأن عدد الأطفال الضحايا بلغ 11 ألفا، مما وصف بالرقم الرهيب جدا، الذي لا يمكن له أن يحدث حتى في أفقر الدول الإفريقية. وفي كندا اضطرت الكنيسة الكاثوليكية وكنائس أخرى إلى جانب الحكومة الكندية إلى دفع مليار دولار كندي كتعويضات في العام 2002 لضحايا الاعتداءات الجنسية بالكنائس ، أما في إيرلندا، فقد غطى مسؤولون في أسقفية دبلن العاصمة فضائح جنسية ارتكبها كهنة بحق مئات الأطفال، ويتجاوز عدد الضحايا 14 ألفا، وعرض أربعة أساقفة تقديم استقالاتهم. وفي المكسيك اضطر مؤسس "فرق المسيح" ما يسمى الأب مارسيال إلى التخلي عن كل مناصبه في 2006 على إثر فضائح بالاعتداء الجنسي على الأطفال، وفي النمسا استقال أسقف فيينا الكاردينال هانز هرمن في 1995، ثم أسقف بوزنان ببولندا يوليوس بايتو في 2002، لاتهامهما بالتحرش الجنسي. وفي ألمانيا تعرضت الكنيسة الكاثوليكية لمجموعة من الاتهامات، وجهها أشخاص كانوا تلامذة في مدارس عادية ومدارس داخلية في السبعينات والثمانينات قالوا إنهم كانوا ضحية لتحرش الجنسي من قبل قساوسة آنذاك. كما كشفت صحيفة "زوددويتشه تسايتونج" الألمانية أن بابا الفاتيكان السابق بنديكت السادس عشر حمى قسا أدين بارتكاب انتهاكات جنسية بحق أطفال، عندما كان البابا يشغل منصب رئيس أساقفة مدينة ميونيخ، ورغم حمايته إلا أن القس ارتكب مجددا جرائم اعتداء جنسى على قصَّر. وقد كانت هذه الفضائح سببا رئيسيا من أسباب استقالة بابا الفاتيكان السابق "بنديكت السادس عشر" بينما تفجرت فضيحة أخرى في عهد بابا الفاتيكان الحالي "فرنسيس" الذي عين كاهنا تشيليا متهما بالتغطية على أنشطة واحدا من أسوأ المعتدين على الأطفال فى الكنيسة الكاثوليكية. الفاتيكان يتكتم على الفضائح و الأوربيون يرتدون عن الكنيسة على مدى سنوات، واجه الناشطون الحقوقيون، الذين تولوا الدفاع عن الأطفال الذين استهدفهم تحرش رجال الدين، بجدار من الصمت وبنقص في الشفافية، تجلى برفض الفاتيكان تكرارًا لطلبات لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة، للحصول على بيانات حول حالات الانتهاك وقد تحججت السلطات الدينية في الفاتيكان مرارا وتكرارا بأن المعلومات لا تقدم إلا لدول تطلبها رسميًا، لاستخدامها في تنفيذ إجراءات قضائية. من جهة أخرى صدرت إشارات تحذير من بعض الكنائس تفيد بتزايد إعراض الجمهور المسيحي الأوروبي عنها بسبب الفضائح والخواء الروحي ، فقد أعلن الكاردينال "كورمك ميرفي أوكونور" رئيس الكنيسة الكاثوليكية في إنجلترا وويلز "أن المسيحية أوشكت على الانحسار في بريطانيا، وأن الدين لم يعد يؤثر في الحكومة، أو في حياة الناس". كما أن تقارير عديدة كشفت على أن الفضائح الجنسية لعدد من القساوسة كانت أحد الأسباب المباشرة التي دفعت الأوربيين إلى الابتعاد عن الدين المسيحي ، الذي لم يعد بالنسبة للمسيحيين يجيب عن الكثير من الأسئلة التي يطرحها الشباب، وهو ما دفعهم إلى الاتجاه نحو الحركات الحديثة، كحركة المحافظة على البيئة والحركات الاجتماعية التي تنمي طاقاتهم". ورغم كل هذا فإن متاعب الفاتيكان ومعاناته وانكساراته وفضائحه لم تنته عند هذا الحد، بل إن هناك تقارير صادرة عن الفاتيكان نفسه، تتحدث عن قيام الكثير من القساوسة والأساقفة في الكنائس الكاثوليكية باستغلال سلطتهم الدينية، للإعتداء الجنسي على الراهبات، واغتصابهن، وإجبارهن على الإجهاض، أو تناول أقراص منع الحمل . وأمام كل هذه الفضائح لم يعد بإمكان الكنيسة الكاثوليكية الدفاع عن نفسها في وجه الاتهامات التي لم تستطع إخفاءها فضلا عن إنكارها، فقد كانت جميع الحجج ضدها، وضحاياها بعشرات الآلاف، ولا يزال الكثيرون يكشفون بشكل يومي تقريبا عن جرائم القساوسة والكرادلة ضد الأطفال، حتى كتب أحدهم إن " الله يحارب الكنيسة بأفعال قساوستها ورؤوسها " وكتب آخر " اللعنة تصيب الكنيسة " . مما لاشك فيه أن جرائم الشذوذ الجنسي هزت كيان الفاتيكان هزا، وجعلت شرف الكنيسة يذهب أدراج الرياح مع الفضائح والفضائع التي ارتكبها القساوسة والكهنة والكرادلة وغيرهم، لكن المستغرب هو أنه لم يصدر حتى الآن بشأنها أي قرار من الفاتيكان بتسريح القساوسة المتورطين ، وذالك خوفا من أن تبقى الكنائس خاوية على عروشها، أكثر مما هي عليه الآن.