أعادت هجمات باريس الأخيرة الحديث من جديد عن "حرب عالمية" على "الإرهاب" ليس من أجل التنسيق العسكري والأمني فقط، وإنما أيضا لتوظيف هذه الحرب ضد الخصوم في صراعات أخرى محلية وعالمية، وثقافية أيضا. هذا التوظيف -الذي هو ليس جديدا بالمناسبة- يعمق مشكلة الإرهاب ويعزز عدم الاستقرار في المنطقة والعالم. تتناول هذه المقالة مخاطر هذا التوظيف من أربعة أبعاد يتم الخلط بينها وبين الإرهاب. الإرهاب والمقاومة هناك أولا خلط زائف بين الإرهاب ومقاومة الاحتلال في فلسطين. فالإسرائيليون نجحوا، منذ التسعينيات وبدعم أميركي، في تحويل قضية الاحتلال إلى مسألة أراض متنازع عليها، ثم في إلصاق تهمة الإرهاب بالمقاومة الفلسطينية. واليوم تنتهي هذه المغالطات بمحاولة دوائر رسمية وبحثية غربية ترسيخ قناعة خاطئة مفادها أن الصراع العربي الصهيوني ما عاد يحرك الشعوب العربية أو لا يجب له. وفي هذا الإطار كرر رئيس الحكومة الإسرائيلية بعد أحداث فرنسا مطالبته دول العالم بالتوحد ضد ما أسماه خطر "الإرهاب" الإسلامي على اعتبار أن مقاومة الاحتلال جزء لا يتجزأ من هذا الخطر. بل دعا أحد رؤساء الموساد السابقين، وهو شاتباي شافيت، إلى التخلي عن الأخلاق والقانون والقيام بما تم القيام به في مدينة درستن الألمانية التي تم محوها عن الخريطة حيث قتل نحو 25 ألف مدني على يد قوات الحلفاء في مواجهتها للنازيين (نيويورك تايمز، 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2015). لم تقف الحكومات الأوروبية صامتة فقط منذ عقود أمام مغالطة مساواة المقاومة بالإرهاب، وإنما راحت تدّعم دولة الاحتلال التي هي في حقيقتها كيان استيطاني عنصري وبها عشرات القوانين التي تميز على أساس الدين. وهي بهذا تخالف كل الأعراف الدولية والإنسانية، بل تعارض الكثير من القوى الشعبية الحية في الغرب التي تقود حركات مقاطعة اقتصادية وأكاديمية ضد الإسرائيليين. هذه المواقف والسياسات الغربية جزء أساسي من مشكلة الإرهاب لأنها أحد أسباب الغضب الذي يدفع أقلية فقط من المسلمين للالتحاق بصفوف الحركات العنيفة خارج فلسطين استنادا إلى قضية عادلة ومظالم واضحة. ويجب ألا ننسى أن تنظيم القاعدة تأسس تاريخيا لمحاربة الصهاينة والصليبين، وكل الحركات الإسلامية العنيفة ترى أن معركتها الأساسية هي مع اليهود في فلسطين، وهي معركة مؤجلة إلى ما بعد معركتها مع حكامها الذين يحولون دون حرب اليهود. كما تتفق برامج غالبية الأحزاب والتيارات الوطنية الليبرالية واليسارية والإسلامية والقومية على كامل حقوق شعب فلسطين. وقد كانت وزيرة خارجية السويد هي الصوت الوحيد في الدوائر الرسمية الغربية التي تعترف بهذه الحقائق عندما صرحت، قبل مرور أقل من 24 ساعة من هجمات باريس، بأن "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مسؤول جزئيا عن نمو التشدد في الشرق الأوسط". الإرهاب وحقوق الأقليات هناك خلط زائف آخر بين الإرهاب ونضال الأقليات المسلمة ضد التمييز بكثير من الدول كالصين والهند والفلبين وميانمار (بورما) وغيرها. فالمسلمون هناك يتعرضون لصنوف مختلفة من الاضطهاد والتمييز، وصل في الصين -حسب تقارير منظمة العفو الدولية- إلى قتل وتهجير عشرات الآلاف وإغلاق آلاف المساجد وإجبارهم على عدم الصوم في رمضان ومنع استخدام اللغة العربية وفرض قوانين أحوال شخصية تخالف الإسلام وفرض مناهج تعليمية صينية دون أدنى اعتبار للخصوصيات الدينية والثقافية. ومع هذا استغلت الصين هجمات باريس الأخيرة، فكان تصريح وزير خارجيتها مطالبا بدعم دولي لمساعدة الصين في حربها ضد "الإرهاب"، ويقصد هنا محاربة المسلمين في تركستان الشرقية. يقف الغرب صامتا أمام كل تلك الانتهاكات، بل عاجزا عن مجرد فهم رابطة الأخوة الإسلامية التي تدفع معظم مسلمي العالم إلى التضامن مع قضايا المسلمين أينما كانوا. ويرتبط بهذا أيضا تجاهل الحكومات الغربية حقيقة يعترف بها بعض الغربيين، وهي أن أوضاع المسلمين في فرنسا وبعض الدول الأوروبية عامل أساسي في تغذية التشدد والتطرف. فالاستهداف المتكرر لفرنسا إنما هو في جزء كبير منه نتيجة لسياسات فرنسا ذاتها، استنادا إلى عوامل كثيرة منها الأوضاع السيئة في سجون فرنسا والتي تعد عند البعض من المحاضن الرئيسية لصنع التطرف والتشدد. يذكر أن نحو 70% من المساجين في فرنسا هم من المسلمين (مقابل نحو 4% في إنجلترا وويلز) كما جاء في صحيفة تلغراف البريطانية يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، هذا بجانب القوانين التمييزية التي اعتمدتها فرنسا والتي أغضبت المسلمين (قانون حظر الرموز الدينية في المؤسسات التعليمية والحكومية عام 2004، ثم حظر النقاب في الأماكن العامة 2010)، وكذا التمييز في مجال العمل والتوظيف والتمثيل السياسي، حسب بعض الدراسات الأوروبية، والتدخل العسكري الفرنسي في أماكن كثيرة لمحاربة "التطرف" الإسلامي وغزو مالي والتدخل في ليبيا والعراق وسوريا. الإرهاب والإسلام وهناك توظيف آخر للحرب على الإرهاب يربط بين الإرهاب والإسلام، ويصر على فرض المنظومة العلمانية فكرا وممارسة دون أدنى تدبر في الخصوصيات الثقافية والدينية للمسلمين وفي قيم الإسلام التي تنظم الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمسلمين. ويظهر هذا الربط من خلال التمسك في الخطاب السياسي والإعلامي بمقولات اليمين المتطرف والإسلاموفوبيا كتصادم الحضارات، والقول إن الإسلام عدو أوروبا وإن المسلمين يعادون الحداثة، والتمسك بالنظرة الثنائية للعالم ومحاولة وضع العرب والمسلمين بين طرفين حديين لا ثالث لهما: إما معتدلين حداثيين علمانيين حلفاء للغرب، وإما متطرفين ومتشددين وإرهابيين. هذه الرؤية تصب في صالح رؤية اليمين المتطرف بالغرب التي ترى أنه لا اعتدال في الإسلام السياسي. وقد أثبت الأحداث في مصر بعد الثورة المضادة في يوليو/تموز 2013 أن الإدارة الأميركية أقرب إلى هذه الرؤية في ضوء عودتها سريعا إلى دعم النظام العسكري في مصر بشكل معلن بعد شهور قليلة من التأخر. كما يرتبط بهذا الخلط بين الإرهاب والإسلام إصرار الغرب على سياسة تغيير المناهج التعليمية في الدول الإسلامية، والتي أدت إلى تصاعد الغضب لدى شرائح واسعة من شعوب هذه الدول. وتكفي الإشارة هنا إلى أن خطة تعديل المناهج في مصر بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001 وأيضا بعد يوليو/تموز 2013 أدت إلى القضاء تقريبا على مقررات التربية الإسلامية واعتماد كتاب عن الأخلاق في مدارس التعليم الأساسي. إن محاربة الإرهاب تتطلب في واقع الأمر تكثيف تعليم الإسلام وقيمه وبكافة طرق التدريس الحديثة. بل إنني أرى أن محاربة الإرهاب تقتضي تعديل المناهج في فرنسا وفي بقية الدول الغربية لتكون أكثر تسامحا مع الآخر ولتعترف بمسؤولية القوى الاستعمارية عن تأخر الشعوب التي خضعت للاستعمار وعن كافة المظالم التي ارتكبت من قتل وتقسيم ونهب للثروات. إن فرنسا وبريطانيا تتحملان لدى قطاعات واسعة من شعوب مستعمراتها السابقة مسؤولية قتل وتشريد الملايين أثناء فترة الاستعمار، وهي ترفض حتى الآن الاعتراف بهذه المسؤولية وتقديم التعويضات المناسبة ودمج هذه الأحداث في مقرراتها التعليمية. ولقد أشار الأكاديمي الأميركي ستيفن والت إلى أن معاملة الدول الاستعمارية سابقا لشعوب مستعمراتها السابقة تمثل سببا من أسباب قيام داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) بالانتقام اليوم. كما تحدثت صحيفة تلغراف البريطانية يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 عن المجزرة التي ارتكبتها قوات الأمن الفرنسي يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 عندما قتلت نحو 200 جزائري وألقت بهم في نهر السين بعد أن تظاهروا من أجل الاستقلال في باريس. ولم تعترف فرنسا بمسؤوليتها إلا بعد أربعين عاما. الأمن والديمقراطية وأخيرا هناك توظيف سياسي آخر للحرب على الإرهاب يتصل باستخدام الحرب على الإرهاب لضمان استمرار الهيمنة الخارجية وتحقيق الأمن والاستقرار ولو على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان. إن الحكومات الغربية تتحالف في حربها ضد الإرهاب مع أشد النظم قمعا وظلما وأكثر الأطراف مسؤولية في خلق الإرهاب والتشدد وعدم الاستقرار في مجتمعاتها. إن الحقيقة التي تتجاهلها الحكومات الغربية هي أن الإرهاب نتيجة أساسية من نتائج أزمة الحكم وأزمة شرعية الحكومات القائمة في الدول العربية، وأن كافة حركات التمرد والعنف السياسي تقدم بديلا لهذه الحكومات بإطار فكري محدد وبأهداف شرعية تجذب الكثير من الأنصار منها إعادة الكرامة والعزة للشعوب المضطهدة وإقامة دولة قوية على الأرض. ولهذا لا يمكن التعامل مع عنف هذا المشروع السياسي بالطرق الأمنية فقط، ولا من خلال التحالف مع من يصنع الإرهاب. إن معالجة الإرهاب تتطلب شراكة مع حكومات شعبية منتخبة ومؤسسات دولة تكون قادرة على تقديم بدائل وطنية للمشاركة والتنمية وفتح المجال أمام تجديد ديني حقيقي يرسخ قيم الإسلام ويمهد الطريق أمام تقديم قيمه للعالم للمساهمة في معالجة التحديات التي تواجهه. لقد أثبتت سنوات ما بعد الربيع العربي أن الغرب لم يحسم موقفه لصالح دعم مطالب الثورات السلمية العربية من أجل الحرية والعدالة وبناء دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية كما فعل سابقا مع أميركا اللاتينية وشرق أوروبا. بل لم تقف الحكومات الغربية حتى على الحياد لتترك الشعوب العربية في معركتها لانتزاع حرياتها من الطغاة. لقد تحالفت الحكومات الغربية مع الثورات المضادة وراحت تدعم النخب الأمنية والعسكرية وتعقد صفقات السلاح معها في سياسة لا يمكن وصفها إلا بقصر النظر والإصرار على معاندة الشعوب وإشعال المنطقة. وأخيرا يمكن القول إن معركة الإرهاب لا بد لها أن تمر عبر طريق إقرار حق الشعوب في تقرير مصائرها والتخلص من المحتلين والطغاة والكف عن دعم دولة الاحتلال، وعبر طريق الاعتراف بفشل كل نظريات وممارسات الهيمنة الثقافية، وإقرار وتفعيل كافة السياسات الكفيلة بضمان التعددية الثقافية وحقوق الأقليات. هذا فضلا عن تعلم دروس حروب أفغانستان والبلقان والعراق، وما ترتب عنها من تداعيات كارثية وتحول تنظيم القاعدة الذي كان معزولا في منطقة واحدة إلى عدة تنظيمات لها عشرات الآلاف من الأنصار في جل أنحاء العالم. ولا بد أيضا من التوقف عن سياسة التدخل والقتل والسيطرة على الثروات باسم محاربة الإرهاب. إن دماء شعوب المنطقة ليست بلا ثمن وهناك من يستخدم مظالم المنطقة بهدف وقف سياسات الهيمنة والاستغلال والاحتلال بكل الطرق المتاحة له. وإنْ تمت هزيمة حركات العنف الحالية دون معالجة المظالم التي كانت سببا في ظهورها فستظهر حركات أخرى تواصل مقاومتها وتحديها.