إذن هل هذا معناه أن الخطابي كان ضد استقلال المغرب؟ البيان موجه إلى الشعب المغربي وأساسا إلى المجاهدين الجنود في فرق جيش تحرير المغرب العربي، وتعرفون أن تاريخ هذا الجيش لم يكتب بعد بطريقة علمية، نظرا لوجود مناطق ظلام كثيرة في هذه الحقبة وفي الوقائع المرتبطة بجيش التحرير، إلا أننا بدأنا نلتمس أسس الخلاف داخل القيادات الوطنية المغاربية آنذاك وأساسا خلاف الاستراتيجيات بين محمد عبد الكريم الخطابي وبين القادة الوطنيين لكل من تونس والمغرب، هذه الخلافات ستؤدي إلى توتر العلاقة بين الأمير من جهة وعلال الفاسي والحبيب بورقيبة من جهة أخرى. جوهر الخلاف كان قائما من جهة بين استراتيجية لتحرير بلدان المغرب العربي دفعة واحدة عبر حملات منسقة مسلحة وسياسية ومفاوضات مشتركة عندما يأتي أوان ذلك، وهذا ما كان يقول به الخطابي ومن معه من المناضلين والعسكريين مثل الهاشمي الطود من المغرب وعز الدين عزوز من تونس، ومن جهة أخرى استراتيجية تقوم على تحرير كل بلد على حدة انطلاقا من تنسيق محلي بين المقاومين حاملي السلاح والسياسيين حاملي العرائض والمفاوضين، مع تنسيق مغاربي كلما سمح الفرصة بذلك. هذا الخلاف سيفرز على المستوى العملي قيام جيش تحرير محلي بكل بلد بقيادته الخاصة الداخلية والخارجية، وتأسيس قيادة مغاربية بالقاهرة على رأسها الخطابي، وكل قيادة تعتقد أنها الأسمى من الأخرى، وهذا مصدر الغموض الذي سيؤدي إلى الكثير من سوء الفهم وإلى مواجهات بعضها كان عنيفا، وهذا ما سيفتح المجال أيضا لتدخل أطراف أخرى كالطرف المصري مثلا، (انظر مثلا مذكرات فتحي الديب، وردود الغالي العراقي عليها في كتابه: "البيان والبرهان") في إطار هذا الاضطراب وتعقيد الظرفية السياسية آنذاك سواء على الصعيد الدولي (الحرب الباردة) أو العربي (أوج الناصرية) أو المغاربي (مركزية القضية الجزائرية)، فأحد تخوفات الخطابي كان أن يفضي استقلال تونس لوحدها واستقلال المغرب لوحده إلى تثبيت الاستعمار الفرنسي في الجزائر. هذا جوهر الخلاف، وهذا ما يفسر حدة الانتقاد لعلال الفاسي ولحزب الاستقلال الوارد في البيان أما معارضة لقاءات "إكس ليبان" فلم ينفرد بها الأمير الخطابي، بل عارضها بشدة علال الفاسي نفسه، وقيادة جيش التحرير المغربي والمقاومون المغاربة والنقابيون. لكن، ماذا تقصد بمركزية القضية الجزائرية؟ المناخ المغاربي العام آنذاك كان مطبوعا بأن الجزائر هي العضو الجريح في المغرب العربي –وبين قوسين تعبير المغرب العربي لم يكن يثير حساسية أي مغاربي أمازيغيا كان أو عربيا- وكانت الجزائر حاضرة في الوجدان بنفس القوة التي تحضر بها الآن فلسطين في المنطقة المغاربية، لذلك لم يكن بإمكان أي وطني أن يقول بغير التضامن مع الجزائر ومساندتها المطلقة من أجل التحرير، لذلك كانت القضية الجزائرية حاضرة في كل برامج القوى السياسية سواء المغربية أو التونسية، بل كان هناك التزام ملكي من طرف محمد الخامس في هذا الاتجاه. هكذا عقد سنة 1958 مؤتمر طنجة لتأكيد التزام الدولتين المستقلتين المغرب وتونس بالاستمرار في دعم جبهة التحرير الجزائرية، وهذا يؤكد قوة الانخراط الشعبي في التضامن مع الجزائر ويؤكد بالتالي مركزية المسألة. هل يمكن أن نعتبر بناء على ما سلف أن جزءا من العقدة المغربية-الجزائرية يستمد جذوره من هذا الخلاف؟ بشكل من الأشكال يمكن قول ذلك. إلا أن الأمر أعمق من ظرفية سياسية، إذ يتعلق في نظري بعمق ثقافي ويتجسد في الاستبطانات المختلفة لمفهوم الوحدة، فمن جهة هناك الوحدة الاندامجية، وتحيلنا على الفهم السني للعقيدة وللسلوك الجماعي، والوحدة الفيدرالية، وتحيلنا أيضا على الفهم الحداثي للتكتلات المجتمعية المؤسسة على معادلة الوحدة والاختلاف من جهة أخرى. فالتعارض بين المستبطنين يتجلى في كل الأعمال الجماعية سواء تعلق الأمر بالجمعيات أو النقابات أو الأحزاب أو الدول أو الحركات الاجتماعية، فالسائد ذهنيا هو االمفهوم الاندماجي، إلا أنه يتعارض مع الواقع المتعدد، والطموح هو المفهوم الفيدرالي إلا أنه يتعارض مع المستبطن الثقافي، لذلك تتعثر الأحزاب والنقابات والجمعيات ويتعثر بناء المغرب الكبير. جريدة الأيام