بانتقال العلامة أحمد الحجامي إلى دار البقاء ورحيله عن هذه الدنيا يكون المغرب قد فقد ذاكرة شفوية هامة وعامرة بالأحداث التاريخية الوطنية خلال عقود من تاريخه الحديث. وأحمد الحجامي عالم كبير ومتواضع جمع بين فقه الشريعة وفقه الحال، وظل مرابطا في ساحة الجهاد العلمي مدة طويلة إلى أن وافاه الأجل المحتوم. يعرفه أهل فاس وكثير من العلماء بالمغرب، لكن عموم المغاربة لا يعرفونه حق المعرفة لعزوفه عن الظهور الإعلامي ولعزوف الإعلام العليل عن أمثاله من الكواكب المضيئة. سدا لهذه الثغرة وقياما بالواجب، تقدم لالتجديد للقراء هذا الملف عن العلامة الراحل، ويتكون من حوار مع ابنته ورفيقة كتاباته الأستاذة عائشة الحجامي، وشهادات في شأن الرجل أدلى بها علماء وأساتذة في حق الرجل: الأستاذة عائشة الحجامي ابنة الفقيه أحمد الحجامي ل التجديد :كان والدي رحمه الله يأمر الآباء بإرسال بناتهم للمدارس لاقتناعه بحقهن في التعليم كان شاهدا على تاريخ المغرب قرنا من الزمان، منذ أن بسط المستعمر يده على المغرب باسم الحماية مرورا بمرحلة المقاومة والجهاد، ثم الاستقلال إلى أن ودعناه في آخر أيام السنة المنصرمة، إنه العلامة أحمد الحجامي(1900/2003) الذي عرف مجاهدا وعالما فقيها متفتحا، وكان موته فاجعة تلقاها عدد من محبيه بأثر بالغ. وقد كان لنا لقاء مع إحدى بناته عائشة الحجامي، الأستاذة بكلية الحقوق بمراكش، والتي أنارت لنا في هذا الحوار جوانب خفية من شخصيته ومن حياته الكفاحية. بداية هلا حدثتمونا عن ظروف نشأة أبيكم الفقيه أحمد الحجامي؟ نشأ أبي وترعرع في عائلة دينية، واسمه الكامل هو أحمد بن محمد بن أحمد الحسني الحجامي الإدريسي، وقد ولد سنة1900 ,1318م) بقبيلة الجاية في قرية بوليد مقر الزاوية الحجامية التي أسسها أحد أجداده سيدي بومدين الحجامي، والأسرة أصلها من زرهون، والده هو محمد الحجامي من شيوخ الطرقية الناصرية، وكانت الأسرة دائمة الترحال نظرا لحركة الجهاد التي كان يقودها والده ضد المستعمر الفرنسي والإسباني، والتي انطلقت شرارتها مباشرة بعد توقيع الحماية سنة ,1912 ذلك أنه في أبريل 1912 وقعت اصطدامات بين الجيش الفرنسي والجنود المغاربة أو ما يسمى آنذاك بالجيش الشريفي ووقع تمرد لبعض عناصره بمدينة فاس، توجه على أثره أربعة منهم إلى البادية القريبة من فاس يبحثون عمن يقود الجهاد ضد الاحتلال فدلتهم القبائل على سيدي محمد الحجامي شيخ الزاوية الحجامية لما عرف عنه من استقامة وإخلاص في الدين، وفعلا نادى في القبائل يدعو الى الجهاد. وحسب بعض المؤرخين فقد التف حوله ما يناهز 20 ألف من المجاهدين، وهاجم مدينة فاس بهدف تحريرها من الاحتلال، وحاصرها من جميع الأبواب ووقعت معارك عنيفة داخل المدينة وخارجها، وقد أظهرت القبائل شجاعة واستماتة كبيرتين في القتال الأمر الذي اضطر الفرنسيين إلى استدعاء الدعم العسكري من مكناس والدار البيضاء فانتصروا في المعركة التي عرفت بمعركة الحجرة الكحيلة، واستولوا هناك على خيمة الحجامي، حيث وجدوا رسالة مازالت في المتحف العسكري الفرنسي الذي كان بفانسين بباريس، وأظن أنه نقل مؤخرا إلى مدينة نانت. هذه الرسالة تبين مدى التخطيط المتقن الذي قامت عليه تلك الحركة كما تشير إلى ذلك المراسلات العسكرية الفرنسية، ولولا السلاح البدائي الذي استعمله المغاربة أمام الآلة الحربية المتطورة آنذاك للفرنسيين لما وقعت الهزيمة. وقد رجع سيدي محمد الحجامي وأعاد الكرة في مناطق أخرى متفرقة بقبائل بني زروال، إلى أن حاصره الفرنسيون سنة 1914 بالجاية، وذلك بقيادة الجنرال كورو، وطلبوا منه الاستسلام، فما كان منه إلا أن مزق الرسالة التي بعثوها إليه أمام حاملها وقال هذا هو الجواب على اقتراحكم ، فأحرقت داره بالجاية بعد معركة دامية. بعدها هاجر مع أسرته إلى قرية حمدان، وعمر ابنه احمد آنذاك أربع عشر سنة. في ظروف الجهاد والتنقل المستمر، كيف أمن الجد دراسة ابنه أحمد وتهييئه للجهاد، وهو الذي عرف مجاهدا وفقيها من بعده؟ لقد أراد جدي رحمه الله ألا ينقطع أبناؤه عن الدراسة، فكان يأتيهم بالفقيه إلى المنزل ليعلمهم أو يرسلهم إلى مسجد القرية، وهناك حفظ أبى القرآن وأتقن التجويد قبل البلوغ وبدأ يتعلم العلوم الشرعية، ومن الشيوخ الذين كان يذكرهم بكثير من الخير الشيخ العلامة محمد الرمبوق الذي كان يجمع بين العلم والجهاد ضد المستعمر. وبعد عدة هجرات بين القبائل، سواء بسبب الهزيمة أو بسبب الصلح الذي كان السكان يرغبون في عقده مع المحتل، استقر في حمدان. حيث واصل أبى تعليمه. ويذكر والدي رحمه الله في مخطوطاته انه لما قدم المجاهد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي لمنطقة ورغة ببني زورال لمواجهة الفرنسيين، انقطع عن الدراسة والتحق بالجهاد هو وأخوه الأكبر إدريس الذي كان يلعب دور الوسيط بين أبيه والأمير، ويحمل الرسائل المتبادلة بينهما، وهي رسائل حافظ عليها الوالد رحمه الله مع مجموعة أخرى من الوثائق والمراسلات المهمة. وقد خاض أبى في هذه المرحلة عدة معارك بالجاية وورغة، وذلك ابتداء من بداية العشرينيات، ثم هاجرت الأسرة من حمدان بعد أن احتل الفرنسيون كل قبيلة بني زروال، وانتقلت إلى محل يقال له المنصف بكتامة، وهي منطقة غابوية خالية من السكان تعود إلى ملكيتها منذ القرن الحادي عشر الهجري، وتزامنت هذه الهجرة مع استسلام المجاهد الخطابي سنة ,1926 وكان معه عدد من المجاهدين، منهم المجاهد المشهور بشجاعته السيد عبد السلام ابن المقدم التمسماني، الذين التحقوا بكتامة لمواصلة الجهاد إلى جانب الحجامي، وفعلا كان بينهم تنسيق في المعارك ضد الإسبان. وفي هذه الفترة كان الجد قد اصبح عاجزا عن الخروج بنفسه للقتال، فكان ابنه احمد يتولى قيادة المحاربين الذي ظلوا معه والذين كانوا ينتمون الى مختلف القبائل كالجاية والحياينة ومزيات ومتيوة وبني ورياكل... وفي هذه الأثناء ألقى الأسبان القبض على أخيه إدريس وحملوه أسيرا ولكن بكثير من الاحترام واللباقة إلى مليلية، وراودوه من أجل أن يقنع أخاه وأباه بالتخلي عن القتال وإغرائهما بالمال، وطبعا كان الجواب بالرفض. لكن بعد فترة من ذلك طلب السكان من أحمد الحجامي مغادرة كتامة لأنهم أرادوا الصلح مع المحتل، فانتقل إلى الأخماس وقام بهجومات على مراكز إسبانية بغمارة وغيرها. وكان من بين المجاهدين الريفيين الذين استمروا في القتال حتى تلك الفترة سيدي محمد بن علي الخمليشي المدعو بالسليطن، والذي كان قد شارك في معارك فاس والحجرة الكحيلة رغم أن سنه آنذاك لم تكن تتجاوز العشرين. كيف تفسرون طلب المغادرة من طرف السكان للمجاهدين التي تكررت عدة مرات مع الجد ثم مع الأب ؟ في الحقيقة لست مؤهلة لتقديم تفسير دقيق لهذا الأمر، وأعتقد أن هذه المرحلة من تاريخ المغرب تستحق أن تنال حظها من الدراسة من قبل المختصين لإعادة تسليط الضوء على عدة جوانب منها لا زالت غامضة أو مجهولة، مع العلم أن الوثائق العسكرية سواء منها الفرنسية أو الإسبانية تتوفر على معطيات مهمة وموثقة في هذا الشان ينبغي الاطلاع عليها واستثمارها. وعموما بالرجوع إلى سؤالكم، لا بد من الإشارة إلى القوة العسكرية الفرنسية والإسبانية مقارنة مع السلاح البسيط الذي كان يتوفر عليه المجاهدون، والذي كان في الغالب يعتمد على ما يستولون عليه في المعارك، بل إن أبي، رحمه الله، كان يذكر لنا أنه أحيانا كان المجاهدون عندما تنفذ ذخيرتهم يوهمون العدو بتوفرهم على السلاح بمجرد الضرب على أواني معدنية لتقليد صوت الرصاص .. فقلة العتاد الحربي وفرض الاحتلال سيطرته على جل مناطق الشمال المغربي، فرنسا ببني زروال وإسبانيا بالريف، أحدثا نوعا من الإحباط واليأس لدى السكان الذين كانوا يستسلمون للأمر الواقع، كما يجب ألا نغفل أن المارشال ليوطي المقيم العام لفرنسا بالمغرب، بعد معارك فاس والمناطق المحيطة بها والتي برز فيها المجاهدان الحجامي وسيدي رحو، أعاد النظر في سياسته الاستعمارية الخاصة بالمنطقة الشمالية من المغربن حيث لاحظ بأن طبيعتها الجغرافية والاجتماعية تختلف عن المناطق الأخرى من المغرب كالحوز مثلا، فاعتمد سياسة القرب مع السكان وإغرائهم بالأموال والمناصب، والاعتماد على بعض أصحاب الزوايا الموالين له. وأحيلكم هنا على مذكرات ليوطي، وأيضا على كتابات الباحث المغربي عبد الله العروي. وقد انتهى الأمر بمحاصرة الإسبان لمن بقي من المجاهدين مع المرحوم أحمد الحجامي ومع المجاهدين بالريف بعد عدة معارك استشهد فيها الكثير، ونجا الآخرون بأعجوبة، فانتقل جزء منهم إلى غزاوة واستسلموا، بينما رجع أحمد إلى قرية تروية بكتامة حيث كان يوجد والده، وقد توفيت والدته أثناء غيبته.. ومنها انتقلوا إلى المنصف التي كانت تحت الهيمنة الفرنسية، وما أن طلع النهار حتى جاء ضابطان فرنسيان أحدهما من مكتب تاونات وآخر من مكتب الطاهريين، ولما وصلا بجنودهما هم والده بالانطلاق فوق فرسه نحو الغابة، ولكن إدريس ابنه أقنعه بألا جدوى من المقاومة في تلك الظروف التي عرفت انهيار المقاومة المسلحة على جميع الجبهات وتفرق المجاهدين أو استشهادهم. بعد ذلك رحب الفرنسيون به، لكن خيروه بين الإقامة الإجبارية تحت الحراسة بفاس أو بتاونات أو بالحياينة أو بحمدان، فاختار حمدان وانتقلت الأسرة إليها حيث بقيت هناك أكثر من عشر سنوات تحت الحراسة.. لكن كيف التحق أبوك احمد الحجامي مرة أخرى بجامعة القرويين ؟ لقد ذكر لنا الوالد رحمه الله، كما أنه دون ذلك في مخطوطاته، أنه أثناء الإقامة الإجبارية بحمدان، سرت إشاعة مفادها أن الفرنسيين يعتزمون قتل الحجامي أو نفيه خارج المغرب، فأراد أبي أن يتأكد من هذه الإشاعة، فطلب مقابلة الضابط الفرنسي بمكتب سيدي المخفي واسمه فوشي، وقد كان لبقا ويكن الاحترام للأسرة، وقال له إنه يريد أن يتابع دراسته بالقرويين بفاس فرفض، فعاد إليه في الأسبوع الموالي وكرر الطلب مرة أخرى فرفض، وفي المرة الثالثة أصر وقال له أريد أن أعرف قراركم الأخير في شأننا، إن كان النفي فمن الآن وإن كان القتل فمن الآن وإن كان أمر آخر فمن الآن . فطلب الضابط مهلة للتشاور مع رؤسائه، وبعد ذلك استدعاه وقال له: أما أبوك وأسرتك فسيبقون تحت الحراسة بحمدان، وأما أنت فيمكنك أن تذهب إلى فاس وعليك أن ترجع كل شهر من أجل معاينتك.. وهكذا ذهب إلى فاس و التحق بالقرويين حيث درس لمدة ست سنوات، ومن بين أهم الشيوخ الذي درس عليهم العلامة أبو الشتاء الغازي الحسيني الصنهاجي والعلامة سيدي عبد السلام العلمي وسيدي الحسين العراقي وغيرهم ... بعد ذلك رجع إلى حمدان حيث أسرته لا زالت تحت الحراسة المشددة بحيث كل من أراد زيارة والده من أتباع الزاوية، عليه أن يأخذ رخصة بذلك وإلا أدخل السجن شهورا.. عاد أبي إذن إلى حمدان وبدأ يدرّس العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية للطلبة في مساجد المنطقة حيث كانت هناك مراكز لتدريس العلوم الشرعية مشهورة. وقد كان يدرّس بمسجد تزغان بالجاية عندما وصله نعي أبيه وذلك سنة 1362ه / .1944 بعد انشغاله بالعلم والمعرفة هل انقطعت صلته بالمجاهدين والجهاد؟ في هذه الفترة انتهى كما تعلمون الكفاح المسلح بالمغرب. لكن عندما قامت ثورة الملك والشعب اثر نفي جلالة المرحوم محمد الخامس، كان منزله بحمدان مقرا لجيش التحرير بالمنطقة، وكان هو قد رحل الى فاس. لكنه عموما أصبح أكثر اهتماما بالقيام بحركة تجديدية في تسيير أمور الزاوية الحجامية، فبعد وفاة والده، اجتمع أعيان العائلة الحجامية ليقرروا في اختيار من يقوم بأمور الزاوية، فاستقر رأيهم على أحمد الحجامي، وهذا الاختيار لم يكن ليوافق هواه، فقد كان شغوفا بالبحث العلمي من جهة، ومن جهة ثانية كان يعتقد اعتقادا راسخا بأن أحوال التصوف لا تورث، فهو صاحب شريعة وفقه قبل أي شيء، ورغم أن أباه كان قد قلده أمانة الزاوية 12 سنة قبل وفاته، إلا أنه كتمها عن أعيان العائلة لعلهم يعفونه منها، متمنيا أن يختاروا شخصا آخر غيره، لكن جرت الأمور يغير ما أراد ولم يستطع أن يخالف ما أجمعوا عليه. ولهذا فإنه لما تولى أمور الزاوية قرر أن يباشرها ويديرها بمقتضى الشريعة لا بمقتضى الأحوال (أحوال التصوف)، فرفض مثلا أن يقام ضريح على قبر أبيه، رغم أن أباه كان قد أقام ضريحا على قبر أحد شيوخ التصوف بالمنطقة سيدي الحاج واكار. لكنه استمر في إحياء موسم المولد النبوي كل سنة، حيث يأتي إليه الآلاف من الزوار، مع العلم أن العدد تضاءل كثيرا خلال التسعينيات حيث لم يعد قادرا على الانتقال إلى البادية لكبر سنه، وأصبح يكتفي بإرسال من ينوب عنه من أبنائه. وكان يلقي خطبة للوعظ والإرشاد، ويقيم الذكر، كما كان يسهر على ختان الأطفال المعوزين.. بعد الاستقلال علم أن الحجامي ساهم في الحركة التنموية بمنطقته كما كانت له اهتمامات أخرى، كيف كان ذلك ؟ بالفعل، لقد كان يحمل هم المنطقة، وهي بالمناسبة منطقة لم تنل حظها من مشاريع التنمية في بداية الاستقلال، فكان يحاول أن يساهم قدر المستطاع في بعض المشاريع التي كان يراها ضرورية لحياة السكان، فكان يسعى الى شق بعض الطرق، وحفر الآبار، وإنشاء المدارس، وأتذكر أننا عندما كنا نذهب إلى حمدان ونحن صغار نلاحظ أن جزءا من منزل الأسرة يستعمل مدرسة لأبناء وبنات الدواوير القريبة، وكانت أول مدرسة بالمنطقة، وكان رحمه الله يأمر الآباء بإرسال بناتهم للمدارس لاقتناعه بحقهن في التعليم. هذه المشاريع كان يقيمها من ماله الخاص وأموال الزكوات لمن يتبرع بها من أغنياء المنطقة أو من محيطه الخاص.. كما يشرك عددا من المهندسين المتطوعين من معارفه في بناء المساجد وغرف المدارس والتخطيط للطرق. لم نسمع عن كتبه رغم علمه الوفير، هل كان منشغلا بالتأليف كما كان منشغلا بالتعليم؟ نعم له مؤلفات وهي عبارة عن مخطوطات في تاريخ المغرب الحديث، أي الفترة التي عايش وعاين أحداثها. وهي كتابات دقيقة يتحرى فيها الصدق والأمانة العلمية وتتطابق المعلومات الواردة فيها مع ما ورد في عدد من المصادر وخاصة منها المصادر الأجنبية . كما له مؤلفات في التوحيد والتفسير والفقه والفتاوى التي كان يصدرها في القضايا التي تعرض عليه، حيث كان الناس يقصدونه لحل ما أشكل عليهم سواء في الأمور الدينية أو في نزاعاتهم. وقد منعه فقدانه لبصره في أواخر السبعينيات من مواصلة الكتابة، لكن هذا لم يمنعه من الاهتمام بعدد من القضايا الفكرية والاجتماعية، فكان ينظم حلقات للمذاكرة مع العلماء من فاس وغيرها، كما كان يعطي دروسا في التفسير والحديث والفقه بعد صلاة الفجر وبين العشائين في المساجد التي كان يرتادها لقربها من مقر سكناه بحي الأدارسة وحي بورمانة بطريق إيموزار إلى أن عجز عن الخروج إليها منذ أربع أو خمس سنوات. فقد كان رحمه الله يتمتع بذاكرة ثاقبة وفكر متقد، ورغبة كبيرة في الاستزادة من المعرفة والمذاكرة العلمية الجادة حتى أواخر أيامه. حاورها من مراكش: عبد الغني بلوط شهادات في حق العلامة أحمد الحجامي رحمه الله الدكتور أحمد الريسوني: كان صواما قواما مدمنا على تلاوة القرآن الكريم نعم لقد تشرفت باللقاء والتعرف على الفقيد العزيز العالم المجاهد العابد الزاهد الشيخ أحمد الحجامي رحمه الله، لقد حظيت في مرات عديدة بزيارته ومجالسته. واستفدت واستمتعت بسماع آرائه ونصائحه، المشوبة دائما بالدعابة والبشاشة. لا أعرف كثيرا من سيرة حياته، ولكني أعرف من أقاربه وتلاميذه، أنها كانت حياة جهاد ومجاهدة، منذ صباه وإلى أن تجاوز المائة سنة من عمره. لقد كان يأخذ نفسه بالعزائم، ولكنه يعامل الناس بالترخيص والرفق، وكان صواما قواما مدمنا تلاوة القرآن الكريم، جعله الله تعالى نورا له في قبره وسلما له إلى أعلى عليين آمين. الدكتور عبد السلام الهراس:المغرب يفقد مكتبة شفوية هامة وعظيمة إن الشيخ الحجامي رجل علم، وفضل، وجهاد وتربية، عاش بجانب والده الشيخ محمد الحجامي صاحب الزاوية الحجامية الناصرية ببني زروال. عرفت الرجل بواسطة أحد الطلاب النجباء، ومنذ عرفت الرجل وأنا على اتصال به دائم، وقد شاء الله أن يكون الفقيه الحجامي ممن لهم فضل مشهود في الدعوة إلى الله بين الإسبانيين، الذين أسلم على يديه بعض خيارهم. والرجل بمجرد ما تجلس إلى جانبه يفتح معك حديثا علميا، فإنه لا يضيع وقته في الكلام الفارغ، أو في اغتياب الناس، بل يغضب إذا ما ذكر أحد بسوء في مجلسه، أو في أي مجلس حضره. فإن لم يكن هناك علم ولا سيما الفقه فالحديث يكون حول الجهاد. وبموت الفقيه الحجامي يفقد المغرب مكتبة شفوية هامة وعظيمة، فالرجل يعرف معرفة دقيقة مؤكدة مبنية على المعاشرة والمشاهدة. يعرف حقبة هامة من تاريخ المغرب، ولا سيما في الجبال، وقد ظل مع والده يجاهد إلى آخر سنة 7291، وقد حدثنا عن معركة بني صالح بقبيلة أخماس التي دارت بين المجاهدين، وبين الإسبان وقد هزم فلول المجاهدين الإسبان في بني صالح هزيمة منكرة. أعتبر أن الرجل كان ينبغي أن يكرم في حياته، وأن يستفاد منه في حياته، ومثل هؤلاء بموتهم تموت حقائق هامة من تاريخنا، ولذلك من شاء أن يدعي شيئا فليدعي، فقد مات ويموت من يعرفو الحقيقة. لذلك أعتبر فقدان الفقيه الحجامي خسارة كبرى للمغرب، ولتاريخ المغرب، وللحقيقة أقول لك بكل صراحة لولا أنه احتفظ ببعض الوثائق لوالده لضاع التاريخ كله، ولكن الذي ضاع من ذاكرته ولم يسجل فهو الكثير، وكم استفدنا نحن أهل جبال أهل جبالة في شفشاون، وغمارى، والأخماس، وبني أحمد، كما استفدنا منه من معلومات هامة عن بلدنا نحن، وعن أعلامنا نحن ممن رأيناهم، أو سمعنا منهم، فهو يعرف عمن نعرف أكثر مما نعرف. إن موت الرجل في الحقيقة مناسبة لتنبيه من بقيت عنده غيرة على المغرب، أن يهب وأن نهب معه جميعا لتدوين تاريخنا، ولتكريم رجالنا في حياتهم قبل أن يضيعوا كما ضاع الكثيرون ممن لا يلتفت إليهم، ومن هؤلاء محل والدنا المجاهد سيدي المكي الوزاني الذي حدثنا عن الحجامي، وحدثنا الحجامي عنه، وقد وفقني الله أن جمعت بينهما أكثر من مرة. الأستاذ العلامة سيدي محمّد بن علي الكتّاني من علماء القرويين ورئيس المجلس العلمي بفاس للتّجديد : لم يكن رحمه الله حريصا على الظّهور وعلى التّكليفات الرّسمية فقدت مدينة فاس في الأيام الأخيرة رجلا من أبرز فقهائها، وكان الأستاذ العلاّمة سيدي محمّد الكتّاني رئيس المجلس العلمي لفاس قد ألقى في جنازته كلمة تأبينية كلّها إجلال وتقدير للفقيد رحمه الله. وقد تمّت زيارة الأستاذ الكتّاني في مكتبه بالمجلي العلمي وكان لنا معه الحوار التّالي: الأستاذ الفاضل تتبّعنا بعناية الكلمة التأبينية الطّيّبة والمتميّزة التي قلتموها في حقّ الفقيه سيدي احمد الحجّامي عقب الصّلاة عليه في مسجد ادريس الأوّل والتي قلتم فيها أنّ الفقيد كان دائم الصّلة والاستشارة مع العلماء. نرجو بعض التوضيح في هذا الصّدد. بسم الله الرحمان الرحيم ، نعم كان الفقيه الحجّامي رحمة الله عليه حينما يسأل، ونظرا لتثبّته وحرصه على أن يفتي وفق الحقيقة العلمية والشرعية ،كان دائم الإستشارة معنا ومع العلماء الذين يحضرون معه في مجالسه الخاصّة. وهذا يدلّ على خوفه من الله تعالى وأنّه لا يتلفّظ إلاّ بما يناسب الشّرع والحقّ. ويدلّ على ثقته بنفسه. وهو من الرّعيل الأوّل الذين خدموا المعرفة والحقيقة بصدق وإخلاص. وكان يتثبّت في كلّ المعلومات ويتحرّى الصّدق ويحرص على أن يبلّغ إلى النّاس ما أمر به الله ورسوله، ولا غرابة في هذا فهو من بيت عريق في الشرف والعلم والمعرفة ووالده من كبار المجاهدين الذين حاربوا الاستعمار في الوقت الذي كان فيه هذا الاستعمار يتكالب على بلدان المغرب بصفة عامّة وعلى المغرب بصفة خاصّة، ويجنّد كلّ إمكانياته ليوقع المغرب في فبضته؛ ولا شكّ أنّه حضر مع والده في بعض هذه المناوشات التي كانت بينه وبين المستعمرين. ومن ثمّ تربّى على حبّ الوطن والدّفاع عنه والذّود عن المقدّسات. ما هي علاقة الفقيه الحجّامي بالقرويين؟ الفقيه الحجّامي لم يكن من العلماء المكلّفين في إطار الكراسي العلمية بمسجد القرويين لكنّه كان رحمة الله عليه يُلقي به دروسا خاصّة تطوّعية كما في بعض المساجد الأخرى. وكان رحمه الله تعالى يحضر في مجالس خاصّة لمدارسة العلم مع العلماء. الأستاذ الفاضل؛ كان لقب الفقيه ملازما لذكر اسم سيدي احمد الحجّامي رحمه الله، فما تعليقكم على هذا الأمر؟ لقد استوطن الفقيد فاس في بداية الاستقلال واتّصل بعلمائها وكانت له زاوية يرابطون فيها على مدارسة العلم والدّعوة والفتيا. وقد ازدادت معرفة النّاس به بعد الدّرس العلمي لختم صحيح البخاري الذي ألقاه بين يدي الملك الرّاحل أمير المؤمنين الحسن الثّاني رحمه الله الذي اختاره لهذا الختم لاستقامته وزهده ومعرفته وعلمه. ولمّا توفّي الفقيه الحجّامي سارع أمير المؤمنين محمّد السّادس بإرسال برقيّة مليئة بالثّناء عليه يعزّي فيها أسرته ويُذكّر بوطنيته وعلمه وأنه من العناصر التي كان لها دور أساسي في التّوعية الدّينية في هذا البلد. وكان لهذه البرقية التي كٌلّفت رسميا بتلاوتها في دار الفقيد الأثر الطّيب في نفوس محبّيه ومريديه. هل عٌرف الفقيد باجتهادات خاصّة؟ الأستاذ الكتّاني: كان الفقيد رحمه الله متشبّتا بالمذهب المالكي، وكان مع كلّ ما يوافق الشّرع. هل خلّف الفقيد رسائل علمية مكتوبة؟ الأستاذ الكتّاني: كان رحمه الله تعالى ينشر علمه ولا يكتبه، ولم تصلنا رسائل من عنده. ويمكن استفسار أسرته وأقربائه في هذا الشّأن. كيف تقدّرون المرتبة العلمية للفقيد؟ الفقيه الحجّامي لم يكن خرّيج جامع القرويين، لكنّه درس في زاوية والده رحمه الله وأخذ عن العلماء الذين مرّوا بها، ولمّا التحق بفاس كان حرصه شديدا على حضور مجالس العلم ومذاكرة العلماء حتّى أصبحت له مكانته المرموقة بينهم. وهو لم يكن عالما فحسب؛ بل كان عالما عاملا يطبّق على نفسه ما يعلمه، ورعا زاهدا يمثّل الصّوفية السّلفية الصّحيحة في ملبسه ومأكله وسلوكه العامّ. الملاحظ أنّ الإخبار بوفاته لم يكن بالقدر الكافي. من العادات التي كانت معروفة عند أهل فاس عند موت عالم ورع مستقيم من أمثال الفقيح الحجّامي أن ينادي منادون في الأسواق؛ يدعون النّاس إلى حضور جنازته تبرّكا به، لكن لم تعد هذه العادة موجودة نظرا للتّطوّرات التي طرأت على المجتمع المغربي فوقع نوع من الانفصام بين الماضي والحاضر. هل كان للفقيه الحجّامي علاقة بالمجلس العلمي؟ كانت له رحمه الله علاقة بكلّ العلماء نظرا لحرصه على الحضور معهم ولتقديرهم له، إلاّ أنّه رحمه الله لم يكن حريصا على الظّهور وعلى التّكليفات الرّسمية. وظلّ يٌلقي الدّروس العلمية بالمساجد القريبة منه رغم كبر سنّه إلى أن تدهورت ثمّ ساءت أحواله الصّحية. ومع ذلك بقي محبّوه من المجلس العلمي ومن خارجه يرتادون منزله ويحرصون على مجالسته ومدارسة العلم عنده. ولذلك لم تنقطع صلته بالعلم والعلماء وبطلبة الفتيا الذين يثقون في علمه وزهده إلاّ في أيامه الأخيرة وهو على فراش الموت. كيف تعرّفتم شخصيا على الفقيه الحجّامي؟ كان ذلك عن طريق العلاّمة الجليل الأستاذ عبد الحي العمراوي الذي كان من محبّيه وأخلص أصدقائه. وكان ذلك في بيته في أحد لقاءات مدارسة العلم. ودامت بيننا الصّلة العلمية بعد ذلك. أجرى الحوار: رشيد ياسين مراسل الجريدة