ترحل سنة 2008, بعيد أيام قلائل, ومعها نجوم سطعت في سماء الفن والإبداع المغربي, وأقلام تدفق مدادها على صفحات الكتب والمجلات والجرائد, فما كان ينتهي شهر من شهورها حتى تفجع الساحة الفنية والثقافية في وجه آخر يختفي عن العالم, وقلم سيفتقده عشاق الكلمة السلسة الهادفة إلى الأبد, وصوت ينطفئ بعد أن شدا وشد كثيرين لسنين طوال, فكانت حقا سنة دموع وأحزان وفراق استعصى. لم يكد, إذا, يمضي على حلول السنة الجارية أسبوعان حتى نعت أسرة مهنة المتاعب أحد رجالاتها المرحوم بنسالم فناسي عضو هيئة تحرير يومية (لومتان الصحراء والمغرب العربي), الذي كان "رجل ميدان, محبا لمهنة الصحافة, مسكونا بالبحث عن الجودة في الإنجاز", وبعده بنحو عشرة أيام, إعلامي آخر هو الراحل محمد الجعفري, الذي كان يطل على مشاهديه ومستمعيه من قناة (ميدي 1 سات) وإذاعة (ميدي 1) عبر تقاريره الإخبارية المهنية. وكأن المنون لا تتربص إلا بهؤلاء اللاهثين وراء الخبر بالكلمة والصورة, والبرامج المتميزة, فمع مطلع العشرة أيام الثانية من الشهر الثاني من هذا العام رحل أحد رواد العمل الإذاعي والتلفزي, إنه إدريس العلام, الذي ستظل صورته عالقة بذاكرة أطفال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من خلال شخصية "ابا حمدون" وما خلقته حينها من متعة في الحكي والتشخيص. والرجل, الذي شاءت الأقدار أن يتزامن يوم رحيله بيوم ميلاده, ترعرع معه جيل بكامله ونهل من معينه الكثيرون, من خلال برامج ثقافية وترفيهية ورياضية واجتماعية هادفة كان يعدها المرحوم للإذاعة والتلفزة, وجولاته عبر ربوع البلاد مع كل من الفنانين ثريا جبران وعزيز الفاضلي يقدمون خلالها عروض العرائس ومسرحيات ومسليات تربوية. ومن مونريال الكندية جاء, نعي الفنان اليهودي المغربي سامي المغربي (سلمون أمزلاك), فكانت ورقة أخرى ذوت من شجرة الفن والإبداع المغربي, بعد عطاء امتد نحو ستين سنة, عرف خلالها المرحوم بحبه الجارف للتراث الغنائي المغربي, وخاصة الطربين الإندلسي والغرناطي, فأنشد في بداياته أشهر قصائد فن الملحون لعدد من الرواد كسيدي قدور العلمي وبن سليمان وبن يشو. وطيلة حياته حرص الراحل سامي المغربي, على تجديد الأغنية المغربية في تقاطعاتها اليهودية المغربية, ومن أشهر إبداعاته التي أرخت لأحداث كبيرة في تاريخ المملكة "ألف هنية وهنية" و"قولو على السلامة لسيدنا محمد الخامس" (1955) ونشيد "الرياضة" الحماسي الذي أنجزه خلال أربعينيات القرن الماضي, ونشيد "العودة" بمناسبة رجوع جلالة المغفور له محمد الخامس من منفاه. وفي أحد مساءات الرباط الباردة رحل إلى دار البقاء الصحافي والمصور الفوتوغرافي محمد لوكميري, الذي عرف بمهنيته العالية وأخلاقه الحميدة. توقف قلبه عن النبض على إثر سكتة قلبية, وتوقفت معه آلة التصوير, رفيقته لأزيد من أربعة عقود أي منذ أن التحق المرحوم بوزارة الاتصال (وزارة الأنباء سابقا) سنة 1964, عن التأريخ للكثير من لحظات الذاكرة الفردية والجماعية لهذا البلد وللعديد من الأحداث داخل أرض الوطن وخارجه. وكانت "دمعة الفراق" حارة, والوسط الفني يشيع أحد رواد الموسيقى المغربية المرحوم الفنان عبد الرفيق الشنقيطي, الذي وافه الأجل المحتوم يوم الخامس من ماي الماضي بالرباط, والذي كانت "دمعة الفراق" هي الأغنية التي ولج بها إلى وجدان المغاربة بداية ستينيات القرن الماضي, من خلال كلمات المرحوم على الحداني وصوت عبد الهادي بلخياط. فلا غرو أن, يكون, الشنقيطي واحدا من مؤسسي الأغنية المغربية, فقد خطبت وده كثير من الأصوات وغنى له العديد من المطربين ألحانا عدة منها "المسافر" و"جا في الميعاد" و"ياعجبا", ومن تم كما أكد أصدقاؤه استحق تراثه الاهتمام الكبير وإخراج ما لم يسجل منه إلى الوجود, لينضاف إلى ربرتوار الأغنية المغربية. وتنتهي رحلة صاحب "صفحات من التاريخ' عبد العزيز التمسماني خلوق بعد معاناة طويلة مع المرض, وقد تميزت آخر أيامه بغزارة الإنتاج والعطاء الفكري, فكان بحق مصدرا للباحثين في تاريخ منطقة الشمال ومرجعا لعدد من الدراسات, إضافة إلى أخرى أعدها بنفسه ونشرت بجرائد ومجلات وطنية وعربية. وإلى جانب قلمه, الذي سخره لخدمة تاريخ منطقة الشمال, ومن خلاله تاريخ بلاده, ظل صوت عبد العزيز التمسماني خلوق, يصدح من إذاعة طنجة, التي التحق بها أواخر سبعينات القرن الماضي, إلى غاية أواسط التسعينات منه, من خلال برنامج "صفحات من التاريخ, الذي اشتهر بتقريبه لأحداث الماضي من الأجيال الحاضرة. وبقاهرة المعز شاء القدر أن يتوقف قلم آخر عن امتطاء صهوة الكلمات, إنه الكاتب والصحفي المغربي محمد لفتح, الذي امتهن الصحافة بيومية (لوماتان الصحراء) وبمجلة (لوتان دو ماروك), ومن بين ما خطه قلمه روايات "آنسات نوميديا" و"طفل الرخام" و"وردة في الليل" و"تحت الشمس وضوء القمر" و"شهيد من زماننا". وإلى دار البقاء, وبعد أيام ثلاثة فقط, سيرحل الكاتب المسرحي والباحث السوسيولوجي عبد السلام حيمر, الذي سيظل المشهد الثقافي المغربي يذكر له, إسهاماته الغزيرة في مجالات الأدب والمسرح والشعر التي نشرت على صفحات عدد من المنابر الإعلامية المغربية والمجلات الأدبية العربية المختصة, والتي عالج فيها قضايا عصره. وافتقدت ساحات السياسة والشعر والأدب والتاريخ أحد روادها, محمد الحبيب الفرقاني, الذي أشرف على نشر (مجلة الخطيب) ومن بعدها على إدارة صحيفة (المحرر), أما باكورة كتاباته فتعود إلى أربعينيات القرن الماضي بصحيفة (التقدم), ومقالاته العديدة وكتاباته القيمة ومن ضمنها ديوانا شعر موسومان ب"نجوم في يدي 1965" و"دخان من الأزمنة المحترقة". ومن الطريق ذاتها مر حسن الصقلي أو "أبا حسن", كما كان يناديه "أصدقاء الأمس" واليوم, الذين يعتبرونه أحد رواد السينما والمسرح والدراما التلفزيونية بالمغرب, بمشاركته في أحد أول الأفلام التي صورت بالمملكة بعد الاستقلال, قبل أن تتوالى مشاركاته في العديد من الانتاجات الوطنية والأجنبية ك"الرسالة" للراحل مصطفى العقاد. الرسالة التي آمن بها "ابا حسن" ودافع عنها باستماتة هي الدفاع عن حقوق الفنانين طيلة نصف قرن من العطاء والإبداع, لا سيما من خلال رئاسته لغرفة الممثلين المغاربة التي أسسها, كما تميز "أبا حسن" بحضوره المتفرد في عدد الأعمال الدرامية ك"أصدقاء الأمس" لحسن بنجلون و"نظرة" لنور الدين الخماري و"انهض يامغرب" لنرجس النجار. وافتقدت الأغنية الشعبية أواخر غشت الماضي واحدا من روادها, برحيل الشيخ محمد بن أحمد يونسي, الذي انطلق منذ صباه الباكر في مجال الأغنية البدوية, فسطع نجمه من خلال مواهبه في الغناء والشعر, إذ كان يكتب كلمات أغانيه التي جعل من الهجرة أحد أبرز مواضيعها, ومن أشهرها أغنية "الباسبور الأخضر" التي أضحت رمزا لمعاناة المهاجرين. وكما توقف صوت يونسي عن الصدح توقف, في اليوم الموالي, بسلا قلم الصحافي أحمد المحجوب من وكالة المغرب العربي للأنباء عن الكتابة والخوض في قضايا الرياضة متابعة وتعليقا, بعد نحو عقدين من الزمن من العطاء بمهنية وكفاءة عاليتين. غادر المحجوب إلى العالم الآخر تاركا لزملائه فراغا كبيرا واصرارا على مواصلة المسير على الدرب نفسه. كان "السي احمد" من الأوائل الذين ساهموا في تطوير التخصص بمصالح التحرير, من خلال عطاءاته في القسم الرياضي, وممن راهنوا على دور العمل الاجتماعي في المجال الإعلامي, فكان من المساهمين الأساسين في ميلاد جمعية الأعمال الاجتماعية للوكالة سنة 1992. ويتوالى رحيل المبدعين, ومن بين الذين رحلوا إلى دار البقاء هذا العام محمد عزيز الدباغ, المحافظ السابق لخزانة القرويين إحدى أشهر معالم الفكر والعلم في العالم, التي أثرى رفوفها بإنتاجاته الغزيرة في مجالات التاريخ والفلسفة والأدب والثقافة العربية الإسلامية, ووجه الوافدين عليها من طلبة وباحثين في أنشطتهم العلمية. وكما الأدب والشعر والغناء, ودع التشكيل في العام الذي نودعه المرحوم ميلود لبيض أحد الوجوه البارزة في الفن التشكيلي المغربي المعاصر, الذي ركب موج اللون والضوء إلى جانب أسماء كبيرة أخرى كالغرباوي والشرقاوي والقاسمي, منذ خمسينيات القرن, إذ عرض إبداعاته للمرة الأولى سنة 1958 بالرباط. والمرحوم لبيض, الذي كان "لا يعيش إلا ليرسم", من بين مؤسسي ما يمكن أن يطلق عليه المدرسة المغربية في فن التشكيل. وأعماله الحبلى بالخطوط والأشكال, وحيث يتقاطع الظل بالضوء, في قوالب تجريدية غاية في الجمال, توجد اليوم ضمن العديد من المجموعات الخاصة وفي العديد من المؤسسات داخل الوطن وخارجه. وعلى أمواج الأثير كان المرحوم المذيع والشاعر محمد الإمام الكوري, الذي وافاه الأجل المحتوم في إحدى صباحات الخريف الماضي, يسافر بمستمعيه بين أحداث الساعة من خلال نشرات الإذاعة الوطنية والبرامج التي كان يقدمها, وفي عوالم الشعر الحساني, بقصائد حكى فيها عن أغراض متعددة. وما إن أطل شهر شتنبر حتى نعي الشاعر والسينمائي الأستاذ حسن المفتي, الذي ذوت بوفاته ورقة أخرى من شجرة الفن المغربي في مجال الغناء والدراما, وتوارت علامة بارزة في مشهد الأغنية المغربية, واختفى فنان مبدع ساهم في إٍرساء صرح الإنتاج الفني الوطني لعدة عقود. رحل حسن المفتي, وتوقف نهر إبداعه الفياض الرائق, لكن أعماله ستبقى حية في الذاكرة الفنية الوطنية, وسيكتب اسمه بأحرف بارزة ضمن المبدعين المغاربة الخالدين الذين تمسكوا بالعطاء الفني الأصيل وصنعوا مجد الأغنية المغربية العصرية. وسيظل التاريخ يذكر الراحل عبد الوهاب بنمنصور, أحد رجالات الحركة الوطنية والمناضلين من أجل تحرير المغرب العربي ووحدته, امتهن التعليم, قبل أن يعين نائبا لمدير الإذاعة الوطنية, وبعدها في عدد من المسؤوليات بالديوان الملكي, قبل أن يعينه جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني مؤرخا للمملكة. وقد ترك الراحل, الذي يعد عضوا مؤسسا لأكاديمية المملكة, تراثا فكريا وعلميا مهما منه "البدائع" و"تعقيبات حول السياسة الاستعمارية بشمال إفريقيا" و"الحسن الثاني .. حياته, جهاده ومنجزاته" و"كشاف الأسر المغربية" و"حفريات صحراوية" و"أعلام المغرب العربي", كما كان له حضور متميز في العديد من المؤتمرات واللقاءات الدولية. وسار في الطريق نفسه شيخ اللغويين العرب المرحوم أحمد الأخضر غزال, الذي أجمع كل من قاربه على أن رحيله خسارة لكل المهتمين بالشأن اللغوي في المغرب وخارجه, بعد أن سخر حياته للخط والحرف العربيين وتنميطهما عبر استغلالهما في ميدان المعلوميات وجعلهما مواكبين للتطور العلمي والتكنولوجي, وساهم في ابتكار أول طابعة للرقن باللغة العربية. دافع المرحوم الأخضر غزال, بكل ما أوتي من قوة, عن اللغة العربية وعن قضايا التعريب والتعريب المواكب الذي يخدم لغة الضاد لتكون حاضرة في الميادين العلمية والفكرية, بل كان المرحوم أول من عمل بتعاون مع مؤسسات علمية دولية في كندا والولايات المتحدة, على جعل الحاسوب يتعامل بالحرف العربي. ويستسلم الفنان المسرحي عمر شنبوط أو "با عمر", كما كان يناديه محبوه, للمرض ويسلم الروح لخالقها, ليدخل في سبات أبدي, وهو الذي كان يكره الخمول والركون, لعشقه الكبير للتمثيل الذي حمله على كتفه لعقود من الزمن بصبر وسعة صدر كبيرين. قيمة فنية وإنسانية أخرى من الإبداع المغربي تغيب, ومعها قلب اتسع للجميع شيبا وشبابا, الذين لن ينسوه بفضل أعماله التي أهداها لهم لفترة زادت عن نصف قرن, ومنها أدواره التي تناوب عليها مع "عبد الرؤوف" (عبد الرحيم التونسي) على خشبة بسيطة مؤثثة بطاولة وكرسيين. وأبت سنة 2008 إلا أن ترحل ومعها روح عبد القادر لطفي أو "جبور", كما عرفه الجمهور في سلسلة "للا فاطمة". كل هؤلاء رحلوا خلال السنة المنصرمة غير أن أعمالهم ومساهماتهم ستظل حاضرة في ذاكرة الفن والأدب والفكر والإعلام وغيرها.