تشتكي الذاكرة التاريخية للمقاومة المغربية من مناطق ظل عديدة، يبدو أنه جاء الوقت لتسليط الضوء عليها، خاصة بعدما كثر القيل والقال حول بعض الأحداث والوقائع التي حدثت فيها، والتي يحاول كل واحد تفسيرها بالطريقة التي تحلو له، لخدمة مصالحه الضيقة. وعلى اعتبار أن للإعلام دورا مهما يضطلع به في الكشف عن ملامح الذاكرة التاريخية، أجرينا الحوار التالي مع الأستاذ الباحث علي الإدريسي، الذي أكد في حواره معنا، أن الإعلام الوطني مطالب في الوقت الحاضر بأن يلتزم خط المهنية في تناول الأحداث الوطنية، ومتابعتها، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن البرامج التي تقدم في هذا الإطار هي برامج جيدة، يجب دعمها ماديا وأكاديميا. من الواضح أن العلاقة بين وسائل الإعلام وتاريخ المقاومة الوطنية تعاني من معضلة كبيرة اسمها المقاطعة. كيف يمكن وصف هذه المعضلة بالنظر إلى التصور العام الذي يجب أن تكون عليه علاقة من هذا النوع؟ لا أعتقد أن العلاقة بين الإعلام والمقاومة تعاني من أزمة بالمفهوم السوسيو سياسي للكلمة. ولكن ما أعتقده هو أن هذه العلاقة تعاني من قلة الاتصال والتواصل. بمعنى أن وسائلنا الإعلامية، لأسباب تاريخية بعضها معروف وبعضها الآخر ما يزال مجهولا، ما تزال في حاجة إلى شيء من الشفافية وكشف الحقائق عبر صحافة وطنية مهنية ومتابعة. فالطابع الذي كان يغلب على إعلامنا هو الطابع المخزني التشخيصي، وهو ما أثر سلبا على تلك العلاقة المذكورة، بحيث إن ما كان ينشر كان ينظر إليه كمرآة تعكس ما يريده المخزن، وأصبح ذلك الطابع المخزني بمثابة طريقة إعلامية، إلى درجة أن كثيرا من الكتاب والباحثين أصبحوا يمارسون مراقبة ذاتية على كتاباتهم، ثم راحوا يكتبون بالأسلوب الذي لا يزعج، مما أثر سلبا على مصداقية الإعلام، وتطوره الإيجابي. وإلى جانب هذا النوع من الإعلام، طغت ظاهرة الإعلام الحزبي الذي كان يهدف إلى نشر أفكاره، وملامح إيديولوجيته، والتبشير بشعاراته السياسية... وشخصيا لست أدري لماذا لم يوجد لدينا إعلام حزبي يدافع عن إيديولوجيته، وهذا من حقه، ولكن يدافع عن قضايا الرأي العام، بحيث يستفيد هو كذلك من توسع قاعدة قرائه.. وبخصوص موضوع المقاومة، فمن المعلوم تاريخيا أن هذه الظاهرة كانت في حد ذاتها إعلاما قويا، خدم القضية الوطنية، وأعطى المغرب سمعة عالمية، في وقت لم يكن فيه أحد يهتم به. وفي تاريخنا الحديث ما يؤكد هذه الحقيقة ويدعمها... فالانتصارات الباهرة التي حققها محمد بن عبد الكريم الخطابي منحت المغرب صيتا دوليا بعدما كان نسيا منسيا.. ولم يكن بالإمكان معرفة التيار الوطني في هذا البلد لولا المظاهرات التي قامت عام ,1952 والتي استشهد فيها الكثيرون تضامنا واستنكارا لاغتيال المناضل التونسي فرحات حشاد، ولولا المعارك التي قادها المجاهد أحمد أحنصال ضد المحتلين، رغم أن الصحف وقتها كانت تصفه بأبشع النعوت، في وقت كانت فيه قوات الاحتلال تجند لهذا المجاهد أكثر من 12 ألف مقاتل للقضاء عليه... إذن لقد أسدت المقاومة كظاهرة عمت المجتمع ومنذ بداياتها خدمة جليلة إلى الدولة المغربية. لكن ما يثير لدينا نحن كمغاربة التساؤل السلبي حول دور الإعلام، هو أن بعض مناطق المغرب بقيت محتلة حتى بعد الاستقلال... وهنا يطرح الدور الذي كان على الإعلام أن يضطلع به: هل يجب عليه فقط أن يؤيد السياسة الرسمية للدولة، أم كان عليه أن يدافع عن قيم الأمة وثوابتها الحضارية؟. الخلاصة: أن الإعلام وتاريخ المقاومة هما وجهان لعملة واحدة تتأطر بمنظومة القيم المشتركة المحددة للهوية الوطنية. إن الإعلام هو الذي يبني ويؤسس الشعور الوطني، وهو الذي يدعم أسس الثقافة المشتركة، إلى جانب فكرة الوطن الواحد التي هي التعبير الصحيح عن الشعور بالانتماء. إذا اتفقنا على أنه هناك نوع من عدم التواصل بين الإعلام عموما، وبين موروث تاريخ وطني من مثل تاريخ المقاومة، على اعتبار أنها نقطة انطلاق المغرب المعاصر... من هو المسؤول عن هذا اللاتواصل: هل هم الإعلاميون أم قيادات الأحزاب السياسية، أم السلطة الرسمية؟ في نظري لو كان لدينا إعلام بالمفهوم المتعارف عليه، لكان قد اضطلع بدوره الكامل في غرس قيم المواطنة في نفسية المغاربة، بالنظر إلى الآليات السريعة والفعالة التي يتوفر عليها. أي أن الإعلام كان سيملأ خانة التاريخ الشعبي، في الوقت الذي تقوم فيه الأحزاب والحكومة بملء خانة التاريخ الإيديولوجي، ومعاهد البحث والجامعات بملء خانة التاريخ الأكاديمي.. وفي هذه المستويات الثلاث، يمكن أن نرى أن أخطر دور هو دور الإعلام، لأنه هو الجسر الذي يمكن من الوصول إلى مختلف الفئات الشعبية، وهو الذي يظهر العلماء والشعراء والفنانين وغيرهم، ويقدمهم كذاكرة حية يمكنها أن تصل الحاضر بالماضي. إن تحديد المسؤولية في غياب التواصل بين مكونات التاريخ المغربي يستلزم الرجوع إلى هذا الماضي لمعرفة حقيقة ما حدث... وأنا هنا أقتبس ما قاله الأستاذ الغالي العراقي، وهو من قيادات المقاومة وجيش التحرير في منطقة تطوان في كتابه ذكريات نضال وجهاد، بحيث يؤكد أن النسق السياسي غداة الاستقلال كان يتضمن ثلاثة عناصر رئيسة: المؤسسة الملكية، والحركة الوطنية، وعناصر جيش التحرير. ويضيف الغالي العراقي أن هذه المكونات الثلاث لم تتفطن إلى المنزلق الصعب الذي انزلقت إليه الأوضاع في المغرب بعيد الاستقلال، ويعلل ذلك بقوله إن السبب في ذلك هو أن كل طرف من هذه الأطراف كان يخطط لمستقبل غامض. وشخصيا أتفق مع هذه المقولة، بحيث اتضح بعد الاستقلال أن الذين كانوا شركاء في القضية الوطنية، أصبحوا فرقاء بعد التحرير، وبدلا من أن يؤسسوا لمغرب الاستقلال سويا، افترقوا، وانطلق كل واحد منهم في رحلة البحث عن تحقيق مصالحه الخاصة... وهنا نطرح التساؤل حول الحالة التي أصبح عليها الإعلام في ظل هذه المعادلة التي نشأت بعيد ,,.1956 فالملاحظ هو أن الإعلام الذي ظهر وقتها كان إعلاما رسميا وحزبيا، يدافع عن الإيديولوجيا الضيقة، ويدافع عن وجهة الأطراف التي تقف وراءه، في محاولة منها (أي هذه الأطراف) لتحقيق مآربها الخاصة. وإذا أضفنا إلى هذه المعادلة نظرية المخزن، وكيف يتصوره المغاربة، وأبعاد الدور الذي قام به في تاريخ المغرب، فيمكن أن نقول إن التاريخ المغربي ما يزال يعاني من مناطق ظل عديدة، يجب التفكير الجدي في تسليط الضوء عليها بكل أمانة ومسؤولية، حتى نستطيع أن نرتكز عليها لبناء مستقبل متماسك وقوي. إذا انتقلنا للحديث عن تعامل القناتين الوطنيتين، الأولى والثانية، مع تاريخ المقاومة، كيف تقيم الأستاذ الإدريسي هذا التعامل؟ أعتقد أن أزمة الإعلام الوطني حاليا تبرز بشكل واضح عند الإعلام المرئي... وأتصور شخصيا أن أغلب الصحافيين الذين يعملون داخل القناتين يشعرون أنهم موظفون وليسوا صحافيين يؤدون خدمة مقابل أجرة شهرية منتظمة، وبالتالي وعوض أن يتملكهم الشعور بضرورة التطرق إلى المواضيع المثيرة والمزعجة أحيانا، يفضلون اللجوء إلى مواضيع مستهلكة، حتى لا يطالهم العقاب... خاصة في ظل عدم وضوح الخطوط الحمراء الحقيقية التي يجب الوقوف عندها... والتلفزة الوطنية إذن هي جزء من معضلة الإعلام الوطني، وبالتالي فالموظفون الذين يعملون في هذه المؤسسة يخضعون لتأثيرات الإيديولوجيا، وتأثيرات الثقافة المخزنية... وهذه معطيات يجب بطبيعة الحال تجاوزها... وعموما فالبرامج التي تقدم خلال المناسبات التاريخية، والبرامج الوثائقية التاريخية التي تقدم من حين لآخر على شاشة التلفزة الوطنية، وعلى الرغم من المؤاخذات الكثيرة التي يمكن تسجيلها على هذه البرامج، إلا أنه يمكن القول إنها بضاعة إعلامية جيدة نسبيا، وفي بعض المرات، إذا لم يكن بالإمكان إيصال الرسالة كاملة، المهم أن تصل بنسبة 75 في المائة على الأقل.. وحاليا تعرض القناة الأولى برنامجا عنوانه مغرب القرن العشرين، وأعتقد أنه برنامج يتحدث عن تاريخ المغرب بكثير من الوضوح، وكثير من الشفافية، بغض النظر عن بعض الأخطاء التقنية، أو تلك التي تصيب المضمون (أخطاء في التواريخ، وفي الأماكن، وفي الأحداث)... ومثل هذه البرامج يجب تشجيعها ودعمها سواء تعلق الأمر بالدعم المادي أو الأكاديمي... انطلاقا من كل ما سبق، كيف تتصور مستقبل العلاقة التي تربط وسائل الإعلام الوطنية وتاريخ المغرب عموما؟ أود أن أؤكد أولا أن أمر المستقبل هو بيدنا، وليس هناك أي عصا سحرية بإمكانها أن تصنع لنا مستقبلا بالشكل الذي نحلم به. ولتحديد صورة المستقبل، يجب أن نطرح على أنفسنا بعض الأسئلة، فهل بإمكاننا إيجاد إجابات شافية لها حتى نستطيع تسليط التوضيحات اللازمة على الماضي... ومن أهم هذه الأسئلة ذلك السؤال المتعلق بمدى قدرتنا على الحديث بصراحة، ودون خوف، عن تاريخنا، وهل بإمكاننا نفض الغبار عن المنسيات التاريخية دون رقابة تقيدنا... خاصة وأننا في عهد جديد يفرض على جميع فئات المجتمع من أكاديميين ومسؤولي سلطة وإعلاميين وغيرهم التفاعل والتعاون من أجل توضيح الحقيقة التاريخية التي نحتاجها، حتى نحقق الأفضل بالنسبة لوطننا في المستقبل... وهنا أود أن أوضح بأنه آن الأوان لكي تتحدد بدقة الخطوط الحمراء التي يجب عدم تجاوزها، حتى نتمكن من الحديث عن كل ما يهم بلادنا بشجاعة ومسؤولية في العلن، عوض أن تقتصر الكثير من الألسن على لوك حقائق التاريخ والحاضر والمستقبل داخل المقاهي والنوادي... وهنا أصارحك بأنني أتابع باهتمام كبير الخطابات الملكية، وأستطيع أن أؤكد لك أن خطابات صاحب الجلالة هي متقدمة جدا على خطابات الهيئات السياسية الوطنية، وعلى كثير من الكتابات الإعلامية... وأكرر أنه آن الأوان لقول الحقيقة، في ظل احترام شروط الأمانة والموضوعية والمسؤولية، حتى لا نحرم بلادنا من أسس التنمية الصحيحة، ولا شك أن أهم تلك الأسس هي معالجة أخطاء الماضي، للانطلاق نحو المستقبل... حاوره أحمد حموش