بتاريخ 23 فبراير 2015 نشر الصحفي سليمان الريسوني مقالاً في جريدة "المساء" وفي موقع هسبريس في نفس الوقت بعنوان No podemos (لا نستطيع، أو لن نستطيع).سياق المقال مرتبط بتطورات الحركات الاحتجاجية وحركات "الساخطين" على الأوضاع في كل من المغرب وإسبانيا. المقال لامس بحدس نقدي مشكل انتقال هذه الحركات من عفوية الشارع المعبّرة عن "السخط"، إلى امتلاك مشروع معبّر عن استراتيجية تجاوز الأوضاع "المسخوط عنها" عبر الفعل السياسي الواعد بتحسين هذه الأوضاع. ما أثار انتباهي في هذا المقال، بالرغم من حسه النقدي، هو الطابع التشاؤمي فيه: No podemos (لا أو لن نستطيع)! الظاهر أن كاتب المقال متتبع لما يقع في إسبانيا، وكأي مغربي قريب من الجغرافيا (الطبيعية أو السياسية) لإسبانيا، لا شك أنه يتأثر بما يقع في البلد الجار، وربما يتخذ من التحولات التي عرفتها وتعرفها إسبانيا مرجعية ونموذجاً يُحتذى (في الانتقال الديمقراطي كما في تدبير الديمقراطية). إسبانيا ليست بالضرورة نموذجاً!في كل قراءة لتحولات مجتمع ما يمكن أن نقوم بتمرينين: إما قراءة تشاؤمية أو قراءة تفاؤلية. قد تستند القراءتان معاً على حجج ومبررات؛ وقد تكون القراءتان معاً، منطقياً، صحيحة. لكن، من موقع مسؤوليتي كمثقف، أجد نفسي مدفوعاً للانحياز للقراءة التفاؤلية، ونحو جعل القراءة التشاؤمية مبرراً أساسياً لصناعة التفاؤل. لماذا، أولاً، لا تعتبر إسبانيا نموذجاً يُحتذى؟ إنها بكل بساطة تنتمي اليوم إلى نموذج الدولة المواطنة، أو دولة المواطن. ونحن ما زلنا بعيدين عن هذا النموذج. دولة المواطن هي دولة يتماهى معها المواطن، وحتى يتماهى معها، اختارت نمطين لتدبير الاختلاف: الديمقراطية واللائكية.الديمقراطية واللائكية، في الشرط التاريخي الذي نجتازه، صعبة التحقيق (لكنها ممكنة على أية حال).الديمقراطية لعبة شديدة التعقيد (والتقعيد)، تتطلب معرفة ومهارة، تتطلب مواطناً كفؤاً ومستقلاً بذاته، مواطناً تم إنجازه كذلك (أي كمواطن) في نظام تربوي يجعله قادراً على استعمال قُدراته (اللغوية والمنطقية والمعرفية) لاختيار حريته، لاختيار ممارسته لحريته ولمسؤوليته.اللائكية شرط أساسي لتدبير الاختلاف، لفض النزاعات والتوترات، لتدبير المال والأعمال، وما يتطلبه المال والأعمال، بمعزل عن القناعات الدينية والمذهبية. اللائكية أيضاً شرط لممارسة حرية العقل، العقل الذي هو شرط التحرر والتقدم. في إسبانيا، نضجت الشروط التاريخية لتصبح الديمقراطية واللائكية هما المحددان لهوية المواطن، لفعله، لحريته، لمسؤوليته. إسبانيا عرفت، منذ تحرك "الملوك الكاثوليك"، تحالف الكنسية مع السياسة، أو تماهي السياسة مع الكنيسة، حيث إلى غاية العقد الأول من القرن العشرين، كانت الكنسية هي الدولة والمجتمع معاً، كل شيء كان يفسَّر ويدبَّر بإرادة الأسقف أو الراهب. في الأندلس كما في بلاد الباسك وأقاليم أخرى من إسبانيا، كانت أهم مؤسسة، وأهم عمارة، في المدينة كما في البادية، هي الكنسية. بين كل بيت وبيت، كنا نجد كنسية. إسبانيا اليوم مختلفة تماماً، مختلفة جذرياً. لقد توارت الكنسية إلى مكانها الطبيعي، كمكان للعبادة، تزاحمها في ذلك كنائس الأرثوذوكس والبروتستانت ومساجد المسلمين وبيعات اليهود ومعابد بوذا وغيرها من المعابد. لم تعد الكنسية مركزاً للسياسة والمجتمع. إسبانيا اليوم، الديمقراطية واللائكية، هي قوة إقليمية، قوة اقتصادية، قوة ثقافية، قوة ديمقراطية. دخلها القومي وحدها يوازي الدخل القومي للدول العربية مجتمعة، بما فيها دول الخليج. نسبة الأمية فيها تكاد تكون منعدمة. وهي فوق كل ذلك قوة ثقافية وعلمية، إذ يكفي مثال واحد: ففي مجال الترجمة، ما تترجمه إسبانيا من كتب في سنة واحدة يعادل ما ترجمه العرب منذ إنشاء بيت الحكمة ببغداد إلى اليوم، أي منذ أزيد من 1200 سنة! أما ما يتعلق بتمويل البحث العلمي، فنجد أن إسبانيا، رغم التقشف، خصصت له سنة 2014 5 مليار و639 مليون أورو من ميزانيتها العامة، مقابل 45,5 مليون أورو التي خصصتها الحكومة المغربية لنفس الغرض. قوة إسبانيا الثقافية والعلمية لا تكمن فقط في تراثها الإنساني الغني (بما فيه الأندلسي)، بل في عبقرية أدبائها وعلمائها ومفكريها الذين ساهموا في بناء إسبانيا الحديثة. وقد حازت إسبانيا على سبعة جوائز نوبل (5 في الآداب و2 في العلوم) مقابل نوبل واحد لكل العرب (ولا شيء للأمازيغً)! إن حزب "بوديموس"، وقبله حركة "الساخطون" هم لا شك نتاج اجتماعي "طبيعي" للأزمة الحادة التي بدأت تعرفها إسبانيا منذ سنة 2008، لكن قبل ذلك هو نتاج لرد فعل مسؤول لأغلبية المواطنين الذين يختلفون في تقييم الأزمة وطرح البدائل لتجاوزها. لكن، بالرغم من الإجماع على حدة الأزمة، وعلى تراجع الخدمات الاجتماعية والقدرة الشرائية للمواطنين، ما تزال مدن إسبانيا نظيفة للغاية وحركة المرور سلسة ومنظمة، وأمن المواطنين مضموناً، كما أن المواطن لن يبيع صوته مقابل بعض النقود (خلافاً لما يجري، ولما نتوقعه هنا)! السبب الثاني الذي يجعلني أقول بأن إسبانيا ليست نموذجاً يُحتذى يكمن في الهوة العميقة بين التحولات المجتمعية في إسبانيا والتحولات الجارية في بلدنا، فلا مقارنة مع وجود فارق. إن إسبانيا التي لا يتجاوز عدد سكانها 1,4 ضعفاً عدد سكان المغرب، فإن دخلها القومي يتجاوز دخلنا القومي عشرة أضعاف. نحن كمغاربة، لسنا مدعوين بالضرورة إلى اقتفاء أثر "بوديموس"، أو الانبهار به (بالمناسبة، فأقلية قليلة من المغاربة هي التي تتابع تطورات الوضع السياسي في إسبانيا، خلافاً لاهتمامنا الشديد بما يقع في بلاد الغال). لكننا، عكس ذلك، نحن مدعوون إلى البحث في مكامن ضعفنا ومكامن قوتنا، حتى نتمكن من جعل معرفة الضعف مقدمة والقوة عماداً ومرجعاً.كثير من التحليلات وصفت حركاتنا الاحتجاجية (العفوية والظرفية) بالقصور والضعف. هذه خلاصة هامة. ولكن، هل تساءلنا لماذا هذا القصور والضعف؟ إن الحركات الاحتجاجية، الشبابية وغير الشبابية، هي حركات مطلبية بالأساس ترمي إما إلى المطالبة بمنصب شغل، أو توفير دواء، أو الحصول على سكن أو بقعة أرض. وعندما تكون هذه الحركات أكثر نضجاً، تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وبحياة أفضل. في بلد انخرط في "مسلسل" ديمقراطي سنة 1976 وفي "انتقال" ديمقراطي سنة 1998، من المفروض أنه اختار الديمقراطية كأسلوب للتدبير السياسي يتنافى مع ظهور أصوات تطالب بالحرية والديمقراطية، فالديمقراطية تكون أو لا تكون! ثمة شيء ما متعثر في "ديمقراطيتنا". هذا الشيء المتعثر، في نظري، هو عدم تطابق النظام الديمقراطي مع النموذج المجتمعي الذي يريده المغاربة، أو بعض المغاربة، أو هو مفروض على المغاربة، أو بعض المغاربة. إليكم سمات هذا النموذج المجتمعي: النظام التعليمي: إنه نظام متردد في استراتيجيته، متعثر في أهدافه، ضعيف في أدائه، غير واضح وغير منسجم في مضمونه. إنه نظام لم يستقر بعد. نظام مكلّف لكن غير ذي جدوى تناسب تكلفته. نظام يعتمد الأبارتهايد التعليمي، إذ يميز بين مدارس للفقراء، ضعيفة الكفاءة والفعالية، ومدارس للأغنياء، عالية الكفاءة والفعالية، نسبياً.نظام يُشحن ولا يلقّن، يدرّس ولا يكوّن، يخاطب ولا يبرهن، يوعظ ولا يمدّن (من المدنية). إنه نتيجة لذلك لا يُنجز مواطناً قادراً على التفكير، على صياغة الحلول (سواء كانت رياضية أو وجودية أو سياسية)، على بناء منظومة منسجمة للقيم، هذه المنظومة الضرورية للانخراط في مجتمع الحداثة. إنه نظام يُنجز أفراداً إذا تمكنوا من القراءة فهم يقرؤون ولا يفهمون، وإذا فهموا فإنهم لا يتفاهمون، وإذا كتبوا فإنهم لا يتواصلون. نحن الآن أمام جيل لا يملك لغة، واللغة أداة للتعبير، والتعبير ضروري للتواصل، والتواصل ضروري للتعايش وبناء القيم.نظام يجعل من التربية الدينية، عبر إعمال منطق "النقل" على حساب منطق "العقل"، عموده الفقري: فدرس اللغة هو درس في الدين، ودرس التاريخ هو درس في الدين، ودرس العلوم هو درس في الدين، ودرس التربية على المواطنة وحقوق الإنسان هو درس في الدين. في المدرسة (العمومية) تهيمن النظرة اللاهوتية، وننسى أن الدين ما هو إلا بعد من أبعاد الوجود الكثيرة. ونتيجة لذلك فالمدرسة تُنجز أفراداً غير مستقرين روحياً، متشددين أحياناً، متمردين عن القيم أحياناُ. والأكثر ذكاءاً من هؤلاء يوظفون الدين إما لتدمير المجتمع، وإما للسيطرة على المجتمع. نحن أمام جيل جردت المدرسة طاقته الطبيعية في الانعتاق من الطبيعة ومن الإنسان. جيل لا يحقق ذاته، من خلال ممارسته لحريته، في الخلق والإبداع، وفي العمل والإنتاج، بل في العنف (المادي والرمزي)، عنف إن لم يتمكن من توجيهه للآخر فإنه يوجهه لنفسه عبر تدمير الذات. لا شك أن كثيراً من الأساتذة مثلي يحسون باكتئاب كبير حين يقيمون طلبتهم، ولا شك أنه ينتابهم قلق عظيم عندما يكتشفون أن "غالبية" الطلبة لا يعرفون بناء جملة مفيدة: جملة صحيحة نحوياً قبل أن تكون مفيدة لغوياً ومعرفياً. إنها الكارثة بعينها! النظام الاقتصادي: النظام الرأسمالي (كقيمة وكسلوك) أصبح راسخاً في المجتمع المغربي الذي غدا يتفرد باستمرار. لقد مضى زمن الحديث عن الاقتصاد المزدوج (عصري/تقليدي)، فقليلون من المغاربة هم الذين يضعون أسئلة على كنه هذا النظام ومدى توافقه مع العدالة الاجتماعية.الأسئلة المطروحة لا تتعلق بشرعية أو لاشرعية النظام الرأسمالي، بل بالأساس بطرق تكوين الثروة في أفق "البديل الديمقراطي"، بطرق اشتغال الدورة الرأسمالية، بمدى إعمال مبدإ التنافس الحر والنزيه، بمدى توزيع الثروات ودور الدولة كناظم وحكم.ثمة عائقان أساسيان لانطلاق الاقتصاد المغربي في أفق إضفاء الطابع الاجتماعي والإنساني عليه، وإن كان الوجه الحقيقي للرأسمالية هو الوجه المتوحش المبني على الاحتكار والجشع. العائق الأول هو تطابق السلوكات الدينية مع روح الرأسمال، ليس ذلك التطابق كما فسره ماكس فيبر في دراسته عن "البروتستانتية وروح الرأسمالية" (الجهد كفضيلة والكسل كخطيئة)، وإنما القدرة التبريرية الغالبة لدى مستعملي الدين للجشع واحتكار الثروة، والتعامل مع الفقر كمسألة طبيعية موازية تجد حلها في رأفة وشفقة الأغنياء! العائق الثاني هو الفساد في وجهه الاقتصادي والتدبيري، مع مفارقة أن مختزلي الفساد في الجانب الأخلاقي (بعض أبعاد الأخلاق فقط) لا يعيرون كثير الاهتمام للفساد الاقتصادي والتدبيري. هناك إجماع على أن الفساد يعتبر من بين عوائق التنمية. فإسبانيا، على سبيل المثال، تخسر بسبب الفساد حوالي 120 مليار أورو سنوياً (80 مليار بسبب التهرب الضريبي و40 مليار بسبب فساد المؤسسات والمقاولات). وإذا كانت إسبانيا تحتل مكانة أقل فساداً من المغرب (حيث تحتل الرتبة 37 مقابل 80 للمغرب من أصل 174 دولة)، وإذا كانت آلياتها في محاربة الفساد أكثر كفاءة وفعالية من الآليات المعمول بها في المغرب، فمن السهل تصور مدى خطورة الفساد والتهرب الضريبي في المغرب. وللفساد الاقتصادي أشكال يمارسها النافذون في المغرب، أهمها: الاستيلاء على أملاك الدولة أو الأراضي الجماعية بمقابل رمزي أو بمقابل أقل بكثير من ثمن السوق (البعض استولى على الأملاك الغابوية وأملاك الغير "بالعلالي")؛ وفرض عمولات على الصفقات العمومية والتحايل الضريبي بما في ذلك الشراكة مع المقاولات المتعددة الجنسية سواء عبر صيغة الامتياز (franchise) أو عبر صيغة التدبير المفوض للخدمات العمومية لصالح المقاولات الأجنبية؛ هيمنة اقتصاد الريع عبر منح امتيازات تعرقل التنافس والمبادرة الحرة والنزيهة وتكافؤ الفرص، وتمتد هذه الامتيازات من رخص وسائل النقل (الطاكسيات والحافلات) إلى استغلال المعادن ومقالع الرمل والأحجار، إلى الأجور المرتفعة (أحياناً مرتفعة جداً) لمدراء المقاولات العمومية والشبه عمومية، إلى العلاوات الإضافية المرتفعة (القانونية والشبه قانونية) الممنوحة لبعض "الخبراء" و"المستشارين" وأعضاء "اللجان الخاصة" وبعض المسؤولين السامين في الدولة، إلى الجمع بين عدة وظائف ومهام عمومية في يد نفس الأشخاص، إلى غير ذلك. النظام السياسي: أقصد بالنظام السياسي النظام الحزبي بالأساس، ذلك لكون الأحزاب توجد في صلب العملية السياسية لكل ديمقراطية.وبغض النظر عن الأدوار التاريخية التي مارستها التشكيلات الحزبية المغربية، وبغض النظر عن مواطن قوتها ومواطن ضعفها، فإن المنظومة الحزبية، في مجملها، لا تعبر حالياً عن انتظارات غالبية المغاربة وذلك لعدة أسباب أوجزها فيما يلي: انسياق الأحزاب وراء منطق "المحاسبة السياسية" (المحاسبة بمعنى العمليات الحسابية) بحث إن هاجسها الأكبر هو الحصول على بعض المقاعد وبعض الأصوات بأية طريقة ممكنة، مستعينة في ذلك بمبدإ "الغاية تبرر الوسيلة". طبعاً الغاية هي الحصول على مقاعد (المقعد يمكن أن يترجم بمنصب شغل أو قاعدة نفوذ أو حصانة)، والوسيلة هي ترسانة من اجتهادات انتخابوية تتقاطع فيها الشعبوية والزبونية مع سلطة المال وسلطة التقرب ممن هم أكثر نفوذاً. ضعف الإبداعية السياسية، سواء على المستوى التنظيمي أو مستوى الخطاب والتواصل، لذلك فجل التنظيمات السياسية، إن لم تكن كلها، تجتر نفس الأساليب التي ورثتها منذ أزيد من نصف قرن وترتوي أحياناً من قاموس شعبوي وأحياناً أخرى من قاموس ديني و/أو إيديولوجي لا يعبر بالضرورة عن إمكانيات التغيير في أفق حداثي ديمقراطي. هيمنة الزعامة (المزاجية والمعصومة من الخطإ) وضعف الديمقراطية الداخلية (فاقد الشيء لا يعطيه)، مع ما يتبع ذلك من تحويل العمل السياسي من تطوع مدني وإخلاص لممارسة المواطنة السياسية، إلى ارتزاق واسترزاق وحرفة مربحة يتوارثها الابن عن الأب كما يتوارث الثروة (بالمناسبة يمكن أن أسجل حالة، وما أكثر الحالات، لهذا السلوك، حيث إن أباً كان قيد حياته في نفس الوقت رئيس بلدية ورئيساً لغرفة مهنية ورئيساً لمجموعة بنكية وبرلمانياً، وبعد موته، ورثه ابنه فأصبح في نفس الوقت رئيس بلدية ورئيساً لغرفة مهنية ورئيساً لمجموعة بنكية وبرلمانياً). ضعف الحس الوطني عند الكثير من أصحاب القرار والنفوذ، وهذا الضعف راجع بالأساس إلى ضعف قدرتهم على فرض استقلالية القرار من خلال انتمائهم إلى شبكات من مصالح عابرة للجهات وعابرة للدول أو من خلال تعدد ولاءاتهم كمحميين جدد (كنموذج على ذلك حاملو الجنسيات المزدوجة و/أو حاملو المصالح المزدوجة). إن الحس الوطني الحقيقي غير المطعون فيه هو حس الفقراء وجزء من الطبقات المتوسطة الذين لا جنسية لهم غير عرقهم الذي به يسقون هذا الوطن. نتيجة لما سبق، وفي غياب رؤية استراتيجية مدروسة ومتأنية، فإن المنظومة الحزبية المغربية لا تعبر بالضرورة عن أداة صلبة لقيادة التغيير وتدبيره، ولعل ذلك ما يفسر هشاشة وظرفية التحالفات الاستراتيجية من جهة، وبلقنة المشهد السياسي من جهة أخرى. إن الانقسامات المستمرة والمتلاحقة داخل الأحزاب، بقدر ما لا تعبر عن أية قيمة مضافة، بقدر ما تعيق بلورة مشهد سياسي قادر على قيادة التنمية الديمقراطية. الأفق الثقافي: المرجعية الثقافية للمغاربة متعددة، والجميع يعتبر ذلك ثروة ينبغي استثمارها كقيمة مضافة بدل النظر إليها كعائق. غير أن هذه المرجعية، إن لم تستثمر في اتجاه رؤية استراتيجية ترمي إلى تحرير الإنسان من قصور الذات ومعيقات المحيط، فإن طابعها المفجر للطاقات سيخبو لا محالة، وسيتحول إلى عائق حقيقي للتنمية.ثقافتنا تحددها الأسرة والمجتمع والدولة، وهي التي تحدد، في نهاية المطاف سلوكنا، إما كمواطنين مستقلين ذاتياً، قادرين على القيام بالفعل الملائم لتجاوز قصور الذات ومعيقات المحيط، وإما كرعايا أو زبناء أو مريدين مسلوبي القدرة على تجاوز قصور الذات ومعيقات المحيط، وبالتالي يعتمدون على القدر المحتوم أو الخدمة الإرادية للأسياد. أفقنا الثقافي محدود جداً في وضعنا الحالي. فنتيجة لفشل نظامنا التعليمي وطبيعة اقتصادنا المبني على الاحتكار والريع، وبلقنة المشهد السياسي وعدم قدرته على فهم انتظارات غالبية المغاربة، إضافة إلى تفشي الأمية وشبه الأمية والفقر والبطالة وزحف ثقافة الاستهلاك، فإن مخزوننا الثقافي لا يترجم قدرة المغاربة على بناء نموذجهم الخاص في ولوج مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية، الذي هو بالضرورة مجتمع الرفاهية. ونتيجة لكل ذلك، أيضاً أصبحت ثقافتنا هجينة (لغوياً ومعرفياً)، حيث إن "العودة اللاشعورية للتدين" ما هي إلا مؤشر لذلك. وأقصد بالعودة اللاشعورية للتدين هيمنة اللاوعي الديني على كل الحقول المجتمعية الأخرى (التربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية)، مع اختزال الدين في الطقوس الظاهرة على حساب منظومة القيم.إن منظومة القيم هي المتأثرة بالدرجة الأولى من الوضع الهجين لثقافتنا: العقل، الحرية، المساواة، التسامح، التعايش، الصدق، الوضوح، العمل، المجهود، الاستقلال الذاتي... وفي تضعضع هذه القيم يكمن أهم تحد لتجاوز قصور الذات ومعيقات المحيط. ونتيجة لتضعضع منظومة القيم، أصبحت السمات الرئيسية لثقافتنا هي الغش (في الامتحانات والمباريات، كما في التنافس الاقتصادي والسياسي)، والهروب من المسؤولية (الاستعمال المكثف وفي غير محله لعبارة "إن شاء الله" في حياتنا اليومية)، وسيادة ثقافة الريع (الكل يريد أن يستفيد بغض النظر عن الكفاءة والفعالية والمردودية)، والاتكالية (ثقافة التسول أصبحت تطغى على ثقافة الجهد والعمل)، وثقافة التبرير (التبرير الذي ينكر الحقيقة بدل الاعتراف بها).والآن، وبعد كل هذا، هل نستطيع؟نعم نستطيع، Sí, Podemos نستطيع، لأننا نحن المغاربة، شأننا في ذلك شأن سائر الشعوب، نستطيع أن نقوم بفعل انعكاسي لتأمل الذات، لمساءلة الواقع، لموازنة قوتنا وضعفنا، للتأثير في محيطنا، لتقرير مصيرنا. نستطيع أن نحول الضعف إلى قوة، نستطيع أن نتجاوز نواقصنا في النظام التعليمي كما في النظام الاقتصادي والنظام السياسي. نستطيع، ليس بالضرورة اليوم أو غداً، ليس بالضرورة كلنا أو بعضنا؛ فالزمن ليس زمن الفرد (الزائل لا محالة)، والعدد ليس بالضرورة عملية حسابية. نستطيع، لأننا نحن المغاربة لسنا بجبناء. من يعتقد أن تحملنا للأعباء (غلاء المعيشة، الأعباء الضريبية، المديونية الداخلية والخارجية، الاستحواذ على الخيرات، العجز التعليمي، العجز الصحي، العجز الأمني، العجز التشريعي والقضائي...)، من يعتقد بأن تحملنا للأعباء جبن فهو خاطئ. إن تحملنا للأعباء منبعه الولاء للوطن أولاً. إن رد فعل غير مدروس، فجائي، ظرفي (كما وقع في بعض البلدان مؤخراً) هو رد فعل سيوقظ الوحش الذي يسكننا، سيوقظ الوحش المتربص بنا (الوحش طبعاً يوجد في المصالح المتشابكة العابرة للجهات والدول، كما يوجد في البعض أو الكثير من المحميين الجدد ومن ذوي الامتيازات القدامى والجدد. نحن المغاربة تعلمنا منذ زمن بعيد أن إثارة الوحش لا تفيد، وأن الصبر المدروس حكمة. نستطيع، لأن غالبيتنا لم تقل كلمتها بعد. اللعبة الانتخابية (وليس بالضرورة الديمقراطية) تهم أقلية فقط، و"ممثلو الأمة" هم ممثلو أقلية من الأمة تم استدراجها بالوسائل التقليدية. نستطيع، لأن نظام توزيع المصالح، عبر اقتصاد الريع، لا يمكن أن يعمم، بمعنى أن يدمقرط. إن تعميمه هو نفي للنظام (نظام الأقلية التي تحكم الأغلبية). وبما أن تعميم المصالح (الذي يمكن ترجمته بالتوزيع العادل للثروات) غير ممكن الآن وفي المنظور القريب، فلا شك أن كثيراً من المغاربة سيكتشفون بطلان نظام الريع (الريع تستفيد منه أقلية فقط). نستطيع، لأن طاقة الفقراء وجزء من الطبقات المتوسطة (من عمال وفلاحين وحرفيين وتجار صغار وموظفين وبعض أصحاب المهن الحرة) طاقة لا تنضب. إنهم بمثابة شبكة الأوعية الدموية لجسم الوطن. هذه الطاقة التي لا تنضب تحاول محاصرتها شبكات المصالح العابرة للجهات والدول، ولكن ككل طاقة، فمحاولة محاصرتها، مهما طال الزمن، آيلة إلى فشل، فالطاقة في حاجة إلى تحرير. نستطيع، لأن الشباب لم يقولوا كلمتهم بعد. إنهم مشروع بناء مؤجل، طاقات معطلة (ذاتياً، بفعل التربية، وخارجياً، بفعل القهر). إنهم يساهمون في بناء مستقبل الوطن قدر الإمكان، وعندما يضيق بهم الوطن، يفجرون طاقاتهم خارجة (في الرياضة كما في الفن، في العمل الفكري كما في العمل السياسي...). الشباب يكتشفون أكثر فأكثر أنهم ضحية نظام تعليمي مفلس ويحاولون إعادة تربية ذاتهم. يكتشفون أكثر فأكثر أن الإدمان على الإنترنيت ما هو إلا بديل رخيص للإدمان على أنواع أخرى من المخدرات ويحاولون أن يكتشفوا الوجه المفيد لوسائل الاتصال الجديدة. يكتشفون أكثر فأكثر أن زمن جشع الشيوخ وأصحاب القفى الغليظة قد ولى، وأنه حان الأوان لأخذ المبادرة والتحكم في زمام الأمور. يكتشفون أكثر فأكثر أن الأبواب الموصدة (ربما لأنها صدئة) لا تمنعهم من فتح أبواب جديدة والتوجه نحو أفق بديلة. نستطيع، لأن نساء المغرب بدأن ينتفضن من قيود فرضت عليهن منذ زمن ليس بيسير، فباسم قناعات شكلية فرضت السلطة الرجولية النظرة الدونية عليهن وقبلن، عن وعي أو غير وعي، الخدمة الإرادية للسيد ولزمن الحجاب المادي والرمزي معاً. المرأة أصبحت اليوم أكثر يقظة وفطنة، فتماماً كالفقراء الذين يتجنبون إثارة الوحش، فهي تتجنب إثارة الأوصياء عليهن (من التقليدانيين المتطرفين أو المتزمتين أو الليبراليين المنتفعين) وتمشي بخطى حثيثة نحو التحرر وفرض الذات. نستطيع، لأن المثقفين المغاربة يدركون تماماً، شيئاً فشيئاً، أن دورهم الطبيعي هو العمل، ليس فقط على نقد الواقع من خلال الفكر والإبداع، وإنما أيضاً على صناعة الأمل وفتح الآفاق الجديدة لتجاوز قصور الذات وعوائق المحيط. المثقفون المغاربة لا يسعون كلهم أن يترأسوا لجاناً لمنح إعانات للسينمائيين أو المسرحيين أو الكتاب مقابل بعض العلاوات، كما أنهم لا يسعون كلهم إلى أن يصبحوا وزراء للثقافة ليطبعوا كتبهم على نفقة الحكومة. إنهم يدركون جيداً محدودية هذه الخدمات، لذلك فهم يتوجهون أكثر فأكثر نحو مواقف أكثر تأثيراً في الفكر وفي المجتمع. نعم نستطيع، لأن حاملي مشروع اليسار المغربي، الحداثي والديمقراطي، غير المكتمل بفعل التسلط تارة وبفعل التضليل والإغراء تارة أخرى، يكتشفون تدريجياً أنهم كانوا مخدوعين، وبأن الانتهازية ما هي إلا مرض ظرفي يصيب جسم المجتمع في وهنه، وأن العمل السياسي تطوع وليس تبضع، وأنه حان الوقت للدخول في لعبة جديدة: فإما أن ينخرطوا كلية في "الخديعة" وإما أن يبادروا إلى قيادة زمن التغيير الدمقراطي بواقعية جديدة: النضال الديمقراطي السلمي، المبدع والخلاق، المعتمد على مناصرة الأغلبية واحترام الأقلية، المستعمل للغة العقل والقانون واللياقة الأخلاقية (عوض لغة الهزل والسخرية والمزاج). النضال الديمقراطي السلمي بهذه المواصفات هو الكفيل بالتوجه بالمغاربة نحو مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية ومجتمع الرفاهية.