لقد تبلورت ثقافة المواطنة انطلاقا من شرعنة المصلحة الذاتية، حيث ساعدت على خلق مناخ سياسي دينامي يطغى عليه البعد الحداثي والمشروع الديمقراطي. فما وضعية المواطنة بالعالم العربي ؟ وما هي العوائق التي تقف كحاجز أمام تطورها ؟ 2- إشكالية المواطنة في العالم العربي: إن معالجة إشكالية المواطنة في العالم العربي اقتضت منا تشريح النسق السياسي القائم. فما طبيعته وما هي مرتكزاته ودعائمه ؟ وما هي النتائج المترتبة عن السياسة المتبعة من طرف الأنظمة العربية الحاكمة ؟ لقد تميز الوطن العربي بنسق سياسي منغلق موشوم بالنزعة المركزية، ذو طابع أبوي يقوم على الهرمية والتراتبية، وتتمتع المنظومة السياسية العربية الإسلامية بهذه الخصائص: * نزعة تيوقراطية التي تستخدم بشكل ماكر وباحتيال مقيت النصوص الدينية كالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة والمقولات الأخلاقية لإضفاء الشرعية على الكثير من القرارات الجائرة. * النزعة الشمولية والاستبدادية التي تتجلى في الهيمنة المطلقة على الحياة السياسية والاقتصادية، وترتكز هذه السلطوية على إستراتيجية القمع والتعسف والتهميش والإبعاد، وسيادة ثقافة الاستعلاء والاستكبار الذي تلمسه في تعاطي الحكام للملفات الشائكة وللمشاكل، حيث يطبعه التجاهل واللامبالاة والاستهتار. * هيمنة نزعة الضبط والتحكم باللجوء إلى سياسة العنف الأعمى والترهيب لتدجين وتطويع الحركات الاحتجاجية واحتواء قوى المعارضة. لا شك أن المناخ السياسي العام الذي تطغى عليه نزعة الاستبداد وسيادة سياسة القهر والعنف والزجر لا يساعد بتاتا على استنبات قيم الديمقراطية وتكريس المواطنة، فالمنظومة السياسية القائمة في معظم البلدان العربية تعد استمرارا للمنظومة القبلية التي سادت العالم العربي لقرون طويلة، فالحاكم هو بمثابة شيخ القبيلة والأب القاسي، يعتمد أسلوب الأمر والنهي والزجر والعارف أكثر بمصالح رعاياه والمؤهل وحده لرسم مصيرهم ومستقبلهم بكل الوسائل، حيث تميزت الحياة السياسية بهيمنة البغي والطغيان الذي أفرز العديد من المآسي للشعوب العربية، إذ لا يخفى على أحد أنه في ظل أنظمة الاستبداد والفساد تستل السيوف من أغمدتها وتخرج السكاكين الحادة من أجل غرسها في الأجساد دون رحمة أو شفقة، وتتميز بمسارها الدموي المفرط وانتهاجها سياسة القمع الوحشي والتقتيل الهمجي، فالتاريخ العربي موشوما بالدم، تاريخ اغتيالات واعتقالات تعسفية، وشن الحروب القذرة على الشعوب العربية التي لم تترك للقوى الحية الراحة واستعادة الأنفاس. لا ريب أن هذه الاختيارات اللاشعبية واللاديمقراطية جعلت الطغاة العرب يقعون في ورطة سياسية وأخطاء قاتلة ناجمة عن عدم استيعابهم لدروس وعبر التاريخ، حيث لعبوا دورا مركزيا في تلويث الحياة السياسية التي تفتقد كليا إلى قيم الديمقراطية والمواطنة، ولا شك أن غياب ثقافة المواطنة يعكس غياب الثقافة السياسية الحديثة ويعبر عن بؤس سياسي، فغني عن البيان أن هذا الواقع السياسي المأزوم ارتبط بالطبقة السياسية الفاسدة التي غرقت في مستنقع الفساد المالي والانتخابي والتي تحكمها العقلية المتحجرة التقليدانية، وتطغى عليها القبلية والعصبية وثقافة الغنيمة والمتجلية أساسا في الهرولة العمياء وراء المال والاغتناء لفاحش والكراسي والمواقع. لقد تعطل النظام العربي وأضحى مشلولا في ظل وجود أنظمة الاستبداد والفساد. إن الشعوب العربية غرقت في مستنقع هذه الأنظمة التي كانت حصيلة إنجازاتها كارثية بسبب تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إذ يمكن القول أن المسار الدموي الذي ميزها عكس عمق أزمة الديمقراطية والمواطنة. إن سياسة الاستعلاء والاستقواء والسلطوية لا تتماشى مطلقا وتعزيز قيم المواطنة الفعلية، فهذه السياسة قتلت إرادة الإنسان العربي وحولته إلى كائن مشلول عاجز لقرون طويلة، لذلك انعدمت إمكانية التعايش بين السلطة والمجتمع العربي. إن هذه البيئة السياسية الجامدة والمتعفنة قادت إلى اغتيال طموحات الشعب العربي، كما أفرزت الإحباط المميت الذي قاد إلى الانفجار الاجتماعي العارم انطلق في أواخر سنة 2010 بتونس ليعم بعض البلدان العربية الأخرى كاليمن ومصر وليبيا، حيث عرفت هذه البلدان ثورة شعبية كانت بمثابة الزلزال العنيف الذي قوض دعائم الأنظمة الديكتاتورية العربية، إذ اقتلعت فكرة الحاكمية الظالمة وطاعتها العمياء وإدخالها في مزبلة التاريخ، وهنا لابد من الإقرار أن انطلاق الفعل الثوري العربي جاء بعد مرحلة عقم طويلة الأمد، لهذا اصطلح على هذا الصراع السياسي الشعبي الذي قاده الشباب ب»الربيع العربي»، كما عكس نجاح الثورة العربية انهيار المشروع الأمريكي-الصهيوني في المنطقة لعربية والذي كان يقوم على دعم الأنظمة، وكذا بناء الإنسان العربي الفعال والمتحدي الذي استطاع تحطيم حاجز الخوف وجدار الرعب. لهذا كله، فإن التشبث بمكتسبات الثورة من شأنه أن يساعد على تعزيز المشروع الحداثي والديمقراطي وتثبيت قيم المواطنة. وهكذا أنتج الربيع العربي صفحة جديدة، حيث خلق فرصا سانحة لتوطيد دعائم المشروعية الديمقراطية التي تعني بناء المؤسسات وإرساء قيم المواطنة بالبلدان العربية، ومن بينها المغرب. فما طبيعة الحياة السياسية السائدة في المملكة المغربية ؟ وما مسار تطور المواطنة ؟ وهل صياغة دستور جديد كاف لتوطين الديمقراطية والمواطنة الكاملة؟ هل تتبنى الدولة فلسفة المواطنة بكل أبعادها ؟ 3- المواطنة كآلية أساسية للتحديث السياسي بالمغرب: من المؤكد أن الوضع السياسي المغربي لا يختلف كثيرا عن الأوضاع السائدة بالبلدان العربية الأخرى، فقد شهدت البلاد بدورها مرحلة تاريخية طويلة موشومة بالانغلاق السياسي وسيادة كل مظاهر التقليدانية على الدولة والمجتمع معا جعلت المغرب يعرف جملة من التحديات الخارجية والداخلية التي ارتبطت بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي والجيوسياسي، وتوالي الأزمات السياسية الخانقة أجلت عملية الانتقال إلى دولة المواطنة. فما أسباب هذا الجمود السياسي ؟ هناك جملة من الأسباب المساهمة في استمرار الوضع السياسي البئيس والمأزوم ومن أبرزها: أ- هيمنة النخب السياسية الفاسدة على المشهد السياسي والتي تجسد أحد رموز البنية السياسية العتيقة التي لا تخرج عن النمط السياسي العام الذي ساد العالمين العربي والإسلامي لقرون طويلة، إذ شكل العنف والقمع أحد الآليات المعتمدة لدى السلطة المخزنية الموروثة عن حقب تاريخية سابقة، والتي ترتكز على ثقافة تدبيرية قوامها التحكم والضبط والزجر وطغيان الهاجس الأمني عوض المنطق التنموي، وتفتقد إلى الوضوح والشفافية التي ترتبط بهيمنة العقلية المتكلسة ذات النزعة التقليدانية. فما دور هذه العقلية في عرقلة مسار التحديث ؟ ب- طغيان الذهنية التقليدانية: لقد كرست هذه العقلية واقعا سياسيا مأزوما تطغى عليه العبثية لكونها تفتقد إلى مشروع مجتمعي حداثي واضح، في حين تتوفر على مشروع سياسي محافظ يرتكز أساسا على فلسفة تدبيرية قديمة تجاوزها الزمن الراهن، لهذا يجب ألا نندهش من سلوكات وممارسات هذه العقليات والتي تشكل عائقا حقيقيا أمام تطور مفهوم المواطنة. غني عن البيان أن هذه العقليات تحمل ثقافة سياسية رثة تحملها حكومة البيجيدي التي تبنت اختيارات بثت الرعب في نفوس المغاربة وجعلت الكثير منهم غير مطمئنين تماما إلى المستقبل، حيث اغتالت الآمال والطموحات وزرعت الإحباط واليأس القاتل. وبناء على ما سبق، يمكن القول أن ما يحدث في هذه اللحظة التاريخية من انحرافات وانزلاقات خطيرة عن مقتضيات الوثيقة الدستورية الجديدة يشكل مؤشرا قويا على انتكاسة قيم الديمقراطية والمواطنة، وتتمثل هذه الانحرافات في الهجمات الضارية التي تشنها مكونات الجهاز الحكومي على الشعب المغربي بمختلف فئاته وطوائفه والتي غالبا ما تكون ترمي إلى الترويع والترهيب لتثبيط الهمم والعزائم، والترويض والتطويع. لا شك أن هذه المعارك القذرة والخرجات الطائشة والغريبة والناجمة عن اجتهادات فاشلة بعيدة عن ثقافة العصر وتحولاته، تحكمها الارتجالية والعبثية، كما تعكس أن صناع القرار لا يملكون تصورا شموليا ورؤية جلية حول الممارسة الديمقراطية وآلياتها ومرتكزاتها، فالإجراءات التي تم تبنيها غالبا ما تفضي إلى الباب المسدود وتضع الوضع العام في الحضيض. هذه الإجراءات الاستثنائية التي يؤطرها الاستبداد والتحكم والمنع تتجلى في التضييق على الحريات والمس الصارخ بحقوق الإنسان تعكس طابع الانسداد السياسي للدولة، في ظله تنقطع جسور التواصل بين السلطة والمجتمع، إذ لازالت دائرة الانفتاح السياسي ضيقة. لا مندوحة من الاعتراف أن الوضع السياسي القائم تعتريه جملة من الخدوش والاختلالات العميقة كسيطرة السياسة الأمنية المتشددة والصارمة والتي غالبا ما تصاحبها المضايقات البوليسية والمتابعات القضائية والمحاكمات الجائرة البعيدة كليا عن الضوابط القانونية. من المؤكد أنه في ظل الاحتقان السياسي والاجتماعي الناجم عن تغييب الحقوق ومنع الحريات تتفاقم أزمة المواطنة، فهذا الواقع السياسي القاتم يدفعنا إلى طرح المزيد من الأسئلة المشروعة، وهي كالتالي: - هل تحمل هذه الاختيارات تباشير مغرب جديد قوامه المواطنة الحقة ؟ - هل يتجه المجتمع المغربي فعلا نحو إرساء دعائم مواطنة حقيقية أم لا ؟ - ما هي الإستراتيجيات المثلى التي ينبغي اتباعها لتعزيز البناء الديمقراطي وتكريس قيم المواطنة؟ ج- دور الطبقة السياسية والقوى الاجتماعية المتعفنة: لا شك أن أزمة المواطنة التي تشهدها المملكة المغربية مرتبطة بوجود طبقة سياسية فاسدة ومتعفنة أصبحت تنعت بألقاب متعددة ومختلفة مستوحاة من القاموس السياسي العجائبي والغرائبي أو الفانطاستيكي الذي يتضمن كائنات مرئية كالثعابين السامة والعقارب، وكائنات غير مرئية كالشياطين والعفاريت والأشباح. لقد أضحت هذه القوى السياسية والاجتماعية قوة ضاغطة بعد تزايد نفوذها السياسي والاقتصادي والمالي، وثرائها الفاحش الذي حققته بنهب المال العام والاستفادة من نظام الريع والامتيازات المخزنية التي كانت تغدق عليها. لهذا تسببت هذه الطبقة الفاسدة في العديد من الأزمات والكوارث والهزات التي تعرضت لها المملكة المغربية، فالانحطاط في الأخلاق السياسية والسلوك يحول دون تكريس المواطنة الحقة، فهذه الأطراف وقفت كسد منيع أمام توسيع دائرة الديمقراطية والمواطنة، إذ تساعد على تعزيز ما أسميه بالديمقراطية التفضيلية والتمييزية المتعارضة كليا ومبادئ المواطنة الحقة المتمثلة أساسا في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. لا ريب أن هذا الواقع السياسي المختل يجعلنا صرحاء أكثر بالقول أننا نعيش في إطار منظومة نخبوية انتقائية تكرس الفوارق الطبقية وترسيخ ثقافة الامتيازات وتغييب الطاقات والكفاءات البشرية، وتساهم في إقبار كل المبادرات الحرة وتنمية القيم الفاسدة كالانتهازية واللصوصية والاستهتار بالمسؤولية وغيرها من الأنماط السلوكية التي تسهم في تسميم الحياة الحزبية والسياسية وتقوي عملية النفور من العمل الحزبي والفعل السياسي برمته، فالملاحظ والمتتبع للشأن السياسي المغربي، يلمس التسابق المحموم والمعارك الضارية حول المراكز الحساسة والحقائب الوزارية والكراسي البرلمانية والجماعية أثناء الحملات الانتخابية التي تمثل بحق مواسم الحصاد والجني. بناء على ما سبق، يمكن القول أن الحضور الوازن لهذه الطبقة السياسية التي يقودها الأعيان يمثل أحد مظاهر وأسباب هشاشة قيم المواطنة في المجتمع المغربي والتي نلامسها فيما يلي: * ضعف المشاركة الشعبية في الاستحقاقات الانتخابية. * هشاشة التسويق السياسي الحداثي المبني على الكفاءة والمردودية والفعالية. * غياب تفعيل القانون وعدم احترامه. * تفشي مظاهر الإقصاء والتهميش الاجتماعي. * انتشار آفة الغش بمختلف أشكاله وأنواعه ومن أبرزها التملص الضريبي، الغش في البيع، الغش في الامتحان والعمل، وتفشي كل وسائل المكر والخداع والتدليس. فهذه كلها إحدى تجليات أزمة المواطنة ببلادنا والتي تشكل تعبيرا واضح المعالم عن جمود سياسي مخيف، فالشيء المثير للقلق هو أننا نعيش في صلب هذه الأزمة الخانقة التي ساهمت في إفراغ الديمقراطية من مضمونها، كما تعكس الفشل الذريع في التنزيل الديمقراطي والقراءة الحداثية للوثيقة الدستورية الجديدة، هذه الحقيقة المرة تدفعنا إلى طرح أسئلة مركزية تفرض ذاتها علينا وهي: - أي نوع من المواطن الذي نحتاجه في حياتنا المعاصرة ؟ - أنريد المواطن المتسلق والمهرول وراء المواقع والكراسي والحقائب والمناصب ؟ أم المواطن الضعيف المستكين والمغلوب على أمره أي المواطن «الحيطيست» أي المواطن الذي يسير بجانب الجدران ؟ - أنريد المواطن الحربائي ذي الأقمصة المتعددة والقادر على تغيير جلده وعباءته عدة مرات ؟ إن المواطن الفعال هو سيد نفسه، يتمتع بشخصيته وباستقلالية قراراته ومواقفه، ويتحلى بمواقفه الجريئة وبإرادته الصلبة وبتحديه، وبتجرده من الخوف الدائم الموسوم به كل من الأقنان والرعايا. إننا نريد أيضا المواطن الإيجابي المتشبع بثقافة التغيير والمساهم في صنع القرار وتطوير مجتمعه، المتمرد على القيم الفاسدة والممارسات المشينة. - أنريد المواطن المتطلع إلى الفتك والافتراس ؟ من المهم الإشارة هنا إلى أن مسألة المس بقيم المواطنة تمثل إحدى التجليات الدراماتيكية للواقع السياسي العليل، فالمهتم بالشأن السياسي الوطني سيقف على مفارقات عديدة التي يترجمها تناقض الخطاب والسلوك أو الممارسة، وبعبارة أدق ازدواجية الخطاب والسلوك لدى مكونات الحكومة النصف ملتحية. يتضح أن ثقافة المواطنة لازالت تعيش محنة ببلادنا، إذ لازالت تعرف التعثر والإخفاق، لهذا فإن تجاوز هذا الواقع القائم يقتضي التوفر على عدد من الشروط أبرزها: * وجود عقلية حداثية متشبعة بالثقافة الديمقراطية والحقوقية. * انخراط كافة القوى الحية بروح التفاهم والتشارك بعيدا عن الصراع والاصطدام. * التحرر من كل مظاهر التقليدانية ومن هيمنة العقليات المتحجرة والحاملة لثقافة بالية لا تتماشى مع تحولات العصر الراهن. * إحداث قطيعة مع كل الممارسات المشينة التي ساهمت في تلويث الحياة السياسية بسموم الانتهازية والوصولية والسلطوية. * تخليق المشهد السياسي من خلال تفعيل الآليات القانونية والتشريعية التي تتيح المحاسبة. الخلاصة: لا مندوحة إذن، أن عملية تكريس المواطنة الحقة صارت ضرورة ملحة في الوقت الراهن لتجاوز الكثير من الأمراض المزمنة التي تعتري الوضع السياسي وانسجاما مع التحولات الديمقراطية التي يشهدها العالم العربي في ظل الربيع الديمقراطي العربي، فتحقيق إقلاع حقيقي للمواطنة يشكل البديل الأنجع لثقافة الحاكمية والسلطوية.