«نحن نعتقد أن ما لم نمارس العقلانية... وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره، فإننا لم ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا... ننخرط بها في الحداثة المعاصرة كفاعلين وليس كمنفصلين». محمد عابد الجابري تمهيد: لقد صدرت جملة من التقارير التي شخصت لنا الأزمة التعليمية التي تعاني منها بلادنا، ومن بينها: أ- التقارير الدولية الصادرة منذ عام 2008 التي قدمت مؤشرات قائمة على منظومة التربية والتكوين، إذ كشفت عن تخلفها وانحدارها، وأعلنت صراحة تدني وتراجع المستوى، وجعلت المغرب يحتل مراتب متأخرة في الترتيب العالمي بعد عدة بلدان عربية كالأردن والكويت ولبنان وتونس، حيث تتراوح بين الرتبة 124 والرتبة 127 عالميا على مستوى التنمية البشرية، كما وضعته التقارير الصادرة سنة 2012 في الرتبة ماقبل الأخيرة من بين 60 دولة نامية شملتهم الدراسة. ب- تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي الذي أبرز اختلالات وأعطاب المنظومة التعليمية. ج- التقارير الصادرة عن المجالس التعليمية واللقاءات والندوات التربوية التي تقترح فيها البدائل والحلول لمعالجة تدريس مختلف المواد وتحسين ظروف وشروط الممارسة الديداكتيكية داخل الفصول الدراسية لضمان التعلم الناجح، ووضع حد للنزيف القوي الذي تشهده المدرسة العمومية. هذه التقارير عكست الواقع التعليمي المتأزم بالمغرب، مما يحول دون تأهيل العنصر البشري الذي يشكل عماد التنمية الشاملة. - فما هي الأسباب الحقيقية للوضعية المتأزمة لمنظومة التربية والتكوين ؟ - وما المظاهر وتجليات الخلل ؟ I - العوامل المساهمة في أزمة النسق التربوي والتعليمي وإخفاق الإصلاح البيداغوجي: 1- غياب فلسفة تربوية واضحة المعالم. 2- نهج سياسة تعليمية عرجاء تغلفها النظرة السياسوية الضيقة التي عكستها مجموعة من الاختيارات الغريبة مثل: مقرر 2008 الذي يشكل مرآة حقيقية للاختيارات الأحادية والقرارات الفوقية. سنحاول في دراستنا هذه، التركيز على هذا الإجراء الغريب، إذ يشبه قانون الطوارئ الذي تعتمده الأنظمة الشمولية والكليانية. فما هي مضامين هذا المقرر ؟ وما هي منطلقاته ودوافعه الحقيقية وأبعاده العميقة ؟ لقد ظهر هذا المقرر الوزاري الترهيبي في إطار أجرأة المخطط الاستعجالي (2008 ? 2012) الذي شكل أحد الاختيارات التي جاءت كرد فعل متسرع عن التقارير الدولية التي تصدرها بعض المؤسسات كالبنك العالمي. فماذا تضمن هذا المقرر ؟ وهل مقتضياته تتماشى والبيداغوجيا الحديثة ؟ II- المقرر الوزاري المشؤوم: مكوناته ومظاهره السلبية لقد تضمن المقرر الصادر في عام 2008 رزمة من الإجراءات الترقيعية التي تعكس غياب الرؤية الإستراتيجية الواضحة المعالم، والحكامة الرشيدة، ومن أبرز هذه الإجراءات: * اعتماد الأستاذ المتنقل بين المؤسسات لإتمام حصصه. * تكليف أساتذة الثانوي الإعدادي بتدريس ما سمي بالمواد المتقاربة أو المتآخية، وهي كالتالي: اللغة العربية الاجتماعيات التربية الإسلامية الرياضيات الفيزياء والكيمياء التكنولوجيا المعلوميات الفيزياء والكيمياء علوم الحياة والأرض التربية الأسرية تأسيسا على ما سبق، لابد من الإشارة إلى أننا لامسنا بعض النماذج من تدريس المواد المتقاربة بمندوبية فاس، والتي سنوردها في ورقتنا هذه على سبيل المثال لا الحصر، إذ تعد نموذجا مصغرا عن واقع السياسة التعليمية العرجاء ببلادنا، ومن بين هذه النماذج نجد: * تكليف أستاذة الإجتماعيات بالثانوية الإعدادية الياسمين بتدريس مادة اللغة العربية إلى جانب مادة التخصص. * تكليف أستاذة الاجتماعيات ث. إع. الحديقة بتدريس اللغة العربية. * تكليف أستاذ التكنولوجيا بإع. الوحدة بسيدي حرازم بتدريس الرياضيات بث. إع. المختار السوسي. * تكليف أستاذ التكنولوجيا بإع. أبي العباس السبتي بتدريس الرياضيات، وهو بالمناسبة مارس مهنة التعليم منذ 1981. * تكليف أستاذة الاجتماعيات بث. إع. عبد العالي بن شقرون بتدريس التربية الإسلامية. وهنا لابد من الاعتراف بأننا لا نتوفر على معطيات إحصائية دقيقة حول ظاهرة التكليفات المشبوهة لغياب الشفافية والوضوح، لكن رغم ذلك، فإن كل المؤشرات تبين لنا أن عملية التكليف هذه في تصاعد مخيف، مما يعكس درجة الانحراف عن مبادئ وأسس البيداغوجيا الحديثة. لا ريب أن هذه الإجراءات التعسفية تثير الكثير من علامات الاستفهام والتساؤلات المشروعة من قبيل: - هل هناك أسباب معقولة تبرر هذا الاندفاع الأعمى وهذا التهافت نحو أجرأة هذه الاختيارات ؟ - وهل سبق لخبراء الوزارة واضعي هذه المقررات أن قاموا بدراسات علمية وبيداغوجية ميدانية من أجل تطبيقها ؟ - هل هذه التدابير الهوجاء تساعد على خلق مناخ تربوي سليم يضمن الفعالية والانخراط الجاد لقطبي العملية التعليمية التعلمية ؟ ومن المستفيد من هذه المقررات الغريبة ؟ لاشك أن هذه التدابير الغريبة تحتاج إلى وقفة للتشريح الجريء والتقويم المسؤول للوقوف على ملامحها الأساسية. 1 - مظاهر الثبات في المقرر الوزاري المشؤوم: أ- سيادة السلطوية والاستبداد: يقصد بالثبات مجموع الخصوصيات والأعراف والتراكمات الموروثة عن الثقافة التربوية التقليدانية المبنية على علاقات التسلط والتحكم، فالمقرر الذي بين أيدينا يمثل نموذجا صارخا للسلطوية، فهو أشبه بقانون الطوارئ المعتمد لدى الأنظمة الشمولية والكليانية، لكونه تضمن إجراءات عكست المنطق المخزني وثوابته الأساسية، حيث حكمه الاستبداد، وترجم بالملموس الخصوصية المغربية التي لا تعادي ثقافة التغيير الديمقراطي فقط، بل تشويهها وتدجينها، ويتم التحكم فيها وتكريس علاقات التحكم والسيطرة والتبعية بما يشبه علاقات الشيخ بالمريد على حد تعبير الباحث المغربي عبد الله حمودي، فإجراء تدريس المواد المتقاربة تغيب فيه المنهجية الديمقراطية المعتمدة على الحوار والتشاور والمقاربة التشاركية، كما يعبر عن تجليات المخزن بسبب الجمود الذهني والتكلس الفكري، والمبنية على التحكم والضبط والأحادية، ويتناقض كليا والحمولة الديمقراطية والحقوقية للوثيقة الدستورية الجديدة، فهو قرار انفرادي لا يمت بأي صلة إلى ثقافة القرب وما تفترضه من استماع وإصغاء وتواصل وإشراك لكل مكونات الحقل التربوي، هذا الإجراء يتنافى وحادثة التسونامي الديمقراطي الذي عصف باختيارات الاستبداد والقهر ويتعارض مطلقا مع الحداثي والديمقراطي. من المؤكد إذن، أن هذا المقرر يبقى أسير الذهنية التقليدية والمحافظة، والتي لم تنخرط بعد في الدورة الحضارية الدولية التي لازالت مهيمنة على الحياة العامة والتي تتناقض كليا والاختيار الديمقراطي الحداثي، التي يطبعها تيار العولمة الجارف. اعتمادا على ما سبق، يمكن التأكيد أن المقرر المشؤوم يتضمن إجراءات فاشيستية تطبعها إرادة التحكم والهيمنة، إذ تدخل في إطار الحرب الشرسة التي تشنها الوزارة الوصية على الأسرة التعليمية بمختلف أطيافها ومكوناتها، بحيث لم يسلم منها أي طرف من أطراف الفعل التربوي والتعليمي، وهذا أمر خطير للغاية. لاشك أن هذا المخطط الترهيبي يستهدف إذلال الشغيلة التعليمية وتركيعها وتطويعها، وتكبيل إرادتها وقدرتها على العطاء والتجديد. من هنا، يمكن القول أن هذه التدابير أفرزتها البيروقراطية المتخمة والنسق المخزني المحافظ تندرج ضمن الاختيارات العامة للسلطة وطريقة تدبيرها للشأن العام، إذ أضحى أسلوب التحكم والتسلط المحددات الرئيسية لتوجهات المغرب في ظل الحكومة الراهنة، مما يتنافى والمقاربة البيداغوجية الحديثة وثقافة العصر الجديدة المستندة إلى أسس الحداثة والديمقراطية الحقة. ب- الارتجالية كأحد تجليات التقليدانية في الفعل التربوي والتعليمي: يمثل المقرر بدون شك، نموذجا صارخا للارتجالية، نظرا لاحتوائه على ثغرات قانونية فادحة كالافتقاد إلى عقلانية مضبوطة، وانعدام الوضوح والشفافية وطغيان التخبط والعشوائية، حيث يعد تعبيرا عن تصور بيداغوجي بئيس لواقع تربوي قاتم، وعن نزعة برغماتية عمياء لا تؤمن بالمرجعيات والمبادئ البيداغوجية الحديثة، فما يهم الجهات المسؤولة هو الإسراع في سد الفجوات مثل خصاص الأساتذة بوسائل بدائية لا تمت بصلة لفلسفة التربية الحديثة والاتجاهات البيداغوجية المعاصرة، ولا يؤطره المنطق التربوي السليم، ولا توجهه بوصلة ولا قانون. يمثل المقرر أيضا، اختيارا غير مدروس بعناية ودقة تغيب فيه الحكامة الرشيدة تم رفعه في صالونات مكيفة بعيدة عن الواقع، لهذا انعدم فيه التخطيط التربوي والبيداغوجي العقلاني، إذ يضرب في العمق الحقل الديداكتيكي القائم بين المتعلم والمؤسسة التعليمية. لهذا كله، يمكن القول أن إجراء تدريس المواد المتآخية التي جاء بها المقرر الوزاري المشؤوم، يتمتع بحمولة تقليدية تطبعها طبقة سميكة من التفاهة، بعيدة عن البيداغوجيا الجديدة التي ترفض العبثية والارتجالية واللاعقلانية، إذ تتعارض مضامينه ومنطلقاته مع متطلبات التجديد التربوي، من المؤكد أن هذه الارتجالية تفتح المجال للمغامرة والمجهول وركوب الرهان البيداغوجي والديداكتيكي بدون إعداد واستعداد، وكذلك تقود إلى طرح جملة من الأسئلة التالية: - كيف يمكن الجمع بين مادتين مختلفتين في جدول الحصص ؟ - ولمن توجه جداول الحصص، فهل لمفتش مادة (أ) أو مادة (ب) ؟ ومن يقيم عمل المدرس ؟ أم أن هذا الإجراء سيحرم الأستاذ(ة) من زيارة المؤطر التربوي، على اعتبار أن الحالة شاذة وغريبة لا وجود لها في قاموس المذكرات الوزارية ولا في التشريع المدرسي ؟ وهذا يعتبر أن هذا الإجراء هو نتاج لمسلكيات نابعة من عقلية تقليدية صرفة، ويدخل في باب الضحك على الذقون والعبث بمصير ومستقبل التلاميذ، إذ يخلف العديد من العواقب الوخيمة. 2 - المقرر الوزاري: منطلقاته ودوافعه وأبعاده أ- منطلقات ودوافع المقرر: لاشك أن تفسير هذا الاختيار السهل ذو الطبيعة الترقيعية لا يحتاج إلى جهد ووقت أطول أو معالجة عميقة، فهو مرتبط باختصار شديد، بأزمة الخصاص في الموارد البشرية الناجم عن سوء التدبير والتدخلات الخارجية والإملاءات الفوقية التي تفرض عدم المس بالأشباح وعدم الاقتراب من بعض المحظوظين والمحميين بتجنب تنقيلهم، بينما شريحة واسعة من نساء ورجال التعليم ممن لا حول ولا قوة لهم يصبحون عرضة لكثير من الإجراءات التعسفية كالتفييض القسري وتطبيق مبدأ إعادة الانتشار وتدريس المواد المتقاربة. إن المتأمل لسياسة تدبير الموارد البشرية بقطاع التربية والتكوين، سيلاحظ الكثير من مظاهر الانحراف في مسألة إدارة الموارد البشرية، والغبن والحيف الاجتماعي في حق العديد من المدرسين والمدرسات، فغالبا ما يصاحب عملية الانتشار هذه منطق الزبونية والترقيات الذي لا يتماشى ومبادئ الإنصاف والعدل والمساواة المنصوص عليها في الدستور الجديد. في نظرنا المتواضع، إن هذه الحلول السهلة تعد تعبيرا صارخا عن عجز تام في معالجة إشكالية تدبير الموارد البشرية بكيفية شمولية، وذلك بإعادة النظر في ما أصبح يسمى بمفهوم إعادة الانتشار الذي تعتريه جملة من الاختلالات والنقائص، فهو إجراء يحمل «ماركة» مغربية بحثة لا مثيل له في العالم، هذه التدابير البئيسة لا تساعد بتاتا على حل إشكالية تدبير الموارد البشرية، فهذه التوجهات المجحفة واللاإنسانية تمس الكثير من أطر التدريس، والتي غالبا ما تكون لها مضاعفات نفسية خطيرة، فهي تبين حالة الارتباك والتيهان والشرود التام عن مقومات وأسس البيداغوجيا الحديثة. لم تجد الجهات المسؤولة إذن، أن من حلول ناجعة سوى الارتماء في أحضان الوصفات الجاهزة والتطبيق الأعمى لها، والتي تشمل التقليص من النفقات العمومية وتدبير أزمة الموارد البشرية، فهذه السياسة التقشفية التي أسميها بسياسة التقشف لا تبعث على الارتياح لكونها ستزيد من تعميق اختلالات المدرسة العمومية وإخفاق كلي للسياسة التعليمية. لقد تجلت إذن، خطورة هذا التوجه في أبعاده وغاياته وآثاره السلبية، إذ يدخل في باب الانصياع الأعمى إلى مراكز القرار الأولي وقوى الهيمنة على مستوى النظام العالمي. بصفة عامة، يمكن القول بأن هذا المقرر لا يزيغ قيد أنملة عن الوصفة الجاهزة التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية، والتي يقودها خبراء ليبراليون، وعن الامتثال الشامل لذوي النفوذ الاقتصادي والمالي من نساء ورجال المال والأعمال على المستوى الوطني. بناء على ما سبق، يمكن اعتبار هذا المقرر المشؤوم ثمرة التفكير المقاولاتي والبضائعي الذي هيمن على الساحة التعليمية في ظل الليبرالية الجديدة، لم يعد مستساغا اليوم قبول مثل هذه الإجراءات الغريبة التي تضرب في العمق مبدأ التعاقد البيداغوجي. ب- المقرر الوزاري: الأهداف والأبعاد هذا الإجراء الغريب يضرب في العمق مبدأ التخصص وشروط أداء المهام والوظائف التربوية والديداكتيكية السليمة على الوجه المطلوب، نتيجة تجاهل مسألة التخصص ذات الأهمية الكبرى في الفعل التربوي، فالتكليف المشبوه بتدريس مادة أخرى يخلق الكثير من الاضطراب للعملية التعليمية التعلمية، وتعليم جامد يعمل على اغتيال العمل الديداكتيكي الناجح والجاد، وذلك بحرمان التلاميذ من التعلم الناجع الذي تنص عليه التوجيهات التربوية والتعليمات الرسمية، وأكثر من هذا وذاك، فمبدأ التعلم حق طبيعي للإنسان نص عليه الدستور المغربي والمواثيق الدولية. لهذا، يمكن القول بأن هذا المقرر يسير نحو إفراغ الميثاق الوطني للتربية والتكوين من حمولته التجديدية للمدرسة المغربية، ويؤدي إلى تعطيل أجرأة المقاربة البيداغوجية الحديثة. كما يمثل بضاعة فاسدة ورديئة ويقود إلى تأزم المدرسة العمومية وفقدان قوتها ومصداقيتها، فالأخطر في هذا الاختيار ليس فقط في منطلقاته السطحية التي تتجلى في تعويض الخصاص وسد الثغرات، بل في أبعاده العميقة المتجلية في تقويض دعائم المدرسة العمومية واجتثاث كل مكتسباتها، وإطالة حالة موتها السريري، فهذا التدبير لا يجعل عملية التدريس أكثر مهنية واحترافية، وبالتالي إفراغها من النجاعة والمردودية، مما لا يسمح بتحقيق مدرسة النجاح، ولا بتطوير النسق التربوي والتعليمي، كما يساهم في تكريس اللاعدالة واللامساواة في الحقل التربوي والتعليمي ويمس مبدأ تكافؤ الفرص. الخلاصة: إن احترام حرية وتخصص المدرس والتخلي عن القرارات الارتجالية ذات الطابع السلطوي يشكلان أحد الضوابط الأساسية لتحقيق انطلاقة تربوية وتعليمية حقيقية، وتجاوز كل الانعكاسات المدمرة لطموحات المتعلمين والمتعلمات وإرساء دعائم مدرسة جديدة ومتجددة تسودها الديمقراطية والعدالة وتكافؤ الفرص.