أقوى معارضان للنظام العسكري في الجزائر يحلان بمدينة بني انصار في المغرب    إبراهيم دياز مرشح لخلافة ياسين بونو ويوسف النصيري.. وهذا موقف ريال مدريد    نهيان بن مبارك يفتتح فعاليات المؤتمر السادس لمستجدات الطب الباطني 2024    إقليم الحوز.. استفادة أزيد من 500 شخص بجماعة أنكال من خدمات قافلة طبية    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    بنكيران: مساندة المغرب لفلسطين أقل مما كانت عليه في السابق والمحور الشيعي هو من يساند غزة بعد تخلي دول الجوار        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    مناهضو التطبيع يحتجون أمام البرلمان تضامنا مع نساء فلسطين ولبنان ويواصلون التنديد بالإبادة    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    إعطاء انطلاقة خدمات 5 مراكز صحية بجهة الداخلة وادي الذهب    إسدال الستار على الدورة الحادية عشرة لمهرجان "فيزا فور ميوزيك"        ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..        موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    الإعلام البريطاني يعتبر قرار الجنائية الدولية في حق نتنياهو وغالانت "غير مسبوق"    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    "كوب-29": الموافقة على 300 مليار دولار سنويا من التمويلات المناخية لفائدة البلدان النامية    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب        عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    الأرصاد: ارتفاع الحرارة إلى 33 درجة وهبات رياح تصل 85 كلم في الساعة    ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    قاضي التحقيق في طنجة يقرر ايداع 6 متهمين السجن على خلفية مقتل تلميذ قاصر    ترامب يستكمل تشكيلة حكومته باختيار بروك رولينز وزيرة للزراعة    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    الاحتفال بالذكرى السابعة والستين لانتفاضة قبائل ايت باعمران    كوب 29: رصد 300 مليار دولار لمواجهة التحديات المناخية في العالم    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    غوتيريش: اتفاق كوب29 يوفر "أساسا" يجب ترسيخه    دولة بنما تقطع علاقاتها مع جمهورية الوهم وانتصار جديد للدبلوماسية المغربية    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    انقسامات بسبب مسودة اتفاق في كوب 29 لا تفي بمطالب مالية طموحة للدول النامية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللائكية الاجتماعية
نشر في لكم يوم 06 - 02 - 2013

يسود اعتقاد كلما كان الحديث عن موضوع اللائكية بكون روادها أصحاب مذاهب سياسية إذ يكاد الناظر في كتب أقطابها أن يقرر بسهولة كون اللائكيين رجال سياسة مختصين بالتنظير "للدولة المدنية" وفق منتجوها في الغرب، و قد أكثروا من ربطها بالسياسة إيحاء أو تأكيدا على فصل الدولة عن توجيه الدين حتى انطبع في ذهن المتلقي تخصيص اللائكية بالشأن السياسي ، و هذا الانطباع الخادع مقصود لأن اللائكيين يحاولون قسرا حصر بضاعتهم في سوق المزايدات السياسية المرتبطة بطبقة فكرية لا تتجاوز البعد "المدني" السياسي بمعناه التشريعي المنفصل عن رقابة الدين . فهم يقررون في كل مرة أن لا شأن بها بالانتماءات و القناعات العقدية و الأفكار الأخلاقية إلا من زاوية التعامل الحيادي المطلق مع الجميع دون انحياز لطبقة أو عقيدة أو لون أو عرق أو طائفة ...طبعا هذا الاعتقاد المثالي و الخرافي هو من اختراع لائكيين مسيحيين بالدرجة الأولى في العالم العروبي كان الغرض منه البحث عن موضع قدم للأقليات خوفا من الوهم الناشئ عن فزاعة اللادينيين حول ممارسة الإسلاميين للاضطهاد في حال ما تمكنوا للوصول للسلطة ، و هو وهم غذتهُ عقليات الترهيب الإعلامي و منتحلي الفكر "الإنساني" عندما راهنت على الوافد الأجنبي في كل شيء، قلت: هو اعتقاد مثالي و خرافي لأن الأدبيات الغربية التي تمثل مراجع معيارية للتلاميذ الحُفّاظ ما فتئت تذكِّر بمادية التصور اللائكي للمجتمع و الفكر و الدين ،ما فتئت تنبه المحرفين عندنا بكون اللائكية مرجعية دهرية كما سُطِّرت في القواميس الشهيرة عندهم ، و لما صارت وجوه اللائكيين العرب لا تخجل من إعادة إنتاجٍ ممل حول البعد الحيادي للائكية عبر السفسطة الزائدة و صارت مفضوحة و مكشوفة بالنظر إلى الفرق الشاسع بين رؤية اللائكيين الغربيين لها و بين انتحال العرب لها عندنا انتقل الحديث عندهم إلى سفاسف كلامية أخرى لا تنتهي حول كونها منظورا متطورا و متكيفا و غير قابلة للحصر في الزمان و المكان فصارت مرة أخرى مرتعا لمزيد من الجدل الفارغ تأسست على مقدمات عند أصحابها الغربيين و انتهت عندنا إلى مجموعة فارغة إلا من التحليلات الفكرية المتسلسلة (أركون نموذجا) .
لكن ! ليس الحديث هنا عن هذا الفصل على أهميته البالغة ، و إنما الغرض منه إعادة ربط اللائكية السياسية باعتبارها محمولا اجتماعيا و تفكيرا لادينيا متغلغلا في البنية الفكرية المؤسِّسة لجذور اللاتدين في المجتمع ، فهي في رأينا تمثل إشعاعا إحراقيا للتدين و سهاما تقتلُ روح التفكير الديني فترديه هيكلا جافا من معاني الإيمان ، إذ غرست في البعض نوازع التمرد على قيم الانتماء الديني و بنت فيه أركان "العقل المجرد" المؤلِّه للذات الرافض للتوصيات ، و كلما اشتدت الأليكة في اغتصاب السلطة و الإعلام كلما أنتجت وجوها معتوهة دينيا و مشوهة خلقيا ، و كلما تحالفت الأليكة مع الاستبداد (و إن كانت عندنا وجهان لصيقان) نقضت أركان روح المجتمع و خربت أسسه المتبقية و أقامت مجتمعا من الضوال لا ينقادون لسلطة و لا لدين. إن حصر اللائكية بالتفكير السياسي دون الحديث عن آفاتها على الدين و على أنماط التفكير الاجتماعي و أسس العلاقات بين أفراد المجتمع يمثِّل أحد محاور التزييف المتعمد إذ يسكت أنصارها عن "اللائكية الاجتماعية" و يرسلون الكلام المنمق حول آفات تحرير الدولة عن الدين ،اجترار و تكلف
أي علاقة إذن بين اللائكية السياسية و الاجتماعية ؟ و لماذا يصرون على تجاهل ما للتدبير اللاديني للدولة من أثر مدمر على عقل الشعبي المنهار أصلا تحت وقع أزمات الاستبداد ؟ و مع أننا نؤمن بقوة بكون القطاع الشعبي في أغلبيته كاره لتحكيم اللائكية إلا أن الأمر يدعوا للقلق حينما تتسلط بشكل مُنتِز أجهزة الدولة فتشرع في إعادة صناعة خريطة العقل الشعبي وفق "رؤية" تجعل مبدأها الأساسي تهميش توجيهات الدين لإفساح المجال أمام تغول الأنا . و إذا كانت الأدبيات السياسية تعلمنا كيف تمارس كل طبقة سياسية تأثيرها على المجتمع عبر تنزيل مشاريعها و برامجها الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية فإننا لا نتوقع من الطبقة اللائكية غير الانحناء الذليل لأصولها وأنماط تفكيرها ، و تحكي لنا تجارب الأمم كيف صنعت اللائكية عقولا "شعبية" لا تختلف عندها الدين عن الأساطير و الخزعبلات ، فتربت هذه العقليات لترسم شخصيات مفصولة عن غاية وجوده ، تحكي الأمم كيف ينمو العقل الشعبي مؤلها لنزوته الشهوانية متحديا لحدود العباد في وضح النهار ،تفطر في رمضان علنا و تحت حماية دين اللائكية و تكره الانقياد لأوامر الدين بل و تنفر من كلمة دين نفسه .لائكية اجتماعية يتم بناءها سياسيا من مدخل فصل الدولة عن مبادئ الدين فتنتهي إلى فصل المجتمع من الدين هيهات هيهات...و هل نُسيَ ما فعلت اللائكية السيفية البورقيبية و خليفته من تأسيسٍ فعلي للائكية الاجتماعية من خلال التسلط السياسي الذي فرخ معاقون دينيا و ملاحدة يتحدون حرمة الله ؟ إن الخيط ين هذا و ذاك لا يمكن أن تحجبه كثرة الفلسفات التجميلية لتجاعيد أس الفساد السياسي اللائكي و لا تجعل المتتبع لجذور التمرد على قيم الدين إلا متيقنا بوجودها في أسوار السياسة الممنهجة . فهي تفكك قواعد الضبط الاجتماعي التي يبنيها الدين منذ وقت مبكر و تمزق أواصر التشابك الأسري عندما تجعل الدين "مسألة" شخصية فتتدحرج بعدها من "المسألة" إلى "العنصر" غير المؤثر في توازنات المجتمع ، و لعل التجربة التونسية على مدار عقود من الاستبداد اللائكي البغيض تقدم مثالا حيا على ارتباط "المشروع" اللائكي بالتفكك المجتمعي إذ صار طبيعيا الآن بروز أحفاد "شعبية" بورقيبية انتحلوا عناوين الدفاع عن الدولة "المدنية" و أصبغوها بقيم "كونية" ليخفوا بها حجم تغلغل التربة اللائكية في بنيات تفكيرهم . إن عقليات النفور من وصايا الدين و الاشمئزاز الذي يتلجلج في صدورهم كلما دار النقاش حول الدين يعود في نظرنا إلى أصول لائكية بامتياز إذ أن استهداف قيم الانتماء الديني بشكل غير مباشر كرستهُ أنظمة ديكتاتورية على طول عقود من الزمن ، وحتى لا يُساء فهمنا فيظن ظان بأن الأمر فيه مبالغة وأن الغالبية الاجتماعية تؤمن في قرارة نفسها بقدسية الدين و رجاحة مضامينه – و هذا صحيح أيضا – نسارع بالتأكيد بأن الحديث هنا ينسحب على فئة من القطاعات "الشعبية" التي أعرضت عن تشريعات الدين بمقتضى لا فاعليته و ليس بمقتضى العجز عن الامتثال لأحكامه ، و كم من الناس أطبقت عليهم الدنيا بمفاتنها فنبذوا الشرع بموجب الاستسلام للهوى إلا أن ذلك لم يُزحزح لديهم قناعة بسمو عظمة الإسلام و نظامه و القيام بالدفاع عنه ضد الإساءات المتكررة من الأقلام الحاقدة و الحقودة ، فهؤلاء لا حديث لنا معهم إلا من باب التذكير و الوعظ و الترقيق ،أما المشكلة التي نحاول أن نرصد آفاتها فتكمن أساسا في قوم آمنوا ببعض و كفروا ببعض آخر ، قوم تغيرت بنيات تفكيرهم لتساير منطق اللائكية السياسية كنتيجة للتربية اللادينية التي تنطلق في السياسات الملغومة ...
إن من أحد آفات اللائكية السياسية ما تنتجه من قابليات للانخلاع الديني إذ توفِّر كل الأسباب الممكنة لانزياح الإنسان عن سكته الأصلية صوب عالم من التحلل القيمي تتحكم فيه قيم الاستعلاء على الدين بما هو إجمالا وصايا و توجيهات ، كما أنها و تحت دعاوى إطلاق الحريات تمارس تغريبا ظاهرا انطلاقا من تأسيس أرضية تفكيك تتيح للخبيثين و الخبيثات أخلاقيا التوسع بحرية "القانون" و بالتالي تغييرا لمنظومة الترابط الاجتماعي و تنميطا لأسلوب العيش الغربي المعمم ، و هذا يبدو واضحا لو رصدنا ما آلت إليها تحالفات اللائكية بالاستبداد من فجور سياسي و تمزيق اجتماعي خربت الدولة و المجتمع معا ،إذ تحولت الأولى إلى جهاز تسلطي فاسد في كل مؤسساتها و آلت بالثانية إلى ضياع في الهوية و الانتماء الحضاري كما هو شاخص في مقولة "مجتمعان تحت سقف واحد" بتعبير الأستاذ منير شفيق في (قضايا التنمية و الاستقلال في الصراع الحضاري) . و لما كانت الدولة اللائكية لا تأبه لحرمة دين و لا لخصوصية الانتماء التاريخي صارت آفة حقيقية تستوجب التصدي لها نظرا للتعدي السافر على أحد أهم مقومات البناء النهضوي و هو الدين و التاريخ .
إن التراجع الخطير للمجتمع الإسلامي في ضبط سلوكاته يعود في رأينا إلى أصل الشرور و أم البلاوى : الاستبداد ، و حينما تتقدمُ اللائكيةُ الاستبدادَ في ديار العروبة و الإسلام فإن الخراب يعم العمران سواء في دواليب الدولة أو في مفاصل الاجتماع البشري ،و لقد مثلت "دولة الخلافة" بما هي مؤسسة حاضنة و حارسة للدين و الدنيا المظلة المانعة من الانزياح ،أقصد الخلافة كما مورست بتقاليدها السياسية المسندة إلى فعل إشراك الأمة في اختيار رجالاتها لا الخلافة كما درجت في التاريخ السلطاني المؤسس على منطق الغلبة و الشوكة ، مهلا ،فإني أدرك سلفا كم سيهز اللائكي المنتفخ أوداج عقله بفلسفات الدولة الحديثة و حدودها في ظل النظام الدولي و الديموقراطية و العقد الاجتماعي و و سيادة القانون و و و إذ هي في رأينا سلوكات اعتيادية تُعبِّر إما عم سوء فهم للمضمون أو عن حجم الاختراق الذي أوغلَ في مخياله الوجداني قبل المعرفي . على أن النقاش هنا لا يدور حول مشروعية الخلافة كنظام إنما ربطه بلحمة المجتمع الذي كان وفيا لمنطق السياسة الرشيدة التي استوعبت الدين و الدنيا ، إذ بتحولها من سلطة فعلية إلى صورة رمزية فيما بعد تكون قد دشنت أولى حلقات الانزياح في مسلسل التدجين و الإفساد من خلال ذهاب الروح الأس و بقاء الهيكل الشكل المتوارث جيلا بعد جيل إلى أن أجهزت الدولة اللائكية القُطرية بكامل ما تبقى من اللحمة في جسد المجتمع فانخربَ الجميع .
في الغرب، الدولة اللائكية قواعد الضبط الاجتماعي بما يتوافق مع روح المجتمع "المُعلمَن" أصلا بالفطرة و التاريخ ، فهي تحركت بموجب توازيات الدولة /المجتمع/الأمة و ليس بموجب التناقض في المكونات ، إذ استمر نمو الفكر اللائكي الاجتماعي "شعبيا" دون الحاجة إلى من يُعبِّر عنه سياسيا ،و هو نمو انبثق في وقت مبكر من خلال عاملين اثنين : الأول مرتبط بطبيعة الدين المسيحي نفسه و وصايا أتباعه بشأن عدم الزج في أمواج السياسة و التنصيص على مبدأ ( أعطوا ما لقيصر لقيصر و ما لله لله ) و حيث أن "المسيحيين ميزوا بشكل واضح بين الروحاني أو السماوي أو الكنسي و الدنيوي أو المادي و العلماني " كما ذهب ‘لى ذلك أنتوني بلاك في كتاب (الغرب و الإسلام .عالم المعرفة ع 394 ص:58 ) ،أما العامل الثاني فمرتبط بطبيعة الثقافة المتداولة و الخصوصية الاجتماعية الموروثة من الحضارة الأم/اليونان إذ تتعايش فيها أشكال المتناقضات الأخلاقية بموجب اعتبارها حريات فردية لا صلة لها بتحقيق التوازن الاجتماعي . أما في السياق الإسلامي/ التاريخ فيتضح لدارسه بنيوية الدولة/الأمة ككتلة متجانسة من حيث حكم الشارع عليهم جميعا و من حيث ارتباط مشروع "الدولة" بصلاحيات التمكين للدين أولا و أخيرا (الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور) ، و ظل الأمر كذلك إلى أن نُقِضت أول عروة في الإسلام فتوسع الانتقاض إلى أن صارت الدولة شيء و الدين شيئا آخرا في عقول أجيال مُنَمطين ثقافيا .
إن اللائكية الاجتماعية تمارس دورا خطيرا في تفكيك عرى الإسلام لأنها تمثل عقلية سلبية لما في الغرب بحكم أنها لأرادت أن تتجسد نمطا اجتماعيا غريبا دون أن تدرك بأن اللائكية مشروع تقويضي كامل يهدم التدين لبنة لبنة ، فهي أشد فتكا من اللائكية السياسية لأنها الذراع التطبيقي المباشر لفلسفة الحكم اللائكي و لأنها أيضا الأداة الفعالة المسند إليها فعل التفكيك التدريجي لروابط المجتمع الإسلامي ، و العلاقة بينهما علاقة تكامل بنيوي من حيث اعتبار السياسية منها الأس و الدرع و الأخرى الفرع و التنفيذ . لقد بدأت النظرية السياسية من منطلق اعتبار "الدولة" حارسة للدين و تابعة للدعوة حتى في أزمنة الانحطاط السياسي و سيطرة منطق القوة في حيازة السلطة ، و الآن صار كل شيء مقلوبا حيث صارت المعادلة تقوم على تبعية الدعوة للدولة بما يضمن لها ممارسة التحكم في الشأن الدعوي و الحد من نفوذه عبر أدوات شتى تملكها الدولة مثل : وضع خطط لضرب استقرار الأسرة عبر قوانين تكرس حالة الانهيار القيمي ، تحجيم دور العلماء عبر سن قوانين مُحدِّدَة لمجال الاشتغال ، خصخصات متعددة تؤدي إلى إنتاج البؤس الاجتماعي الذي يؤثر بدوره على وازع التدين السليم ، التحكم بالإعلام بما يخدم مصلحة إيديولوجية الدولة ... و بهذا تكون اللائكية السياسية قد أجهزت على منابع التدين و لاحقت مسبباته من خلال توفيرها للغطاء "القانوني" لحركة الفساد الأخلاقي للمجتمع فانتقلت في ديار الإسلام إشكالية السلطة السياسية من مبتدئ وظيفة حماية الدين و الدنيا إلى خبر حمايتها للفساد و الإفساد ، و ذلك إنما يتم تحت دعاوى ظاهرها "التنوير" و باطنها "التزوير" إذ اعتادت الطبقة السياسية اللائكية على تسويق العناوين في كل مناسبة يقع فيها الحديث عن الدولة المدنية و الديمقراطية و حقوق الإنسان و المواطنة و المساواة ...
لكن، و للحقيقة الواقعية فإنه على الرغم من حجم الدجل الفكري اللائكي للمثقفين المنمطين و رغم ترسانات الدول اللائكية العروبية فيما يخص حكمها الاستبدادي فإن الطبقة الشعبية في غاليتها لا تزال عصية على الاحتواء اللائكي رغم ما تعيشها من بؤس مادي و فساد في نمط الحياة ، إذ أن القناعات بسيادة منطق الإسلام كمعيار لم يتزعزع من القلوب رغم تردي الأوضاع الاجتماعية و تدهور نظام العيش الكريم ، فإلى جانب كون الإسلام كدين سماوي خالد عصي على التشويه الإعلامي اللائكي الذي أراد إعطاء نسخة "متطورة" من الإسلام مستمدة من عقله الانبطاحي فإنه أيضا أثبتت الطبقة الشعبية مقاومتها لكل ألوان النسخ و المسخ في هويتها و انتماءها الحضاري ، و بنفس الشكل الذي اتضحت فيه قدرته على مواجهة آثار "العلمنة" الفكرية و العملية فإنهُ أيضا أبانت عن محدودية فئة من الناس استهوتهم بريق الحضارة الغربية بانبهار عاجز فوقعوا تحت قصف شديد من المدافع اللائكية السياسية ضحية الوهم الثقافي ، إن هذا يبدو واضحا عندما توثقها دلائل التصويت ضد كوادر الطبقة اللائكية في كل موسم من مواسم الانتخابات عندما تتوافر النزاهة و المصداقية . بكلمة ، إن الخاصية المشتركة للائكيات هي التهميش ،فالسياسية منها تهميش للدين في السياسة و الأخرى تهميش للدين في المجتمع .
إن مفعول اللائكية في ديار الإسلام مفعول نسبي و ليس بمطلق لأن بضاعته –كما نقول دائما – مزجاة غير صالحة للاستعمال كثيرا في حق الشعب ، و لأنها اعتقدت نفسها جارَّة للشعب للتخلي عن دينه بذكاء غبي فإنها تنهار شرعيا و شرعيا لكونها صارت مجرورة من حيث تدري أو لا تدري ، كما أن تصرفاتها اللائكية الغير مستترة صارت أفعالا متعدية إلى هوية الشعب فتغيرها و صار فعل التغريب فيها لازما لسلوكاتها ، الشيء الذي جعلها مفعولا بها من طرف الشعب عبر طريق الرفض و الاحتجاج . لقد كان المبتدئ شيء و صارَ خبرها اليوم شيئا آخرا !
لعل من النباهة الآن أن ننظر للائكية باعتبارها موقفا محددا من العالم و ليست إجرائيات سياسية تخص وظيفة الدولة لأنها ببساطة تتجاوز الآليات إلى تطبيق "الرؤية" الخاصة بفصل و تفكيك المجتمع قيميا ، و لقد نجح الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله أيما نجاح في دراسته الموسوعية عن "العلمانية الجزئية و الشاملة " إذ استطاع أن يطيحَ بهذا الصنم السياسي بنقد صارم "للعلمانية" عبر تحليل المضمون الفلسفي للمفهوم و علاقته بالواقع الاجتماعي و الطبيعي و الإنساني و الأخلاقي ، فهو يتجاوز التعريفات الكلاسيكية التي نحت منحى حصر المفهوم بمبدأ "فصل الدين عن الدولة" و ينفذ إلى عمق القضية بتركيزه على "العلمانية الشاملة" التي تمثل جوهر الموضوع و نهايته ، يقول رحمه الله : " و يوجد في تصورنا علمانيتان لا علمانية واحدة، الأولى جزئية و نعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة ، و الثانية شاملة و لا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب،و إنما فصل كل القيم الإنسانية و الأخلاقية و الدينية ،لا عن الدولة و حسب و إنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام و الخاص ..."(العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة ،المجلد الأول ،دار الشروق ص 16 ) ، فهي فعلا تمثل شكلا من أشكال التفكير المادي تحدد بموجبه أنماط العلاقات الاجتماعية و ترفض به أنماطا أخرى لأنها في الأخير لا يمكن أن تنقطع عن مسار المجتمع بمجرد فصل الدولة عن الدين و لا يمكن لها أن تمارس تطبيقات المرجعية اللائكية بعيدا عن المستهدف الأساسي من الفصل السياسي و هو المجتمع ،إذ أن مشاريع "العلمنة" تطالُ بشكل واضح تغيير الذهنيات الاجتماعية وتحطيم العقل الجمعي من خلال التأسيس لأرضيات قبول الانحلالات و تكوين قابليات نفسية بعد أن تكون قد دمرت ما تبقى من شعلة المناعة الدينية ، و اللائكيون يدركون تماما أن "العلمانية" تفكير مادي "عقلاني" لكنهم يسكتون عن أهدافها بخصوص ارتباطها بمشروع نزع قيم التدين التدريجي ،فبدلا من أن يملكوا الشجاعة الفكرية – كما فعل الغربيون بشكل واضح في قواميسهم – راحوا يتهمون خصومهم بكونهم لم يفهموا "العلمانية" كما يجب و كأنهم يمارسون الوصاية الفكرية التي ميزتهم طوال مسيرتهم التأليفية ، بل بعدما فشلوا في وضع تعريف دقيق "للعلمانية" تحول النقاش إلى عموميات فكرية تصول و تجول في التحليل التاريخي و النقد "العقلاني" و الواقعية و التنوير و غيرها من فضاءات فسحة الفكر اللائكي المهزوم ، فمحمد أركون في ( العلمنة و الدين :الإسلام المسيحية الغرب ) يتحدث عن "العلمنة" بصفتها (إحدى مكتسبات و فتوحات الروح البشرية ) و أنها ( موقف للروح و هي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة ) ، بالطبع فقد حق له أن يتحدث عن الفتوحات باعتبارها ثمرة "العلمنة" ما دام يعتبر أنه ( لا ينبغي علينا هنا أن نفرٍّقَ بين الأديان الوثنية و أديان الوحي ) لأن ذلك التمييز ( عبارة عن مقولة تيولوجية تعسفية تفرض شبكتها الإدراكية أو رؤيتها علينا بشكل ثنوي دائما ) ،إن البلاء الحقيقي الذي يمكن أن يصيب عقولنا فيسيء لذاتها هو أن نمارس التضليل "العلمي" باسم النقد العقلاني المقارن ، و ما أكثر كتابنا وهم ينحتون عالما من المفاهيم النظرية و يصيغونها في قوالب نقدية ماراطونية ليقدموها للقراء كمادة مسمومة تخفي المقاصد الكلية من وراء كل هذا الهذيان الفكري حول "العلمانية" ، صارَ هذا البلاء يولد وباءات معدية لعقول لم تستطع أن تفهم أصول المشكلات و صراع المرجعيات فانهارت ذليلة لتهضم مفردات "العلمنة" باعتبارها مخرجا من الوضع المتأزم في العالم العروبي و الإسلامي . و الحال أن ما جناهُ الفكر اللائكي من طمس للحقائق و تدليس للوقائع و تأويل للأحداث يجعل العاقل النزيه أشد احتياطا في تقبل صدق مشاريعهم المدمرة لبنية الأمة و خصوصياتها ، فلو كانوا فعلا أصحاب مشاريع مستقلة في التفكير تجدد انطلاقا من أسس الذات و الحضارة لا من خارجها و لو امتلكوا القدرة على الإفصاح عن تمنياتهم الحقيقية لنوع المجتمع الذي يريدونه لكانوا أهلا للنقاش السياسي و الحوار الثقافي ، لكن آفاتهم أنهم يتمترسون وراء العناوين و البحوث المكوكية التي تزدري من الدين و تعامله كجانب هامشي في المجتمع و السياسة و عندما يُحاوَرون و يوضعون أمام سؤال المصداقية أو أمام نقد و تذمر الجمهور لهم يتلوون تلوي ثعابين الماء ليتصنعوا "الحيادية" و التبرؤ مما أُسيءَ في حق فهم نصوصهم و كأنهم وحدهم من يفهمون اللغة ( حامد أبو زيد نموذجا ، و قد ناقشهُ محمد عمارة في التفسير الماركسي للإسلام) .
و بخصوص الارتباط بالمجتمع فإن العديد من المفكرين يميزون بين اللائكية المتطرفة الماركسية التي حسمت موقفها من الدين بشكل مبكر عندما مارسَ روادها ذلك عمليا و بين اللائكية الرأسمالية التي حاولت التوسط مكرا فإن الأمر لا يعدو أن يكون في العمق اختلافا في آليات التدمير الاجتماعي و ليس اختلافا في أسس التفكير المرجعي ،إذ الأولى منها أراحتنا حينما قرروا بسرعة الغلاة أن الدين صناعة بشرية يندرج ضمن "البنية التحتية" التي تعكسها تحولات الواقع الاقتصادي المادي فاحتاج الناسُ لهُ للتعويض عن العجز في التغيير من خلال "الإلهاء" بوجود جنة تعِدْ( قبَّحَ الله الفكر من هذا الصنف البليد)، و الثانية لائكية ماكرة غير مقولبة في شكل محدد وإنما تتخذ أشكالا متنوعة لا تجد بدا من أهلها في النفخ فيها من جديد كلما بانَ عوارها ، لائكية تفككُ من دون حاجة للتصريح أو التقرير تستمد فلسفتها من دهرية تعتبر المجتمع حرا في أن يصنعَ بنفسه ما يشاء متى شاء شرط احترام حريات الآخرين فتكون بذلك أشد خطرا و وبالا من الأولى باعتبار المكر فيها بارزا و في الأولى الغباء فيها واضحا ، و في كل الحالات فإن الخيط الناظم لأشكال اللائكيات تجاهَ المجتمع هو التقطيع و التجزيء لأوصاله في الولاء والقيم و الهوية خصوصا إذا كان هذا المجتمع هو المجتمع الإسلامي بتقاليده و أعرافه و قيمه الإسلامية العتيدة ، و نحن نجد بشكل لا غبار عليه ما صارَ إليه المجتمع الغربي من انهيار أخلاقي جعلَ الغربيون أنفسهم يخشون عن مصير حضارتهم "العقلانية" ، بل و نجد ما جنت اللائكية المتلونة على تدين المسيحيين إذ تحولت المعابد إلى مؤسسات فولكرورية مهجورة و إلى مقرات لكسر روتين الصخب اليومي الذي يفرضهُ هوسُ العمل الآلي ، وذلك كله لا يمكن تفسيره خارجَ سياسات اللائكية و مشاريعها الانحلالية تجاهَ قيم المجتمع و كانت قبل ذلك قد سحقت مكونات الهويات و نمطت الانتماءات بشكل أفقدَ المجتمع لحمتهُ و مناعتهُ، و لولا – في رأيي – حسن التدبير و الترشيد في ظل قانون مُقيِّد للحاكمين لكانت أوروبا الآن غارقة في أوحال التخلف السياسي و الاجتماعي ،لكنها الحكمة البشرية الوضعية ليس إلا .
إن مظاهر اللائكية الاجتماعية متنوعة لكن يجمعها الموقف البارد من الدين و أحكامه ،إذ ثمة من لازالَ يتعاملُ معهُ بصفتهِ "طَقسا" من الطقوس الفردية و شكلا مُعيقا للتفكير الحر و المجتمع الحر ، و ثمة من تأخذهُ الأبهة بالسخرية من أفعال المتدينين أبهة من فقدَ معنى وجودهُ و صارَ ذيلا لا يتحرك إلا برغبة من إرادة العقل الغربي ، و منهم من يشمئزون من التزام المسلمين بدينهم و يضيق صدرهم كلما تُلِيت آيات بينات اشمئزاز من قالَ فيهم ربنا جل علاهُ ( و إذا ذُكِرَ الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة و إذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون )، و منهم من إذا ذُكِّرَ بأحكام الله و حدوده أخذتهُ العجرفةُ و ركبهُ الغرور و راحَ قلبهُ يقسو قسوة من نسيَ ربهُ فأنساهُ جل علاه و في الآخرة عذاب شديد نسأل الله اللطف و الرحمة ،قال سبحانه (و قيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا و مأواكم النار وما لكم من ناصرين ) ، و منهم من تفلسفَ عقله حتى اغتالَ الدين و حجب بصيرته عن نور الإيمان و هداية الله و لا يدرِ هذا الضعيفُ كم صارَ أسيرا في قبضة عقله المغتر يبني عليه مواقفا تشيب له الولدان و تنهار منه الجبال ، و منهم أساتذة و للأسف يتصرفون تصرف اللائكيين الضائعين في زحمة الدنيا لا ينقادون لأمر رباني بل هاملين لكل ذي ارتباط بالدين إهمالَ من يعتبرهُ شأنا فردانيا مستقلا عن الآخرين ...إن من أمثال هؤلاء من غلبتهم الدنيا و ابتلعت قلوبهم فكانت التصرفات ناجمة من شلل في الإرادة و تراكم للرانِّ في قلوبهم و لا علاقة لهم بانعكاسات اللائكية على تفكير المجتمع و منهم من يمثلون مرايا لائكية تدل سلوكاتهم على إيمان زائف بالحرية و على تمكن التفكير اللائكي من تغيير منظومة التفكير نحو شكل من أشكال الدهرية المادية .
لما صارت آفات تلك اللائكية على مصير بنية المجتمع أصبحَ لازما التصدي لها و اتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من تأثيراتها المدمرة للعقل الجمعي المسلم ، و ذلك لن يتأتى في نظرنا إلا بإخضاع الفكر اللائكي الاجتماعي لنقد صارم يبدأ بتفكيك علاقة السلطة السياسية بالإجراء اللائكي في تدبير الدولة للمجتمع و ينتهي بمعالجة آثارها المتقطعة على التفكير الفرداني المُشبَع بأوهام "العلمنة"، لكن ذلك يحتاج أولا من الفاعلين الإسلاميين الشروع في نقض سرابات ارتباط "التقدم و التمدن" بالشرط اللائكي و كشف ضلالاته الفكرية و الواقعية على حركة المجتمع الإسلامي ، فمادامَ الفكر اللائكي راهنَ في أدبياته على خلط المفاهيم فجعلَ فيما سبق اللائكية شرطا للأخذ بالديموقراطية و هو الآن يجعلُ اللائكية عنوانا عريضا و مدخلا مفصليا للنهوض الاقتصادي و الاجتماعي فإن المطلوب إثبات عكس الطرح بحيث وجبَ التدليل على حجم التخلف و الركود الاجتماعي الذي أنتجهُ هذا الفكر المُشَرّد على مدار عقود من سيطرته على مفاصل الدولة .
من جهة أخرى، فإن أشكال التمزقات في الوجود الاجتماعي هو مرآة عاكسة لعقلية متخلفة لازالت تعتبر الدين شأنا روحيا فردانيا منزويا على نفسه ، و هي بهذا تسحق ذاتها باستمرار عندما تنحني للخطاب الغربي المُهيمِن و الذي يجعلُ من نظامه السياسي و الاجتماعي نموذجا نمطيا أو مرجعية عليا مُسنَد إليها و لا تُسنِد لغيرها ، فأشكال التصدعات الاجتماعية في العالم الإسلامي تمثِّل في الحقيقة تعبيرات عن أزمة في التصور المنهاجي أَلَّلهت الطرح الغربي و نموذجه في التحديث و سَخِرت من غيره إذ أن الاختلاف في نهاية المطاف يدور حول سؤال المرجعيات التي تحدد مسالك التغيير و مداخل الإصلاح المطلوب ، لذلك كان الباحث ميمون النكاز صائبا حينما طرحَ ضرورة تحدي المرجعية في مستواها الأعلى إذ أكَّدَ على " ضرورة استحضار و استصحاب الوعي بالتَّناد القطعي بين التصور الفلسفي و الرؤية الإسلامية للكونية و العالمية بحيث أن كثيرا من المآسي و المظالم و المعاناة التي تشكو منها المجتمعات الإنسانية –و منها المجتمع الإسلامي – في المستويات الدنيا للوجود الإنساني هي في جوهرها تجليات موضوعية و مآلات منطقية للمنظور الاستبدادي للعالمية و الكونية "، لأن " الازدواجية التناقضية في فكر و هوية الدولة ساهمت في تمزيق الأنسجة الثقافية و المؤسسية للمجتمع و قامت بدور وظيفي خطير في تفكيك الوحدة الاجتماعية حيث نشأت هيكلية إدارية جديدة و تَشَكَّلَ نسق ثقافي غريب عن وجدان الأمة و ضميرها الثقافي يهدف إلى إعادة بناء المجتمع وإنتاج هويته الجديدة " (مقال بعنوان :ملاحظات حول فكر و مشاريع النهوض.أنظار حول الرؤية و المنهج منشور في مجلة المنعطف الفكرية ع 18-19 ص 132-137 ) .
إن المواجهة لإصلاح عطب الفكر الدخيل يمر في رأينا من مدخلين أساسين :
المدخل السياسي الفكري : فلا بد من إعادة النظر في المسلمات اللائكية حول طبيعة السلطة و المجتمع و مفهوم الدولة المدنية و ارتباط القيم بالتدبير السياسي و تفكيك حُمى المكيافيلية في الأدب السياسي و إعادة النظر في علاقة الدين بالدولة بما هي علاقة جزء بكل و تتبع مسارات انقلاب السلطان على القرآن من جذورها إلى حين الاقتتال و التنازع في المشهد السياسي الراهن ، فضلا عن ذلك يستلزم منا قراءة بانوراما السياسة اللائكية في فضاء الغرب و مدى إسهام "رجال الدين" في قيام "الدولة المدنية" و محاربة بدع "الحق الإلهي" و "ظل الله في الأرض" وغيرها من الفزاعات التي يتغذى عليها الآن الفكر اللائكي المعاصر ، و هذا المدخل أساسي و مركزي لأنهُ سيتيحُ للعديد من أبنائنا المنخدعين بأوهام الحداثة إعادة النظر في البدهيات الموروثة من رواد التزوير الإعلامي و الفكري و ستمارسُ دورها في خلخلة المفاهيم و كسر حواجز الصنمية الفكرية الغربية التي عكفَ البعض منا على تزيين قبائحها و تجميل تجاعيدها . و يمكن القول أن المكتبة الإسلامية الآن صارت غنية بالمضادات الحيوية لمرض عُضال يسمى اللائكية فأسهمت في كشف الكثير من الشبهات و إسقاط الفزاعات اللائكية عبر تحليلات نقدية دقيقة لمشكلات الراهن السياسي و الاجتماعي و صارت كتب اللائكيين العروبيين محل نقض عبر الكتب المتخصصة في الرد على المتغربين كما نجد ذلك عند كتب القرضاوي و محمد عمارة و الغزالي رحمه الله و هويدي و عبد السلام ياسين رحمه الله و مفكرين آخرين يطول الحديث عنهم على وجه التفصيل.
و هذا المدخل مركزي لأن أصول الأزمة دارت منذ البداية حول انتقاض عرى الإسلام بانتقاض الحكم الرشيد و توالت بعدها النكبات لتصيب المجتمع نظرا لما لوظيفة الدولة من ارتباط وثيقة بالمجتمع ، فإصلاح هذا المدخل سيحدد لنا بالتأكيد مسالك التغيير الحقيقية بعيدا عن آليات التغريب و طرقه السياسية الملغومة ، لكن ذلك لن يكون في نظرنا الأداة السحرية التي تفك ألغاز التخلف الاجتماعي و سيادة التفكير السلبي في المجتمع لأن إصلاح الدولة سياسيا يستلزم أرضية اجتماعية متعاونة و طبقة إعلامية مؤهلة تُسهمانِ في بناء الخراب العقلي و المادي السحيق.
المدخل الإجتماعي : و هو مدخل مواز للشق الأول و لا يتناقض مع مشروعه ، كما لا ينبغي الرهان على الإصلاح الفوقي بمعزل عن حركة المجتمع ومساراته ، و إصلاح المجتمع رغم إشكالاته يُعينُ على إيجاد الأرضية الصلبة لانطلاقٍ متماسك و يساعد على تجاوز الأزمات التي يمكن أن تنتجها الدولة السياسية الجديدة فلا تعيق مشاريعها و لا تبطئ حركاتها ، و للأسف فما حدث في مصر و يحدث عقبَ صعود الدولة الجديدة من أعمال شغب و تخريب وحشي للمؤسسات يجعلنا نتيقن بأن إصلاح المجتمع و تفكيره المنحرف و الحاقد يمثل أحد شروط إنجاح مسار التحديث و إلا فإن الفتن الاجتماعية و استغلال اللائكيين لها سيكون عائقا أمام مشاريع النهوض .
و في الزمن الغابر من تاريخنا كان المجتمع هو الرقم الأول في صناعة الوعي الاجتماعي لأن الأمة صاحبة السيادة مارست دورها الإشعاعي في ربط العلاقات الاجتماعية ببعضها البعض و أنتجت فكرا و مشاريعا مستقلة عن الدولة المركزية رغم انفصال السلطان عن وازع القرآن و تحكم السلاطين في الشأن السياسي بقبضة من حديد ، و هذا لا يعني بطبيعة الحال أنا نجهل الفروق الجوهرية التي كانت تحكم الدولة السلطانية بالأمة و بين وضعنا المعاصر الذي تغولت فيها الدولة على المجتمع و تحكمت في بنياته الداخلية ، إلا أننا نرى أن شأن الإصلاح الاجتماعي تحتاج لوجود طبقات من أهل الرأي المتحركين في أحشاء المجتمع ينقذون ما يمكن إنقاذه رغم هول الفساد و فداحته وإلا فإن الثورات المضادة سوف تبتلع كل الإنجازات و تُحوِّلها إلى فوضى عارمة تُوَظَّفُ فيها العقول المُخرَّبة و تُجَيَّشُ فيها ميليشيات أصحاب المصالح و المأجورين كما نرى ذلك بوضوح في تداعيات ثورة 25 يناير . إن بناء العقل الاجتماعي السليم المربوط بمرجعيته الإسلامية الإصلاحية صمام أمان ضد كل العابثين و المرتزقين و المُستَغَلين آنذاكَ بإمكان الدولة السياسية أن تندمج مع لحمتها المفقودة ،آنذاك سيكون للإصلاح معنى حقيقيا بعيدا عن الشعارات التي سوَّقتها أنظمة الاستبداد اللائكي أجيالا ، آنذاكَ سيعود الخبرُ مبتدأ كما كان .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.