يسرني في هذا اليوم الذي يتم فيه تدشين قاعة الدكتور محمد عابد الجابري للأنشطة الثقافية والتربوية بنادي الهمداني، وهي المبادرة التي تستوعب نوعا من الاعتراف الجميل بجهوده، في مجال الدفاع عن الفكر العقلاني النقدي في مجتمعنا، أقول يسرني، أن أكون مساهما ومحتفيا مع الحاضرين، بكل ما قدمه الجابري من خيرات رمزية للثقافة والفكر المغربيين. فقد كان الرجل طيلة حياته مشغولا بالهم الفكري، وبالمساعي الهادفة إلى توطين آليات العقلانية والتاريخ في ثقافتنا ومجتمعنا. احترت كثيرا في اختيار ما سأقدمه بهذه المناسبة، وترددت بين تقديم ورقة عن مجمل مشروعه الفكري، بالصورة التي تساهم في مزيد من تقديم مشروعه الفكري، وتوضيح الأهداف التي ظل يناضل من أجلها بالكتابة والعمل، بالفكر والسياسة والتربية، من أجل أن يحصل التقدم المنشود في مجتمعنا. ولأنني انخرطت منذ فترة طويلة في متابعة أعماله، وكتبت عنها، كما حاورته في مجملها لحظة صدورها، فقد بدا لي أنه سيكون من الأفضل، أن نتجه بهذه المناسبة إلى التفكير في الراهن المغربي والعربي، وذلك في ضوء المقدمات الفكرية الكبرى لمشروعه النقدي. وضمن هذا السياق، اخترت أن أحدثكم عن جانب من تداعيات الانفجارات التي عرفتها المجتمعات العربية، خلال سنة 2011 وما تلاها، مما نعاينه اليوم في التحولات الجارية في المجتمعات العربية هنا وهناك. سيكون موضوع حديثي في هذا الصباح، منحصرا في تقديم قراءة لعلاقة السياسي بالثقافي في الثورات العربية، مستندا في ذلك، إلى جوانب من المبادئ التي أعتقد بأن مشروع الجابري النقدي في موضوع قراءته للتراث، ومواقفه السياسية العامة تلتقي بها. وفي كل الأحوال، فإن مجمل الجهد المبذول في هذه الورقة، يتبنى بطريقة أو بأخرى ما يفترض أنه يشكل جوانب من مشروع الجابري. وفي حال حصول تعارض بين ما سنقدمه وبين المنجز الفكري للمرحوم محمد عابد الجابري، فإننا نتحمل وحدنا التبعات المترتبة عن ذلك. أولا : أوليات 1-الثورات العربية، في التمهيد لبناء شرعية سياسية جديدة. تعد سنة 2011، منعطفاً نوعيا في التحولات، التي عرفها المجتمع العربي في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة. فقد ظلت البلدان العربية تعتبر البلدان الأقل تغييرا، في اتجاه توطين المشروع الديمقراطي في أنظمتها السياسية. وازداد الأمر تأكداً بعد الموجة الديمقراطية التي انطلقت سنة 1989، وعمَّت دول أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين. إلا أن السنة المذكورة، وضعت حدا لاستمرار استثناء الدول العربية، من الديمقراطية ومكاسبها في التدبير. إن الانفجار الاحتجاجي الذي برز في البداية في تونس ومصر، اعتبر بعد أشهر حدثا شاملا، وشملت تداعياته مختلف البلدان العربية. ولم يكن الأمر مفاجئا، بحكم أن الاستبداد يعد أعدل الأشياء قسمة في أغلب المجتمعات العربية. فقد فقدت الأنظمة العربية شرعيتها، وعمَّ الفساد مختلف مظاهر الحياة في الإدارة والاقتصاد. كما شمل العمليات الانتخابية في الأنظمة العربية، التي كانت تعتني بديمقراطية الواجهة. وأصبحنا نواجه في أغلب البلدان العربية أزمة أخلاقية، إضافة إلى ما تراكم من مآزق وهزائم، وأشكال جديدة من الاحتلال، وإهدار لمختلف حقوق المواطنة، حيث أصبح يترتب عن كل ما سبق، ضرورة قيام الثورات التي حصلت، وأفعال التغيير المطلوبة والمتواصلة. لقد أصبحنا اليوم في المجتمعات العربية أمام أنظمة منهارة، وخاصة في كل من تونس ومصر وليبيا، وأخرى ما تزال تمانع، يتعلق الأمر بواقع الحال في كل من اليمن وسوريا. صحيح أن حدود الانهيار ليست واضحة تماما في البلدان المذكورة، باستثناء سقوط رأس النظام. إلا أننا نلاحظ بموازاة ذلك، وبتأثير مباشر منه ومن تداعياته، انطلاق أنماط من الإصلاحات الدستورية في المغرب والأردن والبحرين. يضاف إلى ذلك، ما يمكن معاينته على هامش الانفجار، من محاولات لتوظيف الريع النفطي على فئات من المواطنين، بغية شراء السلم الاجتماعي، على شاكلة ما حصل ويحصل اليوم في كل من السعودية والإمارات والجزائر. تظل الثورة من أجل الديمقراطية مجرد طريق، بكل ما تصنعه أفعالها داخله، من مراحل انتقالية تطول أو تقصر. أما بلوغ عتبات المجتمع الديمقراطي، فإنها قد تحتاج إلى مدى زمني أطول، للتمكن من توطين دعائمها وآلياتها ومؤسساتها في المجتمع. كما تظل في حاجة إلى ثقافة جديدة، تتيح للمجتمع القطع مع مختلف الآثار السلبية، المترسبة من عهود الطغيان التي عمرت طويلا. ولا يعتبر نجاح الانتقال الديمقراطي بعد الثورات أمراً مؤكداً. فما يحصل اليوم يؤشر على حدوث انتقال سياسي، يروم أساسا تحصين الفعل الثوري ومكاسبه، وهو يتحدد في لزوم الحرص على احتضان شرارات الانتفاض في أزمنة الانتقال. لعلنا نتمكن بواسطتها من عبور القنوات الموصلة إلى دروب ومنازل الديمقراطية. وهذا الأمر مرتبط أشد الارتباط بتجارب الفاعلين السياسيين، ودرجات وعيهم بمسلسل القطائع، التي أنتجتها الثورات. وكذا مستوى تمثلهم للثقافة الديمقراطية، التي عملت أجيال من المثقفين والمصلحين، على نشر مبادئها وقيمها في فكرنا المعاصر. 2- التحديث السياسي، أفق لكسر شوكة الاستبداد. يمكن أن تختصر الرسالة التي لوحت بها الثورات العربية في عبارة محكمة، مفادها بناء شرعية سياسية جديدة، تقوم أولا، بمناهضة ثم إسقاط شرعيات القهر السائدة، ثم الانخراط في توطين نظام الحكم الديمقراطي. والاحتجاج الاجتماعي الذي انطلق في الأشهر الأولى من سنة 2011، وتواصل بقوة طيلة السنة، مخلفاً ضحايا ومآسي ومآزق وأسئلة لاحصر لها، يشكل في تصورنا القفزة التاريخية الكبرى، التي يمكن أن تهيء فعلا لتوطين المشروع الديمقراطي في المجتمعات العربية. وقد اكتشفنا كما اكتشف العالم من حولنا، أن الأسلوب الثوري الجديد، الذي أطلقه الشباب العرب، وتضامنوا من أجل إنجاحه، يقدم بياناً آخر أكثر بلاغة من أجل الديمقراطية، بياناً مفصحاً دون أن تجسده الكلمات، بل إنه بيان يجد ترجمته المباشرة في الخيارات والإرادات والأفعال، شأن الأفعال الصانعة للتاريخ. صحيح أن أغلب المحللين من متابعي الحدث، أبرزوا أن الثورات العربية المتوالية، كانت في الأغلب الأعم تنسج خطواتها، خارج الثقافة السياسية التقليدية في وجهها المعارض، والتي كانت تشكل النمط المتداول داخل مجتمعاتنا، في مواجهة أنظمة الاستبداد. وصحيح أيضا، أن ما جرى لم يكن في بدايات انطلاقه، يحمل لونا إيديولوجيا معينا، وبرنامجا إصلاحيا بمعالم وخطط واضحة. إلا أن هذه التحليلات التي تشخص الحدث الجاري في مظاهره وخفاياه، تغفل أن هذا النوع من التنميط الفوتوغرافي، يتناسى أن الفعل الثوري في التاريخ، قد يتخذ ملامح واضحة في قلب الحدث، وليس في لحظات الإعداد له، أو لحظات إطلاقه. ففي التاريخ والسياسة يستطيع الفاعلون والمشاركون، أن يعيدوا أو يطورا أو يبنوا في قلب ما يجري، مفاصل وتحولات، تمنح الحدث منطقا يختلف أو يطابق أو يتجاوز بداياته. فلا مجال للعفوية في ما جرى، في أغلب البلدان العربية. وعندما يكون الاحتجاج موجها ضد النظام الاستبدادي، وضد التأخر والفساد، وضد ثقافة الطاعة والتأييد، وضد القمع الأمني وأجهزة المخابرات، فإن عنوانه الأكبر الحاصل في مجتمعاتنا، يتجه لبلورة ملامح أفق جديد، يروم توسيع المشاركة السياسية، وإشراك المجتمع في إعادة بناء نفسه، في اتجاه تَملُّك قواعد الممارسة الديمقراطية. فُسِّر تعثر المشروع الديمقراطي العربي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بجملة من العوامل، أبرزها هيمنة الثقافة التقليدية، المختلطة بتأويلات نصية محافظة للدين. كما فسر التعثر المذكور بالعوامل الاقتصادية، ومتغيرات الصراع الدولي في المشرق العربي، وذلك دون أن نغفل العوامل الأخرى المتمثلة في سيادة أنظمة الحزب الواحد، والعائلة الحاكمة والمسيطرة على دواليب الاقتصاد. وإذا كانت هذه التفسيرات تجد شرعيتها في الأدوار الكابحة للثقافة السائدة، وطبيعة العوائق الاقتصادية والاجتماعية البارزة، والمؤدية إلى استفحال الظواهر، التي تعكس عجز الأنظمة السائدة، عن تحقيق الحد الأدنى من العيش الكريم لمجتمعاتها. فإنه يجب ألا ننسى أن انخراط المجتمعات العربية، في تمثل مقدمات التحديث السياسي، الذي نفترض أنه يكفل إمكانية الانتقال الديمقراطي في مستوى الوعي، أدركنا سمك وثقل الصعوبات التي كانت تواجهها قوى الإصلاح، وهي تناهض أنظمة الاستبداد. وإذا ما سلمنا، بأن الانفجار الكبير، الذي عمت تجلياته كثيرا من الأقطار العربية، قدم كما قلنا ونؤكد، رسالة واضحة في موضوع البحث عن شرعية ديمقراطية مناهضة لشرعيات القهر السائدة، فإن روح هذه الرسالة ستظل عنوانا ملازما له، رغم ما يمكن أن يشوب كيفيات تنزيلها، من عوائق قديمها ومستجداتها. إن الكلفة الغالية التي دُفعت بالأمس، في معاركنا من أجل رفع الاستبداد، والثمن الباهض الذي يدفع في معارك اليوم المتواصلة، يشكلان مواثيق جديدة، في مسلسل نحت الطريق العربي نحو الديمقراطية. يتجه تحقيق تداول السلطة في المجتمعات العربية، نحو إنجاز خطوات كبرى في درب نعرف صعوباته. ونتأكد من ذلك، كلما انتبهنا إلى ما يجري في العالم من حولنا، ذلك أن الندوات والنقاشات المتواصلة اليوم، لاستكمال العديد من الثغرات، داخل الديمقراطيات في أوروبا وفي العالم أجمع سواء في مستوى التصورات أو في مستوى الإجراءات المرتبطة بالتطبيق. وعمليات التفكير الرامية إلى حل إشكالات العمل الديمقراطي، داخل المجموعات الإقليمية والاتحادات، من قبيل ما يحصل الآن في أوروبا في موضوع، علاقة البرلمان الأوروبي بمجموعة دول الاتحاد، والأدوار التي تمارسها بعض الدول الأوروبية باسم مصالحهما الخاصة، وما تلحقه من أعطاب بالأداء الديمقراطي داخل الاتحاد الأوروبي، كل ذلك يدعو في نظرنا، إلى مزيد من فحص ومراجعة آليات العمل الديمقراطي. ويمكننا أن نؤكد على ما نحن بصدده في هذه النقطة بالذات، عندما نقرأ الكتب الصادرة في السنوات الأخيرة في فرنسا على سبيل المثال، في قضايا الديمقراطية ومفاهيمها، وصعوبات تنفيذ بعض مساطيرها، لندرك أن موضوعات الحرية لا تكتب مرة واحدة، بل إن أسئلتها تطرح باستمرار بصيغ مختلفة، في ضوء المآزق المتواصلة لعملية تدبير الشأن السياسي في المجتمعات الإنسانية. ثانيا : المفارقات، مفارقة الثورة، الديمقراطية والإسلام السياسي. لم يكن متوقعا عندما انطلقت الشرارات الأولى لأفعال التغيير في تونس ومصر، أن يحصل كل ما حصل، وبالصورة التي حصل بها. وإذا كان من المؤكد، أن الفعل الثوري كان في بعض منطلقاته كما وضحنا عفويا، فإن من المؤكد أيضا، أن عفويته حتى وإن كانت مؤكدة، فإنها لم تتعد لحظة انطلاق الشرارة، إذ سرعان ما امتلأت الساحات العمومية في المدن، بحشود من المتظاهرين المنادين برحيل الطغاة، بكل ما يحملونه من مواقف ومواقع داخل المجتمع. نتصور أن الثورات العربية في المنطلق، لم تحصل لتحقق صحوة دينية، كما يحلو للبعض أن يتصور في ضوء وصول بعض تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة، في البلدان التي ساهمت في تركيب بعض ملامح الانفجار. بل إن صور الاحتجاج التي كانت تعبر عن تطلعات المتظاهرين، كانت تروم التخلص من الأنظمة الاستبدادية، أنظمة الحزب الواحد التي تحول الدول إلى ممتلكات خاصة، وأنظمة التعددية المصنوعة بالمساحيق قصد التمويه. قامت الثورات لتخاصم هذه الأنظمة مجتمعة، كما قامت لتواجه الاستبداد المسلح بالدين، أو المسلح بالعقائد الشمولية. وشكل مطلب الحرية ورفع الضيم عن الإنسان العربي، إطارا موصولا بالمعركة الحاسمة، من أجل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. ومنذ انطلاق حدث التغيير، ظل مطلب الحرية والكرامة، يشكل الغطاء الواضح، لمختلف التظاهرات والاحتجاجات المتواصلة. إلا ان تداعيات الفعل في الميادين ولَّدت صراعات ذات طابع استقطابي، موصول بالدولة والمجتمع، وموصول أيضا بشعارات الهوية وحقوق المواطنة. الأمر الذي أفرز فاعلين بخيارات ومواقف محددة، وينتمون إلى أزمنة متقاطعة، ويهتفون بالشعارات التي تحيل إلى مرجعيات فكرية وسياسية متناقضة. وكل منهم يتغنى بها من منظوره الخاص، وضمن الأجندة المرتبطة بخياراته الاستراتيجية. وقد تم إدراك هذا الأمر في زمن لاحق على حصول الانفجار. لم تختف شعارات المشروع الديمقراطي، المتمثل في إسقاط شرعية الاستبداد وبناء الديمقراطية، إلا بعد الإطاحة برأس النظام في تونس، وانطلاق العمل الرامي إلى إنشاء المجلس التأسيسي وتنظيمه للانتخابات، حيث أوصلت صناديق الاقتراع حركة النهضة إلى رأس الدولة في تونس. كما أوصلت لاحقاً، جماعة الإخوان المسلمين بأسمائها الجديدة مع بعض التيارات السلفية، إلى احتلال المقاعد التي تمنحها الأغلبية في البرلمان المصري. حدث الأمر نفسه، في الانتخابات التي جرت في المغرب، بعد احتجاجات شباب 20 فبراير، في الساحات العمومية لمختلف المدن المغربية، حيث يقود الأغلبية الحاكمة في المغرب حزب العدالة والتنمية. والمفارقة هنا، تتحدد في الجمع الحاصل بين رهانات الثورة والإسلام السياسي، وهي تدفعنا إلى أن نتساءل، هل كانت الثورة تحفر طريقها نحو ترسيخ قيم التحديث السياسي، أم أنها كانت تمهد الطريق للإسلام السياسي؟ يمكن أن نضيف سؤالا آخر، ونمنحه ما يستحق من العناية، بحكم مقتضيات المتغيرات الجارية، فنقول، ألا يساهم التغيير الجاري وضمن الشروط التي ركبت ملامحه، في علمنة الإسلام السياسي؟. يوظف في تبرير جوانب من المفارقة، التي نحن بصددها النموذج التركي، حيث يوضع مساره كنموذج لانتقال مجتمع مسلم إلى عتبة الديمقراطية، حيث يعمل قادة تركيا على إبراز إمكانية الجمع بين الإسلام واقتصاد السوق، وتمثل القيم الكونية، والعمل بقواعدها العقلانية والمؤسساتية. إلا أن ما يتم تغييبه في الموقف السابق، هو أن المسار السياسي التركي في مجال التحديث السياسي، يتأسس في إطار ما يعرف اليوم في تاريخ تركيا المعاصرة بمكاسب الكمالية، المتمثلة أولا في إلغاء السلطنة والخلافة، وحل الزوايا والطرق الصوفية، وإعلان علمانية ومدنية الدولة في الدستور. إضافة إلى إقرار المدونات القانونية الكونية، والاعتراف في الآن نفسه بحقوق المواطنة الكاملة للمرأة. وفي هذه الخيارات والمكاسب، تبرز معطيات أخرى، تشير إلى الطابع المعتدل لإسلام تنتمي غالبيته للمذهب الحنفي، والمعروف بصور انتقائه في التاريخ التركي، بروافد عقائدية قادمة من أزمنة بعيدة ومختلطة. هذا دون أن نغفل الإشارة إلى خضوع الوجه الديمقراطي في النموذج التركي للدولة الفعلية، دولة الجيش التي ترسم التوجهات السياسية العامة، وتراقب الحكومات المتعاقبة، معلنةً قبل ذلك وبعده، أنها تقف خارج المجال السياسي. لا يمكن إذن، أن نتحدث في ضوء ما سبق عن نموذج تركي، فلتركيا سياق تاريخي ومسار سياسي، يستوعب كثيرا من عناصر خصوصياتها السياسية والعقائدية. واللجوء إليه اليوم، والحديث عنه كنموذج في معارك التغيير العربية، يتضمن رسائل أخرى، ليس هنا مجال تفصيل القول فيها. إن التحول الديمقراطي في مجراه الراهن، يؤشر على معطيات معقدة ومتناقضة، ولعل فرز هذه المعطيات، والعمل على دمقرطة نزعات الإسلام السياسي، يتطلب جهوداً من الحوار المتواصل والمنتج، مع مختلف مكونات المجتمع. إن المأزق الراهن الذي أفرزته صناديق الاقتراع، يدعونا إلى التفكير في كيفية حماية الديمقراطية، من أشكال التحايل التي تتجه لتقويضها بوسائلها. تتمثل المفارقة الحاصلة هنا، في كون موضوع الإسلام السياسي يطرح أسئلة عديدة في موضوع التغيير، فهناك من يرى أن كل ما حصل في العالم العربي، رُكب في إطار مؤامرة رتبت ملامحها في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا، وحصل ذلك بتواطؤ جهات عديدة، في إطار ما عرف بحاجة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان. حيث أقيمت منذ سنة 2004 مجموعة من اللقاءات والبرامج والدورات التكوينية الموجهة للشباب العربي، وبتمويل من الإدارة الأمريكية، ومن بعض الشركات الخاصة، مثل غوغل، وذلك بهدف توفير تدريبات مكثفة للشباب في موضوع كيفيات استخدام الأنترنيت، وبناء أشكال من التبادل الشبكي التفاعلي، قصد التنسيق والتشاور، لتعبئة الجماهير واستقطابها، من أجل التجمع في حركات غير عنيفة، للمطالبة بالحرية والديمقراطية. إلا أننا نرى أن العناصر التي يبرزها هذا الموقف، تظهر الطابع المؤامراتي والإرادوي الموجه لما حصل ويحصل. مغفلة أن ما حصل، وإن كان يمكن أن يفهم في علاقته بالمصالح الخارجية، ومقتضيات التعولم الجارية، كما طورتها تقنيات المعلومات، إلا أن هذا الفهم، يقلل في نظرنا، من شأن الفعل الذاتي، الذي أنجزه المتظاهرون والمحتجون في الساحات العمومية، داخل الحواضر والبوادي العربية. ولعله يغفل أيضا أن مطلب التغيير، يندرج ضمن الطموحات القديمة والجديدة في الآن نفسه، للنخب السياسية وللمثقفين الملتزمين بقضايا مجتمعهم. وأن أي حديث عن تربص الآخرين بنا، ينبغي أن نلح فيه على ضعفنا، لا على قوة من نعتبر أنهم يتربصون بنا، لعلنا نقترب أكثر من رصد عِلَلِنا، فنتخلص منها. ثالثا : التحديات تحديات الثورات العربية، نحو جبهة ثقافية حداثية. نعتبر أن بداية نهاية الفعل الثوري في الوطن العربي، تضعنا مباشرة أمام ذواتنا، إنها تضعنا أمام تبعات جديدة، ومسؤوليات أخرى تكافئ المطالب المستجدة، والآفاق التي فتحتها الثورة أمامنا. ولأن الموضوع معقد ومليء بأشكال من التحول، فقد اخترنا التوقف أمام أبرز التحديات، التي أفرزتها ورطة وصول بعض تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة. وقبل تقديم بعض الملاحظات في مسألة التحديات، نشير إلى أن موضوع التحديات المطروحة اليوم في الثقافة العربية بعد الانفجار، يعد من الموضوعات التي تشير إلى تحديات بلغ عمرها اليوم أزيد من خمسة عقود. ذلك أنه سبق للمثقفين العرب في ستينيات القرن الماضي، أن أبرزوا أن الثقافة العربية مطالبة بمواصلة كل معارك الحرية، وفي مختلف الميادين، في الأذهان عند الأفراد و بلغة الجماعات. وقد نبه عبد الله العروي على سبيل المثال في سبعينيات القرن الماضي، إلى أننا تقاعسنا طويلا ، إزاء القومية الثقافية، وإزاء تقديس اللغة و التاريخ والتراث. ودعا وهو يفكر في تجاوز التقاعس المذكور، إلى حرية الدرس والنقد في الميادين التي ذكرنا، من اجل تهيئة التربة الثقافية لتمثل ما أسماه المتاح اليوم للبشرية جمعاء. وهناك إجماع اليوم على أن الورطة الحاصلة بعد الثورة، والمتمثلة في صعود الإسلام السياسي إلى الحكم، تعكس أولا وقبل كل شيء أمرين اثنين. إنها تظهر ملامح فشل المشروع القومي، والمشروع السياسي الليبرالي، كما تبرز مظاهر التراجع في الفكر الحداثي. صحيح أن بعض المتابعين اعتبروا أن وصول الإسلام السياسي إلى السلطة، يمكن أن يفهم كنتيجة من نتائج فاعلية المشروع الديمقراطي في الوطن العربي، وقد يكون هذا الأمر بدوره مقبولا، إلا أنه يحصل نتيجة جملة من العلل، التي تتمظهر اليوم في الثقافة العربية، وفي المشهد السياسي العربي، من أبرزها : - تراجع القوى اليسارية وتشرذمها في أغلب الأقطار العربية، - مساهمة منطق التوافق الانتقالي، في توليد كثير من صور الخلط بين التيارات الموجودة في الحياة السياسية العربية أثناء الثورات وقبلها، الأمر الذي يعكس استمرار العمل بأساليب التمويه والمخاتلة، كما يعكس عجز النخب على مواجهة الإشكالات المؤجلة، في موضوعات الإصلاح الديني والثقافي، وبناء دولة القانون والمؤسسات. وهناك من يشير أيضا، إلا أن بعض الأنظمة العربية ساهمت في تقليص الحس السياسي التعددي، وذلك باستخدامها أساليب معينة، في جعل المشهد السياسي بمختلف أطيافه، يدور حول ما يرسمه الحزب الواحد في الدولة، وهذا الأمر يتجلى بوضوح في كل من مصر وتونس. إلا أن كل ما ذكرنا، ونحن نفكر في تقديم أمثلة توضح العِلَلَ المتفشية في ثقافتنا وأنظمتنا السياسية. لا يكفي لتفسير المآل التي آلت إليه الأوضاع الثقافية والسياسية في زمن الثورات. ومن هنا بدا لنا أن العمل من أجل تطوير جبهة الفكر الحداثي في الثقافة العربية، واستكمال مشاريع الإصلاح المتوقفة، وعلى رأسها الإصلاح الديني الذي يضع حدودا لمسألة العودة إلى الفكر النصي المحافظ في ثقافتنا. فقد يساهم هذا الاستكمال في بلورة ما نعتبره إسمنت الثورة، أي الجهود الكفيلة بتوطين وإعادة توطين قيم الحداثة في مجتمعنا. لقد تحققت الثورة السياسية، وقطعت أشواطا هامة وهي تتجه لرفع كثير من مظاهر الاستبداد والفساد، وفجرت أيضا إمكانية حصول ما يماثلها في مستوى الذهنيات والسلوكات. إلا أن التحقق الفعلي لثورة ثقافية ، تقطع مع أنظمة في الثقافة والفكر، يقتضي وعلى خلاف ما جرى في المستوى السياسي، زمنا أطول لتبرز ملامحه ويتخذ أشكالا معينة. إن ثورة ثقافية يمكن أن تظهر إرهاصاتها الأولى في قلب التغيير السياسي، ولكن استواءها يتطلب جيلا أو جيلين، لكي نصبح أمام قواعد مرتبة لإمكانية القطع مع التقليد ومع أنظمة الفكر القديمة. في هذا السياق، تكون الثورة السياسية موصولة بالتحولات الثقافية، كما تكون الثورة الثقافية المحتملة موصولة بأفعال التغيير السياسي، التي يفترض أن تنقل المجتمعات العربية من طور إلى طور آخر. ولاشك في أن شكل الارتباط والترابط الموجود بين التحولين، لا يمكن مقاربته بالسببية الميكانيكية، بل ينبغي معاينته بطريقة تفاعلية. كما أنه يفسر بنموذج تاريخي معين، ذلك أن التاريخ فعل مركب، ومسارات التحول في أطواره المختلفة يحكمها التنوع والاختلاف. لا يمكن أن نغفل الإشارة هنا ، إلى أننا نواجه توقف جهود الفكر العربي في موضوع إكمال مشروع الإصلاح الديني في الفكر العربي النهضوي، حيث ظل موضوع الإصلاح غير مكتمل، بل إنه لم يتعد جهود النهضويين، الذين دعوا إلى التجديد والاجتهاد، محاولين النظر إلى الخلافة باعتبارها مؤسسة تاريخية قابلة للتطوير والتجاوز، اعتمادا على أنها لا تعد جزءا من الدين. ولم يتواصل النقاش النقدي في هذا الموضوع، حيث سادت في الثقافة العربية أشكال من المخاتلات، التي تسمح بإمكانية حصول ما حصل اليوم. صحيح أن قراءة التراث في أعمال كل من محمد عابد الجابري ومحمد أركون، وخاصة في نقدهما للعقل السياسي الإسلامي، قد ساهمت في إضاءة كثير من القضايا الموصولة بالمجال السياسي في حاضرنا. إلا أن نتائجها ظلت محصورة وسط نخب تزداد مسافات ابتعادها عن المجتمع اتساعا، الأمر الذي ترك للأنظمة السياسية السائدة، مواصلة القيام بترسيخ تصوراتها الموظفة للإسلام داخل مؤسساتها، حيث راهن ويراهن على الحساسية الدينية، في تدبير جوانب عديدة من الشأن العام. يمكن أن نؤكد إذن، أن من الأمور المستعجلة اليوم في الثقافة العربية، العمل على تأسيس جبهة للفكر الحداثي، من أجل أن تساعدنا على إيقاف مسلسلات التراجع والانكفاء، جبهة يمكن أن تشكل ذرعا أماميا، لمواجهة أشكال الاندحار الثقافي، الحاصل في بيئات الثقافة العربية منذ عقود من الزمن، وذلك بفعل اتساع وتنامي تيارات الفكر النصي المحافظ، جبهات الفكر الدعوي، ومقابل ذلك انقطاع بل توقف وتيرة مغامرة الاجتهاد والإبداع في فكرنا. وإذا كان الانفجار العربي المتواصل، قد أفرز مشهدا جديدا في الواقع العربي، واكتشف الجميع بالملموس، أن التغيير لا يكون فقط بإسقاط النظم الاستبدادية الفاسدة، بل إنه يتطلب رؤية شاملة، لمختلف زوايا النهوض والتنمية. ذلك أن بناء مجتمعات عربية عصرية، يحتاج اليوم إلى جبهة للتحرك، مسلحة بمبادئ ومقدمات الفكر العاصر، جبهة قادرة على إعادة بناء المجتمع مجددا. ونحن نعتقد أنه لن تكون هناك مردودية، لتحركات اليوم، إذا لم تصنع الحدود، التي تركب القطائع وبلا تردد ولا مخاتلة، مع مختلف أوجه ومظاهر التقليد والاستبداد والفساد في وطننا الكبير.