مرةً أخرى أيها الأحِبة في الله نلتقي مع رمزٍ من الناظور، و مع واحد من جيلِ أساتذتنا الأفاضل المؤمنين بالرسالة التربوية النبيلة و الناكرين للذات من أجل نشر قيم الخير و التعايش و التسامح. إنه فقيدنا الراحل العلّامة سيدي الحاج امحمد التنوتي رحمه الله و أسكنه إلى جوار الصدّيقين و الصالحين. وُلد راحلنا العزيز سنة 1926 بقرية ثانوث نالرمان ببني سيدال.. درسَ القران الكريم على يدي والده الحاج علال التنوتي العالم والقاضي و إمام مسجد محمد الخامس. و بما أنه كان فَطِناً و متمكنا من حفظ القران الكريم، فقد أرسله والده لمتابعة دراسته بمدينة فاس في جامع القرويين بعدما تعهّد له بألا يعود إلى مدينة الناظور إلا و هو حاصل على شهادة التخرّج. لعبت الفترة التي قضاها الراحل بالعاصمة العلمية دورا مهما في تشكيل شخصيته حيث استفاد من العلماء الذين تتلمذ على ايديهم، و الذين قدِموا من شتى انحاء العالم.. فكان يستمع إليهم باهتمام شديد، وينهل من علومهم، و يأخذ من تجاربهم و خبراتهم. و بعد أن وفّى الراحل بوعده، و تخرّج في تخصص الشريعة، عُرضَ عليه الاشتغال بسلك القضاء إلا أنه تحفَّظ و اعتذر و آثرَ مجالا آخر.. و هكذا تم تعيينه أستاذا للفقه والعروض بمدينة وجدة ليواصل نفس المهمة بعد سنة واحدة بالمعهد الديني محمد الخامس بالناظور. و إبان هذه الفترة، تعرض والده الحاج علال التنوتي لكسر في رجله منعه من إتمام وظيفته كإمام، فطُلب منه أن ينوب عنه مؤقتا.. و هو الطلب الذي وافق عليه إرضاءا لوالده بعدما تردد في بادئ الأمر. فقام بهذه المهمة أحسن قيام، و أخلص فيها على الوجه الأكمل. لقد كان رحمه الله إنسانا خلوقا يشهد بالحق حتى على نفسه، و كان محبوبا لدى اصدقائه مُتصفا بروح مرحة، و عزيزا على تلاميذه مُتسما بالجدية و التفاني. للفقيد سيدي الحاج امحمد التنوتي تسعة أبناء ساعدهم كثيرا على إتمام دراستهم، و وقف إلى جانبهم حتى تخرجوا بشهادات تُفرِح القلب و تُثلج الصدر. و في يوم الخميس 28 فبراير 2013 وافته المنية بعد صراع مع المرض، و بعد رحلة حياة حافلة بالعطاء و الفضيلة و الوعظ. احتكَّ به الجميع لينهلوا من غزارة فضله.. و وجد عنده طلابه سِعة البصيرة و دِقة المعرفة حتى أصبحوا اليوم بنفائس كتبه أصحابَ وظائف سامية و مناصب عالية. مازال جميع المصلين بمسجد محمد الخامس بالناظور يتذكرون خطبه الهادفة و هو يتناول محاور أحداث و ظواهر كل أسبوع بالإقليم.. و ها نحن اليوم نستحضر روحه الطاهرة مثلما نستحضر ارواح كل علمائنا و مشايخنا لنعبر عن شغفنا بهم و تعلقنا بمحبتهم. و قبل أن أختم رسالة اليوم، أود الإشارة إلى الآصرة القوية التي ربطت بين فقيدنا العزيز و بين المرحوم سيدي الحاج عبد الله الصقلي حيث جمعتهما عشرة طويلة، و كانا لا يفترقان أبدا. فبرغم ان الحاج عبد الله الصقلي تزوج بأخت سيدي امحمد التنوتي بعد تعارفهما بجامع القرويين، إلا أن العلاقة بينهما كانت علاقة دين و علم و فضيلة. و قد تأثر راحلنا كثيرا بعدما ظلت صورة وداع رفيقه تلازمه أينما حل و ارتحل. فاللهَ تعالى نسأل أن يتغمده بواسع رحمته، و أن يُنزِل عليه شآبيب مغفرته و رضوانه.. هو مولانا و نِعم النصير.