باحث في الدراسات الدستورية والسياسية تحتل المؤسسة الملكية مكانة سامية في النسق السياسي المغربي نظرا لعوامل متشعبة ومترابطة ومتداخلة فيما بينها،وتمركزها في هرم النظام المغربي،لم يكن وليد حدث معين أو دستور محدد،وإنما يرجع ذلك لجذور ضاربة في التاريخ المغربي الذي يشهد على أن أكثر اللحظات العصيبة التي عرفها وقت الاستعمار دعمت بشكل قوي ذلك الالتحام والترابط بين الشعب والملك،وفي هذا الاطار يذهب أحد المفكرين الى أنه في الوقت الذي تحالفت غالبية الملكيات في دول العالم الثالث مع المستعمر ضد الشعب وحركته الوطنية،قادت العائلة الملكية المغربية حركة المقاومة ضد المستعمر الفرنسي،الأمر الذي زاد من شعبيتها وتقدير المغاربة لها. يبدو إذن أن تجدر وترسخ الملكية في التاريخ المغربي يمنحها الاستمرارية والدوام،بل والمكانة المرموقة،وهذا طبعا لا يرجع للنضال الطويل المشترك فحسب بل ولمشروعيات متعددة حظيت بها هذه المؤسسة،وأمدتها بدعم كبير،فانتساب الملك الى آل البيت الشريف،منحه لقب أمير المؤمنين،وهو بذلك يجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية حيث يعمل على تسيير شؤون الدولة وحماية مصالحها والحفاظ على أمنها،وكل ما يتعلق بوجودها ككيان قائم،واستمرارها وسط المجتمع الدولي،وفي الوقت نفسه،هو أمير المؤمنين،حامي حمى الملة والدين،والساهر على إقامة شعائر الاسلام،وضبط المجال الديني في الدولة وهذا الامر طبعا أعطى دفعة قوية لمسألة التفاف وتوحد الشعب حول العرش. عندما نتحدث عن إمارة المؤمنين،ترجع بنا الذاكرة الى دولة الخلافة التي نشأت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه،لكن لقب أمير المؤمنين لم يطلق إلا مع مجيء الخليفة الثاني عمر بن الخطاب،ورغم ظهور لقب أمير المؤمنين،فإن ذلك لم يؤدي الى إلغاء اللقب الاول،كما لم يؤدي الى الإقلال من شأنه،بل ظل لقب الخليفة أكثر استعمالا وشيوعا،الى أن ألغيت الخلافة الصورية من تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك. في المغرب يتخذ رئيس الدولة لقبين:الملك وأمير المؤمنين،ولعل هذا اللقب الثاني يعبر بعمق أكثر عن وظيفة رئاسة الدولة المغربية،ذلك أن إمارة المؤمنين تعمل على تصريف كل شؤون البلاد الدينية والدنيوية،وهذا ما يعبر عنه بصراحة الفصل 19 من دستور 1996 والفصلين 40 و 41 من دستور 2011 ،والذي أصبح بموجبه الملك يتمتع من خلال هذا اللقب أمير المؤمنين بهامش واسع جدا من الصلاحيات والسلط،فهو بدافع ذلك يسهر على حفظ الأمة من كل ما يمكن أن يزيغ بها عن الطريق الجاد والصائب،ومن ذلك مثلا: منع الحزب الشيوعي المغربي سنوات بعد الاستقلال من ممارسة أي نشاط له،وذلك لتبنيه الإيديولوجية الماركسية اللينينية المتعارضة مع مبادئ الدين الاسلامي التي تقوم عليها الدولة المغربية،كما يخول لأمير المؤمنين التدخل لحل أي نزاع من شأنه تعطيل سير المؤسسات في البلاد،والتي لا تجد لها حلا لا في الدستور ولا في القوانين الأخرى،ومن ذلك الخلاف الذي وقع سنة 1981 بمناسبة انسحاب المعارضة الاتحادية من البرلمان بدعوى أن مدة نيابتهم وانتدابهم فد انتهت،رافضين بذلك تمديد مدة ولاية مجلس النواب لسنتين ،على إثر ذلك تدخل الملك للنظر في تلك الوضعية مخاطبا مجلس النواب بأنه إذا كان الملك الدستوري لا يمكن له التدخل فإن أمير المؤمنين بواجب الكتاب والسنة له أن ينظر في الأمر. ومن ناحية أخرى بما أن الملكية في المغرب كما أسلفنا مرتبطة الى حد بعيد بالنظام الاسلامي ومنه تستمد شرعية قوية تؤهلها للبقاء والاستمرارية،من أجل هذا لم تكن هذه المؤسسة يوما رمزية أو شكلية،بل سادت دائما وحكمت،وقد برز خلاف من هذا النوع مباشرة بعد الاستقلال بين الحركة الوطنية والقصر،وقد حسم الخلاف لصالح هذا الاخير،وعليه لم تعد تثير مسألة السيادة والحكم أي إشكال للشعب المغربي الذي أصبحت لديه القناعة الراسخة والإيمان القوي بالنظام السائد. تقوم إذن الملكية في المغرب على مشروعيات متعددة،جعلتها تتبوأ صدارة المؤسسات وتقف على هرم السلطة،فالملك في المغرب لا يسود ويحكم فقط بدافع دستوري أو نصوصي،فقبل أن يكون رئيس الدولة فهو ملك البلاد وأمير المؤمنين الذي يملك السلطة الروحية ويؤم بالناس الصلاة،ويرعى مصالح الأمة وشؤونها. إضافة لذلك،تكتسي المشروعية التاريخية أهمية توازن المشروعية الدينية أو تقترب منها،إذ علاوة على الدين ومكانته في لم المجتمع وصهر مكوناته،يصقل التاريخ ذاكرة الناس ويعمق وعيهم المجتمعي ،ويمنحهم قوة الاستمرارية،وإعادة إنتاج الاستمرارية،فالملكية بهذا المعنى تستمد مشروعيتها من ترسخها في التاريخ،وقدمها كمؤسسة وفلسفة لإدارة الدولة والمجتمع. وبالفعل فالمشروعيتين الدينية والتاريخية متكاملتين،بحكم أن المشروعية الدينية التي تقوم عليها الملكية المغربية تعود للانتساب لآل البيت،أي لجذور ضاربة في التاريخ،وعليه فالقول بالمشروعية الدينية لهذه المؤسسة على هذا النحو يفيد بالضرورة أصالتها وقدمها،الأمر الذي جعل الأمة تؤمن بحتمية وجودها على مر العصور والأجيال،وتجمع على فعاليتها ونجا عتها،وهذا ما يميز الملكية المغربية على العديد من الملكيات التي وجدت في أقطار متعددة من العالم،والتي لم تكن في أغلب الاحيان سوى كراسي فارغة تلعب أدوارا رمزية ليس إلا،في حين نجد الملكية المغربية كانت ولا زالت تقوم بكل أدوارها،بل وتشكل مركز ثقل الدولة والعمود الفقري للنظام السياسي برمته. وهذا طبعا يرجع لتكامل وتلاقح المشروعيتين:الدينية بكل ما يقتضيه منصب أمير المؤمنين من ضرورة القيام بواجباته الدينية والتاريخية لما لعبه عامل الزمن والتاريخ من دور حاسم في ترسيخ وتثبيت دعائم هذه المؤسسة نظرا للدور المحوري الذي قامت به سواء في مراحل الكفاح والتحرير أو البناء والتشييد. وعليه،فالملك ليس له أن ينحاز لأية جماعة أو حزب سياسي، ومن هذا المنطلق سيمثل حقا رمز الأمة ووحدتها،فتمثيليته السامية تنجم عن إثبات هذا الأمر مما يفرض منطقيا عدم وجود أي نزاع أو منافسة في التمثيلية بين الملك ومنتخبي الأمة الذين لا يمثلون إلا جزءا من الشعب،ومصالح محتملة وطارئة،بينما الملك يمثل الأمة جمعاء،الموتى والأحياء والذين سيولدون. ولتفعيل هذه التمثيلية الشاملة تتسع صلاحياته ويتقوى نفوذه ليصل الى كل منافذ تسيير البلاد،تارة بصفته الملك الوارث الأصيل لعرش أسلاف تعاقبوا عليه منذ أمد بعيد،وأخرى بصفته أميرا للمؤمنين مكلفا برعاية مصالح الجماعة الاسلامية،وهو بكل هذه الصلاحيات يتفوق على باقي القوى الفاعلة في الحقل السياسي،بل وتعمل كل المؤسسات الدستورية الأخرى مرتبطة بشكل أو بآخر بالمؤسسة الملكية،ذلك الموروث السياسي الذي يرتهن بقائه واستمراره في الزمن بمدى نجاعته وقدرته على احتواء كل الاطراف وجعلها تسير في مركب واحد مع التيار،وهذا ما أثبته التاريخ الذي أكد لنا في غير ما مرة أنه رغم كل الخلافات والتطاحنات بين القصر ومختلف القوى السياسية أو المجتمعية الأخرى والتي وصلت في بعض الاحيان الى حد القطيعة إما بالانسحاب من العمل السياسي أو بالاعتقال وما شابه ذلك،فهي مع كل هذا لم تتجاوز الحدود الحمراء،ولم تبلغ حد الثورات أو الانقلابات الهادفة لتغيير شكل الحكم،وإن وجدت – كما قلنا – دائما معارضة لها وجهات نظر أخرى تروم الى تغيير طرق تسيير شؤون الحكم،لكن الملك بوصفه أميرا للمؤمنين كان يعتبر معارضته معارضة للدين وخروجا عنه ومن ثمة كانت محنة بعض العلماء المعارضين للسلطان كما كان تحول تاريخ السلاطين الى تاريخ حركات ضد القبائل السائبة مؤشرات على عدم إمكانية السماح بمعارضة رئاسة الدولة. وهنا نشير الى الفرق بين معارضة النظام،والمعارضة داخل النظام،فعندما نتحدث عن المعارضة داخل النظام فإننا ننطلق من مبدأ الاجماع الشعبي حول شكل النظام أولا،أما المعارضة فتنعقد عن أمور أخرى داخل هذا النظام من قبيل طرق التسيير والقيادة في أمور معينة...وفي المغرب المعارضة التي قادتها بعض الاحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني لم تكن طبعا للنظام،بل من داخل النظام،وهذا ما جعل الملك دائما فوق الاحزاب والحكومة والبرلمان،وفوق كل القوى الاخرى ليتمكن من الحكم والتحكيم بدون انحياز لطرف على حساب الآخر. ووظيفة التحكيم لا يمكن أن تكون عادلة ومنصفة إلا إذا كان الحكم بعيدا عن أي انتماء لأية جهة،الشيء الذي ينطبق على الملك في المغرب،وإذا كان يعمل جنبا الى جنب مع كل المؤسسات الدستورية فهولا ينتمي إليها،فحينما يفتتح أشغال البرلمان ويشارك في وضع القوانين ويصدرها...فهذا لا يعني أنه نائب برلماني،وعندما يرأس المجلس الوزاري،فهذا لا يعني أنه ضمن التشكيلة الوزارية أو رئيسا للحكومة...بل يفهم من ذلك أن الملك في المغرب يسمو فوق كل هذه المؤسسات وغيرها، وبالتالي له أن يحكم بينها بكل نزاهة ومصداقية.