لا شك أن الفصل 19 من الدستور المغربي شكل بالنسبة إلى الباحثين، سواء منهم المغاربة أو الأجانب، محورا مهما في تحليلاتهم للنظام السياسي المغربي، وذلك باعتباره مفتاح المشروعية الدينية لإمارة المؤمنين. لذا فإنه من أجل فهم قوة الفصل المذكور، لا بد من العودة إلى واقع إمارة المؤمنين من خلال تعريفها وتطورها التاريخي وتطبيقاتها في الممارسة السياسية للملك. يقصد بإمارة المؤمنين في الإسلام الرئاسة العظمى والولاية العامة الجامعة، القائمة بحراسة الدين وسياسة الدنيا. والقائم بها يسمى «الخليفة» لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمى أيضا «الإمام» لأن الإمامة والخطبة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين لازمة له، لا يقوم بها غيره إلا بطريق النيابة عنه، كما يسمى «أمير المؤمنين»، وهو الوالي الأعظم الذي لا والي فوقه ولا يشارك في مقامه غيره. كما يطلق على الخليفة لفظ السلطان من السلطة، والسلطة هي «السيطرة والقهر والتحكم، فالسلطان من له ولاية التحكم والسيطرة في الدولة، فإن كانت سلطة السلطان قاصرة على ناحية خاصة فليس بخليفة، وإن كانت عامة فهو الخليفة». كما أطلق على الإمامة الكبرى لفظ الحاكم. وبصرف النظر عن التسمية، فإن العبرة تنصب على الناحية الوظيفية للإمامة والحكم، وقد عرفها ابن خلدون بقوله: «هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها». تأسست دولة الخلافة مع أبي بكر الصديق، غير أن شكلها الحقوقي لم تتم بلورته إلا زمن عمر بن الخطاب، حيث كان أول من اتخذ لقب أمير المؤمنين، بعدما كان يحمل لقب خليفة رسول الله، وهو اللقب الذي كانت صياغته الثقيلة تستعصي على التداول، فجاءت عبارة أمير المؤمنين لتحقق مجموعة من الوظائف، أهمها: تسهيل عملية الدمج بين السلطتين الدينية والسياسية في شخص واحد. وستظل هاته المؤسسة قائمة رغم عدة تحولات عرفتها طبيعة الدولة الإسلامية، كالانتقال من «الخلافة» إلى «الملك العضوض» زمن معاوية بن أبي سفيان. وحين وصل «العلويون» إلى السلطة، ساروا على نفس النهج واتخذوا ألقاب إمارة المؤمنين، نظرا إلى توفر شرط الانتماء إلى البيت النبوي، وأصبح السند الشريف من الأمور التي تتميز بها المؤسسة الملكية المغربية عن قريناتها في العالم الإسلامي. وقد حافظ لقب أمير المؤمنين على استمراريته وتجذره في الوعي السياسي والديني للمغاربة، حتى تمت دسترته سنة 1962 من خلال الفصل 19، ليخرج بالتالي من دائرة الارتباط الرمزي والأخلاقي بالتقاليد الدينية، ويأخذ أبعادا أخرى تجعل الحامل للقب أمير المؤمنين، أي الملك، «يتمتع بسند إضافي يضمن له شرعية دينية بوصفه قائما على أمور الجماعة المؤمنة (...) واعتمادا على وظيفته الدينية السامية، ينصب أمير المؤمنين/الملك نفسه راعيا للإجماع بين أفراد وجماعات مكونة لمجتمع مسلم يربط بين مكوناته اعتقاد راسخ بأحادية السلطة. وعليه، يتمتع أمير المؤمنين بسلطات لا تحد، لأنها تمارس وفق القرآن والسنة... وتشمل صلاحيات دينية وأخرى دنيوية. لكن بالعودة إلى الخطب الملكية، نرى أن الوظيفة التي أعطيت للفصل 19 أصبحت محدودة في وظيفة الملك كأمير للمؤمنين لتأسيس ديوان المظالم -سابقا- ومؤسسة الوسيط -حاليا- باعتباره هيئة لاستقبال تظلمات الرعايا من مختلف المؤسسات الإدارية، وكذا كان نفس الفصل حيثية لإصلاح الحقل الديني قائلا في هذا الصدد في خطاب العرش لسنة 2001: «وبنفس الحزم والعزم، نهضنا بالأمانة الملقاة على عاتقنا بوصفنا أميرا للمؤمنين وحاميا لحمى الملة والدين، فجددنا لبيوت الله أداء وظيفتها في محاربة الأمية الدينية والفكرية، كما أعدنا هيكلة المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للعلماء للنهوض بدورها كاملا في مجال العبادات والمعاملات، بعيدا عن أي تحجر أو تطرف...»، وكذا لإصلاح مدونة الأحوال الشخصية، وذلك بجعل المقاصد العليا للشريعة الإسلامية السمحة قائمة على الاجتهاد والإنصاف ومن الانسجام مع الاتفاقيات الدولية أساسا للنهوض بوضعية المرأة. فالملك يوظف صفته كأمير للمؤمنين كلما تعلق الأمر بالدين الإسلامي باعتباره دين التسامح والاعتدال ويناهض الإرهاب، وهذا ما أكده في معرض جوابه عن سؤال طرح عليه من طرف جريدة «لوفيغارو» حول إمكانية وجود تطرف إسلامي، كما هو الشأن بالنسبة إلى الجزائروإيران، تسببت فيه مظاهرة الدارالبيضاء ضد الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية سنة 2001، قائلا: «لا أعتقد ذلك لأن المغرب بلد راسخ التقاليد. إيرانوالجزائر مرتا بفترة طويلة لم يعد فيها للدين وجود يذكر في الحياة اليومية، أما هنا في المغرب فإن الدين جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية، إضافة إلى أن الملك يتمتع بشرعية دينية باعتباره أميرا للمؤمنين، فمن واجبي ضمان حرية العبادة..»، موضحا أن الأمر لا يتعلق بعبادة المسلمين، بل بممارسة الشعائر الدينية لجميع الديانات السماوية الثلاث: الإسلام واليهودية والمسيحية. إن مؤسسة إمارة المؤمنين ظلت ضمن ثوابت الخطاب الملكي ل9 مارس 2011 الذي تحدث عنها إلى جانب الإسلام كدين للدولة، والنظام الملكي، والوحدة الوطنية الترابية، والخيار الديمقراطي. والرسالة السياسية من وراء ذلك هي أن اللجنة الملكية لمراجعة الدستور سيكون سقف النقاش داخلها لا ينبغي أن يعلوه. غير أننا لاحظنا أن جل المذكرات الحزبية المرفوعة أمام اللجنة المكلفة بتعديل الدستور حاولت حصر اختصاصات أمير المؤمنين في الجانب المتعلق بالجانب الديني، ومثال ذلك حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي اعتبر أن الملك، بصفته أميرا للمؤمنين، يمارس مهام الإشراف على تدبير وتنظيم الحقل الديني، ويضمن صيانة حقوق المواطنين والجماعات والهيئات في ممارسة شؤونها الدينية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يمارس السلطات المخولة له بمقتضى ظهائر، وما عدا ذلك فإنه يمارس اختصاصاته الدستورية بمقتضى مراسيم ملكية. ونفس الشيء كان مع مذكرة حزب التقدم والاشتراكية التي أضاف عليها ممارسته لمهمة التحكيم والسهر على الاختيارات الكبرى للبلاد. أما حزب الاستقلال، فقد تحاشى الحديث عن الفصل 19، مؤكدا أهميته على إمارة المؤمنين التي يعتبرها أحد ثوابت المغرب، لكنه شدد في المقابل على أن البرلمان هو المصدر الوحيد للتشريع. غير أن حزب العدالة والتنمية اعتبر أن إمارة المؤمنين هي صفة للملك، بمقتضاها يسهر على حماية الممارسة الدينية للمغاربة، هذا عكس حركة التوحيد والإصلاح التي أكدت على جميع مضامين الفصل ال19 من الدستور، غير أنها حاولت حصر اختصاصات أمير المؤمنين في الجانب المتعلق بحماية ملة الدين بمقتضى الظهير دون أن يتجاوز ذلك إلى مجال التشريع. غير أن بيان المجلس العلمي الأعلى للعلماء بتاريخ 30 مارس 2011 جاء ليوضح وجهة نظره في التعديلات الدستورية، مشددا على أربع نقط: - أولا، الدور المركزي الذي يلعبه العلماء باعتبارهم ضمير الأمة، فهم يجعلون تمثيليتهم فوق تمثيلية البرلمانيين، باعتبار مسؤوليتهم نابعة من الواجب الشرعي القائم على الرقابة الدائمة التي يمارسونها على أنفسهم وعلى غيرهم. - ثانيا، اعتبر العلماء أن قيادة الإصلاحات تعود إلى أمير المؤمنين، مشيرين إلى أن هذا الدور يندرج ضمن «وظيفته الشرعية في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وواثقين بأن هذه الإصلاحات ستأتي متوافقة مع ثوابت الأمة المتعلقة بالدين وإمارة المؤمنين. - ثالثا، انتقدوا ضمنيا الفاعلين السياسيين الداعين إلى مراجعة الفصل ال19 من الدستور وكذا حركة شباب 20 فبراير عندما اعتبرت أن إلغاء الفساد إذا كان مشروعا وطنيا فإنه يجب أن يطول الفساد الأخلاقي والعقدي، مشيرين إلى أن منطق الإصلاح لا بد أن يكون شاملا لا يقتصر على جانب الإصلاح السياسي والإداري فقط. - رابعا دعت هيئة المجلس الأعلى للعلماء إلى التشبث بإمارة المؤمنين «في وجودها الشامل وتفعيلها الكامل، واعتبارهم لها في الأمة بمثابة الروح من الجسد، شرط وجوب نابعا وسيبقى نابعا من سهرها المشهود في مجتمع آمن بالقيام بأولويات الشرع، وهي حفظ الدين وحفظ الأمن وحفظ ثمرات العمل وحفظ كرامة الإنسان المعبر عنها في الشريعة بالعرض...». يتبع... محمد لكموش - باحث في العلوم السياسية