من يتنكر لمرجعية المغرب الدينية الإسلامية، وقيام كيانها الموحد على أساس مفهوم إمارة المؤمنين سيسعى من حيث يدري أو لا يدري إلى فوضى لا يمكن التنبؤ بنتائجها الوخيمة على الدولة والمواطن المغربي على السواء، افتتحت المقال بهذه الفكرة حتى تساير القارئ في جل ما سيرد من استدلال نثبته بالدليل اللازم على ضرورة الإبقاء على مرجعية المغرب الدينية الإسلامية كقناعة تأطيرية، وإمارة المؤمنين كمؤسسة تنظيمية تسهر على تحقيق الوحدة والأمن في البلاد. لاشك أن الدول التي تعاقبت على حكم المغرب تبنت الإسلام دينا رسميا له أحكامه ونواحيه الروحية. فانتمى مجموع أو أغلب الساكنة إلى هذا الكيان الواحد، فكان الضامن لعدم التفرقة والشتات لأن الخطاب حينها سيكون موحدا، وبالتالي سيكون الاختلاف في الآراء مقبولا، بدل الخلاف المولد للطوائف المتطاحنة للوصول إلى فرض توجهاتها بالقوة المؤدية إلى الفتنة غالبا، وان ورد سؤال مقرره : أن لا وجود لسيادة دين يعتقد به كافة قاطني الوطن الواحد بل هناك اثنيات عدة فهل يسود دين على حساب المعتقدات الأخرى؟ سؤال يطرح استفسارا، ويطرح أيضا بديلا هو الالتجاء إلى القوانين والمواثيق الدولية كمرجعية يراد دسترتها في التعديلات الدستورية، ويأتي كخطاب لبعض الأطراف من دعوتها إلى سمو القوانين والمواثيق الدولية على القانون الداخلي، أمر يدعونا إلى التريث بدل المخاطرة، فالشواهد الحالية لما تعيشه بعض الشعوب العربية اكبر دليل على ما نقول، إن الإسلام مبنى في أساساته على احترام الآخر ومن مسماه تبدو دلالات كثيرة. فمنذ نشوء الدولة المغربية وعموم ساكنة المغرب لم تتقبل رغم وفود الإثنيات الأخرى سوى الإسلام اقتناعا به وبتعاليمه، وجوابا على دعوى من ينادي بتحكيم القوانين والمواثيق الدولية نرد سؤال من أي أيديولوجيا فكرية تم تشكيل هذه العقود والمواثيق الدولية ألم يكن للدين السماوي أو البلاغ السماوي- القرآن، الإنجيل، التوراة- دوره الأساس في الاستمداد منه؟ بهذا التوضيح نكون قد أقررنا بسمو القانون الداخلي والايديولوجيا الذاتية باعتبارها الأصل عن عداها، فإقرار المغاربة بمرجعية إسلامية لم يقف عند هذا الحد بل ربطوا مرجعيتهم الدينية بثنائية الاستدلال العقدي الأشعري والفقه المالكي زيادة في التوجيه ودعما لتوجه المغاربة إلى انتمائهم لمذهب أهل السنة والجماعة، وحتى نبين هذا الاختيار المذهبي بإيجاز، فالدين له جانبان فقه : أي مسائل العبادات : صلاة، صوم،... وعقيدة : بحث في قضايا الإيمان، واستيعاب لمسالة الإمامة لاعتبار أساس أن التاريخ الإسلامي تشكل حول مفهوم الإمامة وفي هذا يقول الشهرستاني : « ما أريق دم كما أريق على الإمامة »، فكان بعد نظر العلماء أن الأسلم للدولة أن تتبنى فقها واستدلالا عقديا محددا درءا للفتن والصراع الناشئ عن الاختلاف في الفهم والتأويل، أما اختيارنا لفقه مالك فهو مأخوذ من مكان الوحي ذاته - المدينةالمنورة. ولان وجهة التجار والحجاج المغاربة كانت تقصد المدينة، فكانوا يجدون في طريق رحلتهم فقه مالك، ولاهتمام الفقه المالكي بالنواحي السلوكية زاد تعلقهم به، والأكيد أن تعاليم الإمام مالك وافقت طباع المغاربة، هي أسباب ذاتية وأخرى موضوعية إذن اجتمعت لتؤسس اختيار المغاربة للفقه المالكي، وفي جانب العقيدة اختار المغاربة الاستدلال العقدي الأشعري لأمر أساس هو انتماء أبي الحسن الأشعري لاتجاه سني معتدل، ولأن الأشعري تاريخيا نجح في حل الخلاف بين المعتزلة والحنابلة في مسألة فكرية أدت إلى حدوث فتنة بين المسلمين، والأمر الأهم في هذا الاختيار أن المذهب العقدي الأشعري ينبني على مبدأ السلامة وعدم الخروج على الإمام طلبا للسلامة من الفتنة الكبرى، وهي دعوة نبثها قصد دسترتها ليس فقط المرجعية الدينية الإسلامية للمغرب بل حتى الالتزام بالفقه المالكي والعقيدة الأشعرية، تفاديا لأي اختراق مخالف لاختياراتنا. وفي مسألة إمارة المؤمنين فعجبي أن سيدة متخصص في مجال القانون وفي لقاء تلفزي - مباشرة معنا- يبحث في مسألة حقوق الإنسان في ارتباط بالإصلاحات الدستورية تصرح بالقول : « سترى في الديباجة الجديدة أن إمارة المؤمنين « طَارت » – أي حذفت- » ولم يعقب أحد ولم يرد أحد بعدها على زلة اللسان إن كانت، وعلى المصيبة العظمى التي تنتظرنا إن تم إلغاء مفهوم إمارة المؤمنين، ينطوي هذا الكلام ومثله على غلط في فهم معنى دلالة إمارة المؤمنين، لذا بدل التصريحات غير المسؤولة، سنعمل بالبحث العلمي على بيان المفهوم شرعا وقانونا. فموضوع الإمامة هذا من أدلة الترابط والتلازم بين الأحكام العقدية والفقهية، وإن كلاً منهما ملازم للآخر وقائم عليه. ولذلك فقد جعل الله عز وجل طاعة الأئمة والنصح لهم وعدم الخروج عليهم بغير مبرر شرعي من الطاعات التي يثاب فاعلها، ويعاقب تاركها بالعذاب الأخروي يوم القيامة. وحتى نتعرف على موضوع الإمامة سنحدد أولا دلالة مفهوم الإمامة والمفاهيم المرادفة له. الإمامة في اللغة مصدر من الفعل ( أمَّ ) تقول : « أمَّهم وأمَّ بهم : تقدمهم، وهي الإمامة، والإمام : كل ما ائتم به من رئيس أو غيره ». ويقول ابن منظور : « الإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين. . والجمع : أئمة، وإمام كل شيء قيَّمه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، وأممت القوم في الصلاة إمامة، وائتم به : اقتدي به. أما من حيث الاصطلاح : فقد عرفها العلماء بعدة تعريفات، وهي وإن - اختلفت في الألفاظ فهي متقاربة في المعاني، والمختار من هذه التعريفات ما ذكره ابن خلدون لأنه الجامع المانع في نظري، بقوله : « هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به ». وبيان ذلك أنه في قوله : (حمل الكافة) يخرج به ولايات الأمراء والقضاة وغيرهم، لأن لكل منهم حدوده الخاصة به وصلاحيته المقيدة، وفي قوله : « وعلى مقتضى النظر الشرعي » قيد لسلطته، فالإمام يجب أن تكون سلطاته مقيدة بموافقة الشريعة الإسلامية، وفيه أيضًا وجوب سياسة الدنيا بالدين لا بالأهواء والشهوات والمصالح الفردية، وهذا القيد يخرج به الملك. وفي قوله : « في مصالحهم الأخروية والدنيوية » تبيين لشمول مسؤولية الإمام لمصالح الدين والدنيا لا الاقتصار على طرف دون الآخر. وهكذا أخذت الإمامة معنى اصطلاحيًا إسلاميًا، فقصد بالإمام : خليفة المسلمين وحاكمهم، وتوصف الإمامة أحيانًا بالإمامة العظمى أو الكبرى تمييزًا لها عن الإمامة في الصلاة، على أن الإمامة إذا أطلقت فإنها توجه إلى الإمامة الكبرى أو العامة، كما أوضح ذلك ابن حزم رحمه الله. ويكون الترادف بين ألفاظ : الإمام والخليفة وأمير المؤمنين : وإلى ذلك ذهب العلماء فجعلوها من الكلمات المترادفة المؤدية إلى معنى واحد فيقول النووي : « يجوز أن يقال للإمام : الخليفة، والإمام، وأمير المؤمنين ». ويقول ابن خلدون : « وإذ قد بيَّنَّا حقيقة هذا المنصف وأنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به تسمى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإمام » ، ويعرف ابن منظور الخلافة بأنها الإمارة . ويفسر أبو زهرة الترادف بين لفظي الخلافة والإمامة بقوله : « المذاهب السياسية كلها تدور حول الخلافة وهي الإمامة الكبرى، وسميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي في إدارة شؤونهم، وتسمى إمامة : لأن الخليفة كان يسمى إمامًا، ولأن طاعته واجبة، ولأن الناس كانوا يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم الصلاة » أي يأتمون به، وقد كان الخلفاء هم الذين يتولون إمامة الصلاة خاصة الجمع والأعياد لكن لما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وضعفت الناحية العلمية عند الخلفاء، أخذوا ينيبون عنهم من يقومون مقامهم في إمامة الصلاة، وخطب الجمع والأعياد. كما يفسر سبب اختيار هذه الألفاظ : الإمام، والخليفة، وأمير المؤمنين بأنه : ابتعاد بالمفهوم الإسلامي للدولة ورياستها عن النظام الملكي بمفهومه القديم عند الأمم الأخرى من الفرس والرومان المختلف اختلافًا أساسيًا عن المفهوم الإسلامي الجديد. هذا وقد كان الخلفاء الأوائل يلقبون بالخلفاء كما يلقبون بالأئمة، ومنذ خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه- استعمل المسلمون لقب (أمير المؤمنين) فيذكر ابن سعد في طبقاته أنه لما مات أبو بكر رضي الله تعالى عنه وكان يُدْعَى خليفة رسول الله قيل لعمر : خليفة خليفة رسول الله، فقال المسلمون : من جاء بعد عمر قيل له : خليفة خليفة خليفة رسول الله فيطول هذا، ولكن اجتمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يدعى به من بعده من الخلفاء، قال بعض أصحاب رسول الله : نحن المؤمنون وعمر أميرنا، فدعي عمر (أمير المؤمنين) فهو أول من سمي بذلك .سمير الوصبي