عبد الوافي الحراق أعلن المجلس الوطني، ودعنا نسمي الأشياء بمسمياتها ونقول، أعلنت لجنة المقاولات الصحفية بالمجلس الوطني عن تنظيم حملات تحسيسية، تحث المواطنين والرأي العام على القراءة، ولنقل كذلك بشكل صريح، تحثهم على قراءة الجرائد. على اعتبار ان الصحف الورقية المكتوبة أمام قوة وجموح مد الإعلام الإلكتروني، لم يعد لها صدى في ساحة الرأي العام، وبالتالي انخفضت نسبة قراءتها إلى أدنى مستوياتها. فعمدت عبقرية اللجنة إلى حل أزمة قراءة الصحف عبر القيام بحملات توعوية، يقودها كل من الفنان الوالي رشيد وسمية اقريو، لإقناع المواطن على شراءها وقراءتها. حقيقة تمخض الجبل فولد فأرا، كنا ننتظر أن تجود علينا عبقرية لجنة المقاولات ببرامج وحلول، مرتبطة بحرية الصحافة وتأهيل المقاولة الإعلامية. وفتح حوار وطني حول آفاق المؤسسات الصحفية وتحديات المهنة، وتجويد إنتاج المحتوى الصحفي، وتوسيع خيارات الاستثمار والتوسيق في مجال الاتصال والإعلام. وكذا طرح إكراهات القوانين المتصلة بمدونة الصحافة والنشر، وقانون الشغل ومدونة التجارة وقانون المنافسة وتكافؤ الفرص. وإشكالات الدعم العمومي، وحصص الاستفادة من الاعلانات العمومية والاشهارات. وغيرها من القضايا التي تعتبر من اولويات الاولويات. لكن يبدو أن القيمين على هذه اللجنة بالمجلس الوطني لا يعانون ايا من هذه القضايا، اللهم قضية القراءة. التي كانت توفر لهم دخلا إضافيا، علاوة على ما تمنحه لهم الدولة من دعم يصل الى سبعة ملايير، واشهارات واعلانات تتجاوز مبالغها الدعم العمومي للدولة. علما أن هذه الملايير التي تتلقاها المقاولات الصحفية من الدولة، لا تنعكس على الصحفيين الأجراء، الذين يعاني أكثرهم أوضاعا اجتماعية هشة. منهم من لا يملك حتى سكنا لائقا، ومنهم من يكابد من أجل تسديد نفقات تعليم أبناءه. في مقابل وضعية مدراءهم (باطرونا النشر)، الذين ينهمون بشراسة هذه الملايير باسم المقاولات، ويعيشون في فيلات فخمة، ويركبون اخر موديلات السيارات الحديثة، ويدخنون أغلى السكارات الكوبية. بل منهم من يعيش الثراء الفاحش، حتى أنه لا يجد سبيلا لتدبير المال الفائض الذي تمنحه له الدولة إلا عبر سكبه في نوادي الكازينو والقمار. بدل من تقسيم هذا المال على (أولاد الشعب) زملاءه في المهنة العاملين لديه. خاصة وأن هؤلاء الزملاء هم من يتحملون عبئ إنتاج المحتوى الصحفي لجرائد مقاولاتهم، بحثا وإعدادا وتحريرا ونشرا. ومنهم من يكتب حتى افتتاحيات لمدراءه. والواقع أن عبقرية تنظيم حملات تحسيسية من أجل التشجيع على قراءة الصحف، التي أعلنت عنها لجنة المقاولات بالمجلس الوطني، هي عبارة عن أنشطة جمعوية لا ترقى الى مستوى هيئة وطنية، تأسست من اجل التنظيم الذاتي لقطاع الصحافة. وما أدراك ما حجم وهول اسم هذا التنظيم، الذي ملأ الساحة الإعلامية بصداه الرنان، حتى أسقط ذويه مؤسسة قطاع حكومي بأكمله. في حين ان صاحب الفكرة العبقرية للقراءة، لم يستوعب جيدا الأفق والتوجه والبعد الاستراتيجي، الذي تسعى إليه الدولة من خلال إنشاء مجلس وطني للصحافة والنشر. نحن جميعا مع الدعوة إلى القراءة، لكن مثل هذه الدعوات تبقى حصرا على هيئات جمعوية. وتلعب فقط أدوارا إشعاعية لتحفيز حس القراءة، من قبيل تنظيم قوافل المعرفة للجميع بالمؤسسات التعليمية، وحافلات متنقلة تحمل كتبا للقراءة بالأحياء والساحات العمومية. بل هذه الأنشطة تشمل حتى الفترات الصيفية، من خلال نصب مكتبات بالشواطىء، عبارة عن سفن للقراءة. هذا فضلا عن أنشطة شبيهة تقام بالحدائق والفضاءات الخضراء. ولكن فاقد الشىء لا يعطيه، هذا مبلغ المستوى العلمي والإبداعي لمن جادت عبقريتهم بفكرة حل أزمة الجرائد الورقية، بتحفيز المواطن إلى شراءها وقراءتها. ويتضح من خلال مبادرتهم هاته، أن اهتمامهم وتفكيرهم، كمسؤولين عن لجنة المقاولات الصحفية، منصب بالأساس على الصحف الورقية فحسب، بهدف إعادة بريقها على مستوى المشهد الإعلامي. معتقدين جهرا، أن الصحافة الإلكترونية هي المتسببة في إخفاق بريق جرائدهم، وتدني نسبة مبيعاتهم وتقليص عدد قراءهم. وأنها سلبتهم الريادة والسبق في الحصول على المعلومة، وسرعة تحرير الخبر وقوة التوزيع والنشر. وبدل من العمل على إيجاد حلول ناجعة واستراتيجيات مقنعة، والبحث عن الأسباب الحقيقية لهذا التراجع في الريادة، لجأ أصحاب المقاولات الصحفية المكتوبة إلى مهاجمة الصحافة الإلكترونية. والتباكي والعويل على الدولة، على اعتبار أنها ضحية هذا المد التكنولوجي للاتصال والإعلام. وكانوا قد اقترحوا في السابق على وزارة الاتصال سابقا، لحل أزمتهم مع القراءة، أن تشتري منهم الدولة نسخا من مرجوعات صحفهم المطبوعة، وتوزيعها على المرافق العمومية ومراكز الرعاية الاجتماعية والمؤسسات السجنية. وكنا حينها قد تساءلنا : كيف للدولة أن تدعم شركات الصحافة الورقية بالملايير لمساعدتها على تكاليف الطبع، ثم تشتري منها في الآن ذاته مرجوعات مطبوعاتها،؟ أي نسخ الجرائد التي لم يتم بيعها. وتساءلنا كذلك عن حجم ردود الفعل الغيرالمحمودة التي ستخلفه هذه العملية على مستوى الرأي العام والخاص، الذي أصبح مختنقا ومتذمرا من مثل هذه السلوكيات المهدرة لأموال الشعب. وهو الموقف ذاته، الذي يسري على التداعيات والانتقادات المتعلقة بالحملة التحسيسية حول التحفيز على القراءة. وبغض النظر عن أنها مكلفة أو مجانية، فغالبية الرأي العام المهني، لم يتفاعل معها، على اعتبار أنها مبادرة خجولة، لا تليق بهيئة مهنية بحجم المجلس الوطني للصحافة والنشر. والواقع أن إشكالية الصحافة الورقية ومعالجتها تبقى وقفا على مؤسساتها الناشرة. وتدخل الدولة لا يعدو تدخلا جزئيا، وليس كليا. بمعنى أن هذه الأخيرة، لا يمكنها التكفل بحل الاشكالية وحدها وبرماتها. كما أن أزمة قراءة الصحف لا ترتبط بالدعم المالي وحده. فالأمر يعود في المقام الأول إلى أصحاب المقولات الصحفية المكتوبة، لاتخاذ تدابير أكثر مسؤولية وواقعية ووضع استراتيجيات سديدة وفعالة. ترتبط أساسا بإعادة صياغة التصور العام للمشهد الإعلام المكتوب، وتحديث المحتوى وملاءمة إنتاجه مع متطلبات ثقافة العصر، والتكيف والتفاعل مع التطور التكنولوجي لوسائل الاتصال والإعلام الراهنة. فلكل جيل زمنه. وكل وسيط جديد يميل إلى احتكار المعرفة. دون المساس بالوسائط السائدة والمكتسبة قبله. فعند ظهور الكتابة لم يمت التاريخ الشفهي، بل ظل قائما إلى حد اليوم. ولما اكتشف غتنبرغ المطبعة لم تندثر المخطوطات، حيث بقيت مفضلة لدى بعض الأدباء والكتاب والقضاة قديما، وربما مازال العمل بها حديثا لدى الموثيقين والعدول، لاسيما في القرى والمجتمعات القبلية. واعتقد أن الخزانات العالمية والوطنية مازالت تعج بهذه الكنوز الخطية. و اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي لم ينل من إبداعات الفنون التشكيلية والجميلة. كذلك التلفزيون لم يقصي المذياع الذي بالرغم من ملايين القنوات الأرضية والفضائية والإلكترونية مازال لحد الآن، حاضرا وشامخا بحيويته وعنفوانه. كما أن مجيء الأنترنيت بدورها لم تلغي التلفزيون والسينما. وكذلك الكتاب الرقمي لم يدحض الورقي. والدليل على ذلك الاقبال الكبير الذي تعرفه معارض الكتب، الدولية والإقليمية والوطنية والجهوية. وفي مقدمتها المعرض الدولي للكتاب الذي تنظمه وزارة الثقافة بالدار البيضاء. لذلك كان على لجنة المقاولات بالمجلس الوطني قبل إقبالها على أية مبادرة، أن تهيأ تقريرا مفصلا وتقييما شاملا، حول أوضاع المقاولة الصحافية بمختلف وسائلها، وتعرضه على كافة الهيئات المهنية. ومن ثمة معرفة الأسباب الحقيقة وراء تدهور المؤسسات الإعلامية، وطرح الاقتراحات والحلول الممكنة. ووضع برامج سنوية شاملة، وخطط أعمال تشاركية ومندمجة، تستجيب لجميع الأطياف العاملة في قطاع الإعلام. ومنه معالجة وطرح تدني معدل قراءة الصحافة المكتوبة ومبيعاتها. وإلى حين انعقاد حوار وطني تحت إشراف المجلس الوطني، حول إكراهات وتحديات المقاولة الإعلامية المكتوبة والرقمية، فإننا سنعمل على تقديم بعض المقترحات ومشاريع الحلول المتعلقة بالصحف الورقية في الجزء الثاني من هذه المقالة.