صارت بعض الجمعيات النسائية المغربية، التي ترفع شعار الحداثة والتحرر، تطالب في الآونة الأخيرة بتعديل قوانين الإرث وحذف التعدد بشكل نهائي وعدم العمل به في المجتمع المغربي، باعتبار أنهما يشكلان حيفا وجورا إزاء المرأة، وتمييزا بين الذكور والإناث وعدم المساواة بين الطرفين، وفق رؤية هذه الجمعيات التي تجد لها نصيرا ومساندا في العديد من نساء المجتمع خاصة من بعض المثقفات والنساء المشتغلات في بعض الأحزاب السياسية والصحف والمجلات.. وتصدى لهذه المطالب والدعاوى الكثير من المتخصصين والعلماء الذين فندوا تلك النداءات النسائية بالدليل من القرآن والسنة والبرهان من الواقع المعاش أيضا، خاصة أن بعض الجمعيات والمنظمات النسائية تنظر إلى الأحكام الشرعية في مجال الإرث، على سبيل المثال لا الحصر، بنفس منظورها لأي إنتاج بشري آخر من حيث النسبية والتطور المستمر الخاضع لتحولات المكان والزمان. مطالب نسائية.. وتلاحظ بعض الجمعيات النسائية، التي تنشط بشكل بارز داخل المجال الحقوقي والنسائي بالمغرب، بأن التعدد أصبح ظاهرة واضحة في الحواضر بالأساس، حيث طالبت الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة مثلا بالتحري واليقظة قبل الاستجابة لدعاوى ثبوت الزوجية للحيلولة دون استعمالها للتعدد، كما أوصت "بحذف التعدد من قانون الأسرة نظرا لعدم احترام المبرر الموضوعي الاستثنائي ولاستمرار خرق القانون حيث لم تنفع كل الاحتياطات المتخذة من طرف المحاكم للحد من التلاعب بمقتضيات قانون الأسرة المتعلقة بالتعدد"، و "حتى لا يبقى القضاء معرضا لفرض الأمر الواقع من طرف الراغبين في التعدد"، وأيضا "انسجاما مع روح وفلسفة قانون الأسرة المبنية على العدل والمساواة ورفع الضرر"، على حد تعبير بيانات هذه الجمعية النسائية. وبالنسبة لمسألة الميراث، ترى الجمعية أن "شروط الحياة والعيش لعدد من الفئات الاجتماعية في المغرب عرفت تغيرات هامة عما كان عليه الأمر في القرون الماضية. وأدى تغير شروط الإنتاج والدخل إلى تحولات عميقة على هذه الفئات وخاصة منها المرأة التي خرجت إلى العمل بشكل قوي ولم تعد تكتفي بما كانت تقوم به عادة في ميدان الفلاحة بل أصبحت تساهم في الإنتاج في كافة المجالات، وتعتمد أسر عديدة على دخلها، و لم تعد العائلة أو العشيرة تتكفل بالنساء كما كان في السابق و أصبحت الأسرة النووية لا تهتم إلا بمكوناتها . وتضيف هذه الجهات المطالبة بتعديل بعض قوانين الإرث بأن "هذا التحول العميق لم يواكبه أي تغير يذكر على صعيد الإرث. إذ بقي مطابقا للشروط التي كانت فيه الثروة في إطار العائلة الكبيرة بل أحيانا في إطار العشيرة، بينما الآن ظهرت الأسرة النووية وأصبح عيشها متوقفا بالأساس على الزوجين". وطالبت ناشطات نسائيات أخريات بإعادة النظر في مبدإ للذكر مثل حظ الأنثيين "، واعتبرنه مبدأ ليس مستحيلا، بل "من الممكن خوض النقاش حول هذا المبدإ، سواء من الزاوية الفقهية أو الاقتصادية أو الاجتماعية". وأضافت إحداهن في تصريحات صحفية أنه حتى لو اعتبر البعض مسألة للذكر مثل حظ الأنثيين " نصا قطعيا ومذكورا في القرآن، فإن "ثمة أشياء أخرى مذكورة، وليس وحده الإرث المذكور في القرآن، إذن لابد من مناقشة التوازن بين الأحكام المنصوص عليها في القرآن وبين المقاصد والظروف المحيطة بها. رد العلماء وتصدى لهذه الدعوات والمطالب النسائية الجديدة ثلة من العلماء والدعاة والمجالس العلمية، حيث أصدر حينها المجلس العلمي الأعلى بالمغرب، وهو أعلى هيئة علمية وإفتائية بالبلاد، بلاغا وصف فيه دعوة بعض الهيئات النسائية المغربية بتعديل أحكام الإرث حتى تتحقَّق المساواة بين الرجل المرأة بأنها دعوة "تدلُّ على جهل أصحابها المُريع بالشَّرْع الحنيف، وسوء فهمهم لأحكامه، وعدم تمييزهم بين القَطْعِيّ من الدِّين الذي لا يقبل المراجعة بحالٍ، وبين ما يَدخُلُه الاجتهاد بشروطه ويتولاه أهله". ورأى علماء ودعاة مغاربة أن مثل تلك المطالب تعتبر محاولة للخروج عن الشريعة الإسلامية لأن قضايا الإرث خاصة أحكام التعصيب مرتبطة بالكتاب والسنة، وأن تجاوز ذلك "يُعد تغييرا للشريعة وليس اجتهادا، والأخير له ضوابطه وشروطه المحددة من طرف العلماء". ونبه غير واحد من هؤلاء العلماء إلى كون "منهجية الجمعيات النسائية ذات الخلفيات العلمانية معروفة، فهي تقفز من مطلب إلى مطلب، وكلما حققت مطلبا إلا ولجأت إلى مطلب ثان، وهكذا حتى تحقق مآربها المُخطط لها مستخدمة في ذلك شعارات مطالب وحقوق المرأة". ورأى الدكتور مصطفى بنحمزة، رئيس المجلس العلمي لوجدة وعضو المجلس العلمي الأعلى، في هذه الردود بأنها "محاولة للعودة بالمغرب من جديد إلى حالة التوتر والاحتقان، وأنها "مطالبة تواجه نصوصا قرآنية واضحة وجلية، حسمت قضية الإرث، ولم تفوضها إلى أي إنسان كائنا من كان". وزاد بنحمزة بأن المطالبات النسائية " تأسست على جهل كبير بأحكام الإرث، وعلى توهم خاطئ لإمكانية العبور إلى إلغاء نصوص قطعية من القرآن، كما أنها قد انبنت على جهل كبير بالذهنية المجتمعية التي لا تعدم حلولا لإجهاض أحكام، تراها معتدية على أحكام الشريعة الإسلامية". واستغرب بنحمزة من كون مدونة الأسرة "طافحة بالكثير من الأحكام التي تنفرد بها النساء دون الرجال، أو ينفرد بها الرجال دون النساء، ومع ذلك لا يقع التركيز إلا على قضية الإرث بالذات"، مبرزا أنه "ليس لهذا من تفسير إلا أن تكون الدعوة إلى المساواة في الإرث، مؤسسة على الإغراء بالحصول على المال في حال الوصول إلى تغيير حكم الشرع في الإرث". خلفيات عقائدية خطيرة ومن جانبه، يؤكد الدكتور محمد بولوز، الباحث في العلوم الشرعية والاجتماعية، أن ما يجعل أطروحات الحركات النسائية العلمانية بخصوص موقفها من الإرث وتعدد الزوجات مرفوضة من وجهة نظر الشرع، كون مطالب تلك الحركات لها خلفيات عقائدية خطيرة. ويشرح بولوز ذلك بالقول: تنظر هذه الحركات النسائية العلمانية للأحكام الشرعية بنفس منظورها لأي إنتاج بشري آخر من حيث النسبية والتطور المستمر الخاضع لتحولات المكان والزمان ، فلا يوجد في قاموسها تمييز بين النص الشرعي وكلام الناس، مردفا أنها تعتبر أحكام الدين في أحسن الأحوال قد استنفذت أغراضها بتأطيرها لمشكلات وقضايا زمانها، ولم يعد لها كبير صلة بمشكلات وقضايا الناس اليوم.. ويعتبر بولوز أنه نظرا لصعوبة مواجهتها الجذرية والشاملة للأحكام الشرعية، فهي تجزئ معركتها وتسقي الأمة من علقمها جرعة جرعة، فعندنا في المغرب أقامت تلك الحركات الدنيا على شرط الولي في الزواج وزواج بنت الخامسة عشرة ومسائل في الطلاق وغيرها، ودعت إلى تقييد التعدد، حتى إذا تحقق لها ما تريد انتقلت إلى مواقع أخرى تروم منع التعدد بشكل شامل وإحداث ثغرة في جدار الإرث، بطرحها لقضية حرمان العصبة واستئثار ذوي الفروض بالتركة، ليتوالى بعد ذلك تفكيكها للبناته لبنة لبنة". ويستطرد الباحث الإسلامي بأن هذه المنظمات النسائية تؤمن بسمو القوانين الغربية التي يشاع زورا أنها دولية وعالمية على كل التشريعات الأخرى بما فيها أحكام الشريعة الإسلامية، وجعلت من نفسها وكيلة الغرب في ديار المسلمين، تصرف قوانينه فينا شيئا فشيئا باسم الحداثة، وترفع في ذلك تقارير تبرر بها ما يمنح لها من أموال، وما يبذل لها من منافع وفق جداول زمنية محددة وأهداف مسطرة". عجز الثقة ... ويؤكد د. محمد بولوز للقران بأنه رغم ما اشتهر من تنازل جهاز التشريع بالمغرب واستجابته لعديد من مطالب تلك الحركات النسوية العلمانية، فإنها لا تزال مستمرة في مطالبها، وهاهي مرة أخرى تنادي بحذف التعدد من قانون الأسرة بحجة عدم احترام المبرر الموضوعي الاستثنائي الذي ورد في مدونة الأسرة، ولاستمرار خرق القانون حيث لم تنفع كل الاحتياطات المتخذة من طرف المحاكم للحد من التلاعب بمقتضيات قانون الأسرة المتعلقة بالتعدد. ويستغرب بولوز: "كأن الحل الأمثل المعتمد في الحياة، هو التخلص ومنع كل شيء تم سوء استغلاله، والواقع أن التعدد أصبح نادرا جدا ومقننا جدا حتى لا يكاد يتمكن منه إلا الأفراد من الناس، وهو ما تقوله الإحصاءات الرسمية بحيث لا يتعدى 900 في العام، ولا يشكل مشكلا معتبرا في البلاد، بينما الميوعة والانحلال وتعدد الخليلات والخلان والخيانة الزوجية لا يتحدث عنها أحد ولا يحصيها أحد، ولا يراد أن يعرف عنها شيء؛ وهي أوضاع تخلف ضحايا من النساء لا حقوق لهن مادية أو معنوية ولا يعترف بموالدهن إن أفلتوا من الإجهاض والقتل السري". ويضيف المتحدث بأنه يستحضر ما قاله الشيخ محمد التاويل، من علماء المغرب، حيث استغرب من مطالب الحركات العلمانية النسوية بخصوص الإرث، في حين أن قانون الإرث عند اليهود مثلا – كما قال- يهضم حقوق النساء بشكل واضح، ورغم ظلمهن، نساؤهن لا يشتكين، فالمرأة اليهودية إذا تزوجت في حياة أبيها لا ترث شيئا، لا قليلا ولا كثيرا، ونفس الأمر بالنسبة للأم لا ترث شيئا. وفي الأخير، يلفت بولوز الانتباه إلى مسألة غاية في الأهمية، تمثل في كون " هؤلاء النسوة يتمتعن بكثير من الأمور من جَلَد وصبر وإصرار ومثابرة في باطلهن، ويعملن له بنفَس طويل ومن خلال مؤسسات ومراكز أبحاث يوجهن الطلبة إلى الأبحاث الميدانية، ويعتنين بالإحصاءات الدورية ويجزئن مقاصدهن الكبرى إلى أهداف صغرى ومطالب متدرجة، لكن يقابل كل ذلك في صفوف العلماء ونساء الصحوة الدينية حماسة من الردود المؤقتة وفوران لحظي، ثم يعود كل واحد إلى الانغماس في همومه الصغيرة، فلا استمرار ولا إصرار ولا نظر عميق يعطي للناس ما لهم قبل أن ينتزعوه باسم الحداثة والتقدم والتحرير".