فجأة وبدون مقدمات، كادت "عشرة العمر" بين عمي عبد الرزاق وعمي أحمد أن تصبح "في خبر كان" بعد إغلاق الحدود البرية بين المغرب والجزائر. لم تنقطع حبال الود بينهما وإن انقطع الإتصال المباشر بعد إغلاق الحدود بين البلدين منذ 17 سنة. وفي برنامج "جاك المرسول"، الذي عرض مؤخرا على القناة المغاربية، طلب عمي عبد الرزاق أن "يرى" ("يرى"..هكذا..مجرد "رؤية") عمي أحمد، المغربي القح الذي ناضل ضد الإستعمار الفرنسي وحمل بين ضلوعه هم الوحدة والتقارب بين شعوب ودول المغرب الكبير، شأن رفيقه الجزائري. جاء عمي عبد الرزاق إلى استديو برنامج "جاك المرسول" وصور ذكريات الطفولة والشباب، بل والكهولة، تنثال على مخيلته حين كان وصديقه يعيشان معا.. هنا في المغرب وهناك في الجزائر. وحين اكتشف عمي أحمد أن صديق عمره عمي عبد الرزاق هو من وجه إليه دعوة اللقاء، هناك في تونس، أجهش بالبكاء. انسابت الدموع على خده تقول ما تعجز عنه قرائح الشعراء مجتمعين. وانطلق لسانه يسأل عن تفاصيل حياة صديقه الصغيرة، سأل عن الذين فارقوا الحياة وأولئك الذين لا يزالون أحياء يرزقون، كأيما رجل يسأل قريبه عن حال الإخوة والأبناء. كانت الصورة أعمق وأدق وأصدق من كل الكلمات. عمي عبد الرزاق، الذي يبلغ من العمر 85 سنة، جزائري قح، ناضل طويلا من أجل استقلال بلاده وحمل، منذ نعومة أظافره، آمال الشعوب المغاربية في الوحدة." آه، كم ذا تخون العبارات حين نستدعيها لتترجم ما تنوء بحمله الجبال وتحمله الصدور راضية أو مكرهة!" هكذا قال لسان حال عمي عبد الرزاق ما لم يقله لسان اللحم والشحم. سكت الشيخ الوقور.. مكره لا بطل.. وطالع وجه صديقه أحمد مليا قبل أن يناديه "حميدة ..الله..الله..الدنيا تفرق والموت تفرق". هكذا، بعد ما يناهز العقدين من "الفراق"، بعد إغلاق الحدود، وجد نفسه مع صديقه وجها لوجه. لم تنقطع الزيارات بين الرجلين قبل ذلك. من وجدة إلى تلمسان ومن تلمسان إلى وجدة جيئة وذهابا. وفي مشهد مؤثر للغاية، أفصحت الدموع المنسابة على خدي الشيخين الوقورين عن المشاعر الإنسانية النبيلة حين تعبر بصدق عن مكنون الصدر وما يعتلج بين الجوانح. هل بعد الدمعة حين تترقرق في العين، تنحدر خجلى على الخد، من كلام? بدأت قصة الرجلين في الأربعينات من القرن الماضي حين كانا لا يزالان في يفاعة الشباب. وانصهرت روحاهما في بوتقة واحدة وقد ربط على قلبيهما رباط الصداقة وهموم الكفاح ضد الإستعمار الفرنسي ثم ازدادت تلك الروابط متانة وقد كبر الأولاد وتزوجوا وصارت صداقة الرجلين، المغربي والجزائري، صداقة أسرتين وعائلتين. قال عمي أحمد، بنبرة أسى عميقة، إن صديقة الجزائري طلب منه أن يقف قبالة الحدود بين البلدين، في السعيدية، ل`"يرى" كل منهما صاحبه. وعقب عمي عبد الرزاق أنها "عجوبة" (والكلمة فيما يبدو صيغة مبالغة للتعبير عن "التعجب") أن تفصل 60 كيلومترا بين بيتي الرجلين ولا يستطيع أي منهما معانقة صاحبه. ولئن أعوزتهما البلاغة اللفظية أحيانا فقد كان حديثهما العفوي والبسيط عن روابط التاريخ والجغرافيا التي تلحم الشعبين أبلغ من كل بلاغة. قالا إن "الصلة بين المغرب والجزائر كبيرة" وإن المغرب الكبير "واحد". هكذا، بلا تقعر في الألفاظ ولا تزويق. وإذا كان المغرب (الرسمي والشعبي) دعا، ويدعو، إلى إعادة فتح الحدود بين البلدين فإن رسالة الشيخين الثمانيين واضحة لا غموض فيها: "لئن أوقف إغلاق الحدود البرية حركة المرور بين البلدين فإنه لا يستطيع، بحال، أن يوقف تدفق مشاعر الصداقة والإخاء بين الشعبين".