إنجاز: محمد العناز بنعيسى بوحمالة أستاذ جامعي وناقد.. واحد من الذين خبروا واحات وأسرار القصيدة المغربية، وكذا العربية، المعاصرة وصاحبوها عن طريق مواكبة منجزها بالنقد والقراءة والعبور بها إلى لغات أخرى. شعريّة لغته النقدية تخطّت الحدود الوهمية بين الشعري والنقدي وعبرت جغرافيات متعدّدة. يحلم كثيرا بوضعية تفرّغ تامّ للكتابة والتّعاطي معها بمزاج صاف، أي امتهانها على نحو ممنهج والعيش من مردودها رغما من معرفته المسبقة بتعذّر تحقيق حلمه هذا في ظل الشروط الثقافية والتّرويجية الهشّة للمكتوب في العالم العربي. له مشاركات في العديد من الملتقيات النقدية و الثقافية المغربية و العربية و الدولية.. صدر له: «النزعة الزنجية في الشعر السوداني المعاصر: محمد الفيتوري نموذجا» (2004) و «أيتام سومر.. في شعرية حسب الشيخ جعفر»، في جزئين، (2009)، كما ساهم في كتب جماعية حول الشعر المغربي والعربي والعالمي نشرت بالمغرب وخارجه، وأنجز دراسات حول تجارب شعراء عرب ومغاربة معاصرين، كبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وسعدي يوسف وصلاح نيازي وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش ومحمد عبد الحي وقاسم حداد ورفعت سلاّم وحلمي سالم وأمجد ناصر وسيّد جودة وأحمد المجّاطي ومحمد السرغيني ومحمد بنيس ومحمد بنطلحة وحسن نجمي وياسين عدنان ومحمد غرافي..؛ ونازك الملائكة وآمال الزهاوي وأحلام مستغانمي ومليكة العاصمي وخلاّت أحمد وظبية خميس وسعدية مفرّح..؛ وإلى جانب اهتمامه بالنقد الشعري يولي بوحمالة عناية لترجمة الشعر بحيث سيترجم منتخبات شعرية للألماني بول سيلان والفرنسيّين إيف بونفوا وسيرج بّي والبلجيكي جيرمان دروغنبرودت والإيطالية دوناتّيلا بيزوتي والكرواتية لانا ديركاك والسلوفاكي جوراس كونياك.. مثلما قدّم و ترجم جزئيا كتابا جماعيا بعنوان «البحر الأبيض المتوسط.. ضفّة من تلقاء أخرى» يضمّ نصوصا منتقاة لشعراء وقاصّين ومسرحيّين وموسيقيّين وسينوغرافيّين وغيرهم من المبدعين المنتمين إلى بعض الدول المتاخمة للبحر الأبيض المتوسط كفرنسا وإسبانيا وإيطاليا واليونان..؛ مثل أليم سور غارسيا، نينا فينيتسانو، أمينة سعيد، كارلوس غراسا تورو، سيرج بّي، سلافين ماركو بيروفيتش، وأندري نيتون. سيصدر له قريبا، عن إحدى دور النشر العربية، كتاب «شجرة الأكاسيا» في نقد الشعر. { بدأت شاعرا تنشر نصوصك الأولى في الملاحق الوطنية، لكنك سرعان ما تخلّيت عن ممارسة غواية الشعر ووجّهت مجهرك نحو مساءلة المنجز الشعري المغربي والعربي والعالمي نقدا و ترجمة، فهل هذا التحول رهين بعدم نجاحك كشاعر أم أن جغرافية الشعر لم تعد تستوعب أحلامك.. أم أن اهتمامك بنقد الشعر وترجمته هو جزء من ممارستك للفعل الإبداعي باعتبار أن النقد والترجمة لهما شكلان إبداعيان بوجه من الوجوه ؟ دعني أقول، بداية، بأني كنت مقتنعا، شديد الاقتناع، و لمّا أزل كذلك، بأنه لا وجود لممارسة فنيّة، ومنها الممارسة الشعرية، بمعزل عمّا يتواطأ عليه بالموهبة أو الاستعداد القبلي. فالموهبة هي المنطلق أمّا مدرج التّتويج فهو المعرفة المثابرة والخبرة المكتسبة والاقتدار على التطوير والإضافة، ولولا هذا لما كان للآداب الإنسانية أن تغنم مخيّلات شعرية هائلة، من عيار هوميروس وامرئ القيس وأبي الطيب المتنبي ودانتي أليغيري وإيزودور لوكاس لوتريامون وآرثور رامبو وطاغور ووولت ويتمان وبول سيلان وميغيل هرنانديث وسيزار فاييخو وروبيرتو خواروث وإيمي سيزير وبيي ضاو وأدونيس وصلاح عبد الصبور وصلاح ستيتيّه..؛ إلى آخر قائمة البّانثيون الشعري الخالد. وإذن لأقل بأنّي وأنا أستنصت النّبض الخفيّ لكياني في بواكير العمر الطازجة والملتبسة وجدتني أميل إلى الصمت والعزلة واستبطان الأشياء، بدل التّحديق فيها.. تماما كأيّما تموقف شعري إزاء مظاهر الوجود و مجرياته. ثم حصل أن أخذ هذا القدر الشخصي يتغذّى، و بالتالي يتقوّى، من خلال قراءاتي النّوعية في تلك السّن، أساسا ل «إلياذة» و»أوديسة» هوميروس.. لتحفة «ألف ليلة وليلة»، وكذا عبر إدماني مشاهدة الأشرطة السينمائية الميثولوجية، الهوليودية والإيطالية، فكان أن عرفت مفاعيل هذه الاعتمالات التلقائية ترجمتها الكتابيّة في قصيدتين اثنتين، إن صحّ لي نعتهما بنعت جسيم كهذا، ملؤهما البوح والتعبير الفائر عن انفعالي بالعالم آنئذ. وبتحفيز من الشاعر الصديق علال الحجّام سأبادر إلى نشرهما بجريدة «العلم» المغربية، فكانتا بذلك بداية العهد، وآخره في آن معا، بالممارسة الشعرية التي تفترض مؤهّلات أدائية أكبر وأعقد ممّا كان بحوزتي وقتئذ. وفي هذا المضمار، وإن نحن استأنسنا بسير بعض النقاد المحترفين فسنلاحظ ارتهانهم بالكتابة الشعرية في لحظة من لحظات مسارهم النقدي المكرّس. تلك كانت، مثلا، حالة الناقد الفرنسي سانت بوف، أحد الأساتذة الروحيّين لطه حسين، وإليوت وهنري ميشونيك..؛ في النقد الغربي، وحالة عباس محمود العقاد وعز الدين إسماعيل وكمال أبو ديب..؛ في النقد العربي الحديث، هذا ناهينا عن نقّاد عرب قدامى، كأبي هلال العسكري وحازم القرطاجني، بل وإن نحن وسّعنا، نسبيا، الدائرة فلسوف نلقى هذا الملمح الدّال حتى في سير فلاسفة خلّص لم يمنعهم اشتغالهم الفلسفي الصارم من التّحرش بالشعر، كأفلاطون وفريدريش نيتشه وكارل ماركس..؛ وعليه فإن كنت قد أعفيت نفسي، أو القصيدة هي التي أعفتني لا فرق، من متطلّبات ومكابدات لا تحصى (لنا عبرة، بصدد هذه المسألة، بالشاعر النمساوي الكبير راينر ماريا ريلكه الذي سيقضّي زهاء عشر سنوات وهو يكابد محنة كتابة ديوانه المزلزل «مراثي دوينو»)، فإن حساسيّتي الشعرية المتجذّرة ستنمّي لديّ، كنوع من الاستعاضة، خصلة قراءة الشعر فيما توالى من سنين وتقتادني، كنتيجة، إلى تصريف فائض علاقتي القرائية بقصائد ومتون في هيئة مقاربات نقدية وترجمات شعرية ما فتئت تجذّر هذه الحساسيّة وتوطّد انشدادي إلى فضاء هذا الجنس التعبيري الفاتن والشّائك. { باعتبارك مارست القصيدة وخبرت بعضا من أسرارها وتمرّست بدروبها العصيّة، إلى أيّ حدّ يحضر فيك الشاعر أثناء عملية النقد ؟ هل تستطيع الفصل بين ذائقتك الشعرية وثقافتك النقدية، أم أنك من دعاة التوفيق بين الذوق و سؤال المنهج ؟ عن ممارسة الكتابة الشعرية دعني، ثانية، أدقّق بأن الأمر لم يتعدّ حدود قصيدتين اثنتين، و من ثمّ سيكون ضربا من المجازفة أن أتحدث، بوثوق واطمئنان، عن أسرار القصيدة ودروبها العصيّة لأن هذا لن تكفله، فيما أرجّحه، سوى الدّربة المستديمة والتراكم الفعلي. مقابل هذا فأنا لا أستطيع، حقّا، الفصل بين ذائقتي الشعرية وثقافتي النقدية. وفي هذا الإطار اسمح لي بأن أرتجع، نسبيا، إلى الوراء.. إلى سني التحصيل الجامعي لمّا أخذت في التعرّف، عن قرب، على النقد العربي، القديم منه بخاصة، و ذلك لأن المقرّرات الجامعية كانت تنحاز، حينئذ، إلى ما هو قديم، في حين لن يتاح لي أن أستكشف في خانة النقد العربي الحديث سوى معارف ضيقة وضحلة تتصل بطه حسين وميخائيل نعيمة وشوقي ضيف ومحمد مندور. و لربّما هي مصادفة خلاّقة، بقدر ما تنصبّ رأسا في حساب حساسيّتي الشعرية، المومأ إليها قبل برهة، تتجاوب كذلك مع تطلّعي الصميم إلى مدّ جسور قرائية مبتكرة ومنتجة مع النص الشعري، تلك التي هيّأت قراءة مقالات نقدية متفرّقة لكلّ من الناقد المصري أنور المعداوي والشاعر والمفكر الإسباني ميغيل دي أونامونو (من جيل 1898 الإسباني)، مصادفة لن تتأخر عن استفحالها الأرقى ساعة أمدّني صديق من جيلي كان طالبا، حينها، بشعبة الأدب الفرنسي بكلية الآداب بالرباط بكتاب «درجة الصفر في الكتابة» للناقد الفرنسي الجميل رولان بارت. وإذن بفضل المعداوي (الذي ظللت رغما من فضله الرمزي عليّ، و ياللمفارقة، أنطقه، مذ تعرّفت على صوته النقدي المائز، بتسكين العين و نصب الدّال مخفّفة إلى حدود العام الماضي لمّا سمعت الصديق الشاعر رفعت سلاّم، و أنا وإيّاه والصديق الشاعر محمد الصالحي نتغذى سوية في مطعم قاهري أنيق، ينطقه بنصب العين ونصب الدّال مشدّدة) وأونامونو وبارت سوف أتملّك سبلا قرائية باذخة، حميمة، ومفتوحة للنص الشعري تجعل من اللحظة النقدية لحظة حوار وتفاعل.. صداقة و تماه.. مع هذا النص وتخوّل لجمرة الشعر الكامنة في دخيلة الذات القارئة بالتوهج، مفردات ولغات واجتراحات، وتمنح الفعل النقدي، بتعبير بارت، هيئة اقتراب شغوف و ودود من النص، هيئة فعل إبداعي بالأحرى. بهذا إن حقّ لي أن أعيّن اختيارا نقديا ما يوجّه اقترابي من النص الشعري فهو المزاوجة المرنة، المتسامحة، بين أساسيات المنهج، و ليكن، مثلا، البنيوية الشكلانية أو البنيوية التكوينية أو نظرية الدّالية التي اعتمدتها في كثير من دراساتي، و بين التّعاطي الحرّ، المنصت، و المنفتح، مع هذا النص. { هل يمكن إخضاع كتاباتك لوحدة فكرية أو مشروع نقدي بعينه، أو، بتعبير آخر، هل تكتب ضمن استراتيجية معينة أم أن الصدفة هي التي تقودك إلى الكتابة و اختيار المتن ؟ في هذا الصدد أقول إن كتاباتي النقدية تصدر، في غالبها، عن تصميم مسبق وبالتالي، ضمن مشروع نقدي شخصي متواصل يسعى إلى التربّص بأسئلة الكتابة، التمثّل، الذات، العالم.. الموت، المجهول، الإمكان، الاستحالة.. توسّلا بنصوص ومتون شعرية على درجة من الاغتناء الجمالي والجسارة الرؤياوية تعينني على ارتياد تخوم قصيّة بقدر ما تهمّ الشاعر تهمّني أنا الآخر. و بهذا المعنى تتّخذ الوساطة النصية التي تتيحها هذه النصوص والمتون صفة البرزخ الرمزي الذي يسلمني إلى تلك التخوم، وكلّما كانت القصيدة متعالية في أدائها و رهانها إلاّ و اطّرد إيغالي، لغة و تأويلا، في اللاّمتوقّع من المهبّات والأصقاع التي تفترعها. لكن إذا كان هذا هو ما يوجّه، من حيث المبدأ، كتاباتي النقدية فليس معناه امتناعي عن محاورة نصوص وتجارب شعرية، وقد تكون أحيانا روائية أو قصصية كأعمال نجيب محفوظ ومحمد برادة وأحمد المديني والميلودي شغموم وميرال الطحاوي..؛ خارج هذه الاستراتيجية ممّا قد تستلزمه مني مشاركات ثقافية، هنا و هناك، لكن من غير ما تغاض قاتل عن مشترط الكفاية أو المعياريّة الشعرية المستحقّة. { هذا الحديث يدفعنا إلى التساؤل عن اهتمامك بالنزعة الزنجية في بعض ما تكتبه، فهل تمتلك الزنجية مفهوما محدّدا في كتاباتك ؟ و ما مدى حضورها في راهن الشعر العربي ؟ إن اهتمامي بالزنجية له صلة ما، إن أردنا، بجانب من تربيّتي الروحية واندغامي، كجزء كبير من أبناء جيلي، في الموجات الموسيقية العربية والغربية السائدة آنئذ. فلقد كان وجداني موقوتا، من جهة، على النماذج الراقية في الغناء العربي التي يأويها الرّيبّيرتوار الغنائي لعمالقة أفذاذ من عيار محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ واسمهان وفيروز، ومن جهة ثانية على الموسيقى السوداء القادمة من أمريكا، موسيقى البلوز والغوسبل والجاز، و إلى الآن لا أزال محتفظا بأسطوانات نادرة من هذا التراث الغنائي الفريد. إن تمثّلي لأمريكا لم يكن وليد انتقائية ما وإنّما هو نتاج نظرة متوازنة يتداخل فيها ما هو فكري بما هو أخلاقي. ذلك أني بقدر ما كنت مشدوها بالحلم الأمريكي، بثمرات العقل الأبيض الأمريكي التي جسّدتها رموز و علامات جاذبة: جون كينيدي، مركبة أبّولو، برودواي، هوليود، تينيسي ويليامز، وليم فولكنر، إميلي ديكنسون..؛ كنت معنيّا أيضا بأمريكا العميقة، أمريكا الجنوب الرّعوي، الرّائق، وحيث أولئك البشر الملوّنون والمقتلعون، قسرا، من مسقط رأسهم الإفريقي ليزجّ بهم في الطاحونة الأمريكيةالبيضاء، المتغطرسة، معنيّا، كما قال فديريكو غارسيا لوكا في ديوانه «شاعر في نيويورك» إثر رحلته الأمريكية الشهيرة، بالسّود الذين هم الاستعارة الحيّة في أمريكا الرأسمال والعقلنة الباردة، الاستعارة التي ترشح بها تراتيلهم الكنسيّة، أهازيجهم، رقصاتهم الموصولة بجروح العبودية والعنصرية والمهانة. هكذا، وبتأثير من الموسيقى السوداء الأمريكية سأجدني أقرأ، من بعد، بعض عيون الأدب الزنجي الأمريكي، رواية «كوخ العمّ توم» وبعض أشعار لانغستون هيوز وستيرلينغ براون..؛ و من ثمّ وأنا أكتشف محمد الفيتوري، ضمن الأفق العام للشعرية العربية المعاصرة، والذي كانت لاسمه سطوته النقدية والإعلامية في تلك الأثناء، فلكأنّني عثرت على التحقّق الكتابي، في اللغة العربية، لجروح الذات السوداء المناظر لما أنجزه الشعراء السّود في هذا المضمار، لا في إفريقيا ولا في الشّتات، توسّطا باللغات الأروبية، فحدث، وأنا أقرأ ما كتبه هؤلاء مقارنا بينهم وبين شاعر عربي، أن انجررت تلقائيا إلى قلب الثقافة السوداء، في تعبيراتها الجمالية المختلفة، إلى تاريخ إفريقيا وتقاليدها، أي إلى كلّ ما يمثّل الأرضية الصلبة لفكرة، أو إيديولوجيا، الزنجية. وإذا ما ربطت هذه المغامرة البحثية بولعي بالموسيقى السوداء الأمريكية سأعتبر الأمر بمثابة إسداء تحية رمزية شخصية لأمّة عانت من ويلات وآلام تاريخ ظالم لكنها اهتدت، رغما من هذه الويلات والآلام، إلى أجمل إبداع موسيقي. من هنا، إذن، منشأ علاقتي بالزنجية وارتهاني، الذي ما انفك قائما، بالثقافة السوداء. الزنجية كمبدأ وتصوّر للعالم، كتمثّل للهوية الجمعيّة وكموقف من الحضارة الغربية، مثلما تجلّت مقدماتها الفكرية والنظرية في كتابات الفيلسوف آمو غينيا ? أفير (القرن 18)، أول فيلسوف إفريقي، مرورا بأقطاب آخرين كإدوارد ويلمت بلايدن و ويليام دي بوا، وانتهاء إلى الثالوث الشعري