خرج حزب حركة النهضة كأكبر مستفيد من انتخابات المجلس الوطني التأسيسي أو كما يحلو لأشقائنا في الشرق تسميته بالجمعية التأسيسية والذي من أوكد مهامه اعداد دستور جديد للبلاد يستمد شرعيته من ارادة الشعب والتي عبر عنها في يوم تاريخي لن يمحى من ذاكرة الاجيال المتعاقبة. لكن هذا الفوز المدوي في الانتخابات يقابله مسؤولية جسيمة وميراث متهرئ تركته سنوات طويلة من الظلم والقمع والتنمية الزائفة والارقام المضخمة التي افظت الى واقع مرير يعيشه التونسيون اليوم. كما يقابل هذا الفوز المدوي كذلك صرخات فزع تتعالى في الداخل والخارج من وصول الإسلاميين الى السلطة وانطلق العديد.. بعد.. في الترحم مبكرا على الحريات والمكتسبات التي تفاخر بها تونسالأمم.. مما جعل في الأمر مفارقة غريبة وهي أن الخوف لم يعد من تزوير الانتخابات بل من نزاهتها والتي أفضت الى وصولهم الى السلطة. على أن هذا الخوف له ما يبرره اذا ما نظر اليه بموضوعية ووضع موضع تحليل ونقاش بعيدا عن التشنج الفكري والعاطفة الايديولوجية التي ترى في الشق الآخر شرا مطلقا وفي الذات الأنانية خيرا مطلقا. فالامر واقع اليوم.. والصندوق باح بما لديه ولا مجال لاتهام الشعب الذي ثار على اعتى الدكتاتوريات في العالم بالغباء السياسي والتوهم والا لأصبح في الأمر نوع من التفكير الاجتراري والذي لن يأدي ألا ألى "رهاب" من الديمقراطية أو "ديمقراطي-فوبيا" ان صحت التسمية. لذلك فان الحركة مطالبة اليوم بأن تأخذ كل ذلك بعين الاعتبار وتسعى الى اكتساب ثقة الجميع في الداخل والخرج وذلك عن طريق الأفعال والبرامج وليس الأقوال. وسنحاول في هذه الورقة ان نتناول بالتحليل فوز حركة النهضة في انتخابات المجلس التأسيسي وطبيعة التحالفات الممكنة مع مختلف أطياف اللون السياسي في تونس سواء في الحكومة أو تحت قبة المجلس التأسيسي، وكذلك رسائل التطمين التي ترسلها الحركة في الداخل والخارج دون ان نغفل عن تداعيات هذا الفوز على مستقبل البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفي محيطها الوطني الخارجي. لمحة تاريخية حركة النهضة والتي ظلت منذ نشأتها اوائل سبعينات القرن الماضي بين العمل السري تحت مظلة الجماعة الاسلامية.. مرورا بالعلنية المحظورة والمطاردة من قبل النظام البورقيبي تحت تسمية "حركة الاتجاه الاسلامي" وولادة الحركة رسميا في يونيو 1981 كتيار اسلامي يسعى للتموقع وتشكيل جبهة فكرية-سياسية ذات بعد تاريخي عقائدي في مواجهة المد اليساري الشرقي والذي كان آنذاك الطرف المهيمن على ساحة المعارضة.. وكذلك في مواجهة السلطة والتي كانت تتبنى المنهج الرأسمالي الغربي. لكنها ظلت الى ذلك ورغم اعلانها عن نفسها خارج النشاط القانوني وذلك لرفض السلطات آنذاك منحها التأشيرة القانونية بل واعتقلت قياداتها وزجت بهم في السجون لتصل الاحكام الى الاعدام. على ان احلك الفترات التي مرت بها الحركة وكادت ان تعصف حتى بوجودها هي قطعا فترة حكم بن علي والتي تميزت في بدايتها بما يمكن ان نسميه نوعا من الانفراج مع السلطة.. حيث اطلق سراح منتسبيها من السجون ودعيت الى الامضاء على "وثيقة الميثاق الوطني" ومن ثمة بادرت بتغيير اسمها ليصبح "حركة النهضة" في استجابة لمقتضيات الفصل 3 من قانون الاحزاب الصادر سنة 1988 الذي يمنع اقامة احزاب دينية كما قدمت ترشحها في الانتخابات البرلمانية سنة 1989 تحت قائمات مستقلة. لكن ورغم هذا الانفراج مع السلطة ومع كل الوعود بمنحها تأشيرة النشاط القانوني بقيت الحركة تعمل دون ترخيص حتى بداية التسعينات التي كانت بداية سنوات الجمر بالنسبة لها وذلك بسبب ما يراه بعض الملاحظين من ان النظام قد وقف على شعبية الحركة وانتشارها.. خلال الانتخابات.. كتيار داخل البلاد وتغلغلها في عمق المجتمع التونسي وايضا ما علق بها من تهم من انها وراء التحريض والتشجيع على التظاهر والاعتصام وبث البلبلة اثناء حرب الخليج في بداية التسعينات فكان ان جوبهت بشتى اصناف القمع والتضييق والصقت بها عديد التهم منها محاولة قلب نظام الحكم والتي كانت مبررا كافيا بالنسبة للسلطة للزج بالعديد من قيادييها ومناصريها في السجون والمعتقلات وتصدر في شانهم احكام قاسية تراوحت بين الاعدام والسجن مدى الحياة.. ومن كان محظوظا منهم غادر لاجئا الى المنفى لسنوات طوال. ولم تكتف السلطات بذلك بل واصلت محاولاتها لتصفية الحركة وملاحقتها لكل من له علاقة بها من قريب اومن بعيد وكانت حتى مجرد الشبهة تكفي لالصاق تهمة الانتماء الى الجماعة المحظورة وما يتبع ذلك من تعذيب وتنكيل وحرمان من العمل والسفر والتنقل وشتى صنوف المراقبة الادارية المتواصلة في محاولة واضحة لاجتثاث الحركة كما جاء على لسان رئيسها السابق واحد قيادييها وهو الدكتور الصادق شورو اثناء محاكمته امام المحكمة العسكرية حين توجه الى القاضي بمقولته الشهيرة: "يا سيادة القاضي اذا كنتم بعملكم هذا تريدون اجتثاث حركة النهضة من مجتمعها ومن التربة التي انبتتها..ف هي شجرة اصلها ثابت وفرعها في السماء".. ورغم كل هذا التضييق والمحاصرة التي عاشتها الحركة طوال سنوات عديدة فان ذلك لم يمنعها من النشاط في المنفي اين سعت الى لملمة الصفوف والتنسيق بين قياداتها وعقد مِؤتمراتها في سنوات 1995 و2001 و2007 في محاولة للمحافظة على كيان الحركة.. وبقيت على ذلك حتى اندلاع شرارة الثورة في تونس في السابع عشر من شهر ديسمبر 2010 والتي انتهت الى الاطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي في الرابع عشر من يناير 2011 وبداية مرحلة جديدة في تاريخ البلاد يعود على اثرها المنفيون الى ارض الوطن ويسرح المعتقلون بعد اقرار العفو التشريعي العام لتتقدم اثرها الحركة بمطلب رسمي الى وزارة الداخلية للحصول على التأشيرة وهو الثالث من نوعه منذ نشأتها حيث قوبل مطلبها الاول والثاني بالرفض في عهدي بورقيبة وبن علي.. وقد تحصلت على الترخيص القانوني بالنشاط كحزب سياسي رسميا في مارس 2011 وهو ما يمثل نقلة نوعية تاريخية للحركة التي ظلت طوال 30 سنة محاصرة ومطاردة والذي اعتبرته الحركة على لسان رئيسها راشد الغنوشي: "حقا مشروعا طالما ناضلت من اجله".."وتتويجا لمسار طويل من نضالات الحركة". وبمجرد الاعلان عن الدعوة الى اول انتخابات بعد ثورة الرابع عشر من يناير في 23 اكتوبر 2011 وهي انتخابات المجلس الوطني التأسيسي لصياغة دستور جديد للبلاد حتى سارعت الحركة الى اعلان ترشحها في جميع الدوائر فيما يبدو انه نوع من الجهوزية لموعد طالما انتظرته واعدت له وكانت من السباقين في الاعلان عن برنامجها الانتخابي والانطلاق في خوض غمار الحملة الانتخابية. حسابات حقل الصندوق وبيدر السياسة لعله لم يكن من المفاجئ لدى الجميع فوز الحركة في هذه الانتخابات باغلبية المقاعد والتي قاربت النصف بل واكتساحها جميع الدوائر باغلبية ساحقة لتعلن نفسها الطرف الاقوى في المعادلة السياسية الجديدة وكأن القدر انصفها بعد سنوات القمع والتهجير التي عانتها والتي كادت ان تعصف بها. لكنها في المقابل لم تسلم من سهام النقد والتخويف خاصة بما اسماه معارضوها لغة الخطاب المزدوج والذي تنتهجه الحركة منذ عودتها الى تونس والتي وصلت في بعض الاحيان الى حد القول ونقيضه في محاولة منها لارضاء جميع الاطراف وخاصة اولائك الذين يختلفون معها ايديولوجيا والذين يعتبرون وصولها الى السلطة عودة الى الوراء وناقوس خطر يهدد القيم الحداثية والتقدمية التي اكتسبتها تونس على مدى سنوات لتجعل منها واحدة من اكثر البلدان العربية والاسلامية تحررا خاصة في مسالة المساواة بين الجنسين و تحرير المرأة .. وهوما تنفيه الحركة جملة وتفصيلا بل وذهبت الى ابعد من ذلك اذ انها اعتبرت ان حقوق المراة منقوصة ولا بد من مزيد تدعيمها وان التهم التي الصقت بها انما يراد بها تشويه صورة الحركة ولا نية لها للمس بمجلة الاحوال الشخصية (باستثناء مسألة التبني التي قالت انها ستعوضها بمفهوم الكفالة).. وان طروحاتها ذات المرجعية الدينية انما هي مواكبة لروح العصر ومنفتحة على محيطها وان الاسلام في جوهره دين انفتاح وتطور وهو قبل كل شيء دين حرية وتسامح ويتقاطع في كثير من تعاليمه مع القيم الحداثية الذين اتهموا بمحاولة مراجعتها ونسخها. ورغم كل ما اتهمت به حركة النهضة من تهم وما لقيته من نقد من خصومها السياسيين الا انها لم تقف كثيرا موقف المدافع عن نفسها بل مرت الى الانتخابات بثقة كبيرة معتمدة على قاعدتها الشعبية العريضة وخرجت من المعركة الانتخابية بنصيب الاسد حيث فازت في جميع الدوائر وحصدت 90 كرسيا في المجلس التأسيسي من اصل 217 كرسيا (وأصبحت 91 مقعدا بعد اقرار المحكمة الادارية بصحة طعنها في صيغة احتساب الاصوات عن دائرة مدنين ثم اصبحت 89 بعد قرار المحكمة الأدارية بقبول طعون قوائم العريضة الشعبية) متقدمة بفارق كبير عن ابرز منافسيها. وهي اليوم تستعد لتسلم حكم البلاد في ظل الشرعية التي اكتسبتها من صناديق الاقتراع وانطلقت بعد في مشاورات من اجل تشكيل الحكومة.. ولم تخف رغبتها في ان تكون هذه الحكومة ائتلافية تضم الى جانبها الاحزاب الفائزة من منطلق الشرعية الممنوحة لها من صناديق الاقتراع مع امكانية اتساعها لعدد من الكفاءات. فهي قد اعلنت صراحة انها تريدها حكومة سياسية بامتياز وليست حكومة تكنوقراط على ان الصيغة السياسية لا تسد الباب امام الكفاءات الوطنية كما ان صيغة الائتلاف لا تعني غلق الباب امام الاطراف ذات الثقل السياسي حتى ولو لم تظفر بمناب كبير في الانتخابات..و هو ما قرأ على أنه ليونة في احتضان بعض الطروحات المعلنة من طرف شركائها في الحكومة المرتقبة والذين "هددوا" بانهم قد لا يشاركون في الحكومة ان لم تكن حكومة وحدة وطنية او مصلحة وطنية وان لم يراعى فيها التعدد الفعلي الذي يتجاوز الاختلافات الايديولوجية..و هو ما تجلى خاصة في الموقف المعلن صراحة من قبل السيد مصطفى بن جعفر الامين العام لحزب التكتل من اجل العمل والحريات. على انه وفي كل الاحوال فان حركة النهضة وبالرغم من انها الحلقة الأقوى في اي حكومة قادمة وصاحبة الاغلبية الكاسحة داخل المجلس التأسيسي الا أنها قد وجدت نفسها في أكثر من مرة في موقف المدافع عن نفسها وعن اثبات حسن نيتها من أية "شماتة سياسية" بل واضطرت في العديد من المرات الى التنازل لتفادي التصادم المبكر مع شركائها المفترضين لانها وبحكم الامر المقضي قبلا من القانون الانتخابي لا بد لها من "حلفاء" في مواجهة تكتلات محتملة بل واكيدة من طرف خصومها الأزليين تحت قبة المجلس التأسيسي. وهو ما يجرنا الى التساؤل عن طبيعة هذه التحالفات المرتقبة؟ وعن مدى قدرة الحركة على اقناع بعض هذه الاطراف بالعمل الجدي وفق اجندتها التي ترى انها تسع العديد ان لم يكن غالبية الالوان السياسية في تونس عدا من اعلنت صراحة انها لن تتعامل معها تحت اي عنوان او صيغة وذلك نتيجة عوامل تاريخية وسياسية يضيق المجال لشرحها وهي تحديدا "العريضة الشعبية للعدالة والتنمية".لكن وحتى لو توصلت الحركة وتحت اية صيغة لتشكيل هذه الكتلة..فهل ستنجح في ابقائها بعيدة عن التصادم والاختلاف ام انها ستظطر الى نوع من "البراغماتية" ربما ينفعها في مكان ويظرها في اماكن اخرى لعل اهمها انصارها في حد ذاتهم الذين بدأوا فعلا يتململون. ولعل ما يعيبه العديد من الملاحظين على حركة النهضة انها لم تنجح في اقناع الرأي السياسي في تونس بصدق نواياها وتبنيها الفعلي للنهج الديمقراطي المدني وانها قد خلعت عنها تماما الرداء الثيوقراطي الذي طالما كانت تتهم به... وان رسائل التطمين التي ترسلها نحو كل الجهات ما هي الا خدعة سياسية تفرش لها طريق الوصول الى الحكم والمسك الفعلي بزمام الامور لتمر بعدها الى سياسة الامر الواقع وتمرير ايديولوجيتها ذات الطرح الاسلامي. وهنا يمر البعض نحو تساؤل يبدو انه قد بدا يراوح مكانه بين الأسطر وهو لماذا تسعى حركة النهضة الى التحالف مع احزاب لا تلتقي معها في نفس الطرح الايديولوجي وربما تصل افكارها معهم الى حد التصادم..على الأقل على المستوى النظري.. مثل حزب التكتل ذا النزعة اليسارية وبدرجة اقل حزب المؤتمر المتعاطف مع الليبرالية ولو كانت محافظة.. في حين انها ترفض رفضا قطعيا "العريضة الشعبية" ذات المرجعية الاسلامية.. وهو ما قد يفهم على انه "لعبة سياسية" املتها اولا طبيعة المرحلة التي لم تخترها بل فرضت عليها وثانيا تأكيد للصورة التي تريد ان تمررها بانها حزب منفتح على الجميع ويقبل مشاركة جميع الأطياف للتأسيس للمستقبل دون إقصاء اي طرف مهما كانت مرجعيته وبغض النظر عن الاختلافات السياسية. رسائل طمأنة للداخل والخارج وأيادي ممدودة لكن بتردد على ان هذا التحالفات التي تدخل بها حركة النهضة المرحلة القادمة من الاستحقاقات السياسية تبقى الى حد الآن مفهومة ومنطقية لكنها لن تتبلور في صيغتها النهائية الا عندما تدخل المرحلة الأهم وهي مرحلة الممارسة الفعلية عندما توضع على محك الاختبار سواء في الحكومة أو داخل المجلس التأسيسي وعليها ان تحافظ على قدر من الليونة في التعامل وربما تضطر معها الى عديد من التنازلات تمس جوهر فكرها السياسي وذلك تفاديا للمآزق مع حلفائها والذي ان حدث فانها ستجد نفسها معزولة امام كثير من الخصوم السياسيين الذين ينتظرون عثرتها خاصة انها تنطلق أصلا في موقف صعب حيث تجد نفسها في الواجهة امام كم هائل من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية وهي المطالبة في نظر الاغلبية التي انتخبتها بحلها أو على الأقل الشروع في ذلك بنية صادقة للإصلاح تقطع قطعا نهائيا مع نظرية انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم والتي طبعت علاقة التونسي بالسلطة منذ عقود طويلة من الزمن. لذلك فأن الحركة ورغم شرعيتها الانتخابية الا أنها في موقف لا يحسد عليه مقارنة بالاحزاب الأخرى التي هي في موقف مريح نسبيا لانها تقف في الصف الثاني في الواجهة ان نجحوا فسينجحون جميعا وان فشلوا فسيكون النصيب الأكبر من الفشل على عاتق حركة النهضة. وهذا الرأي هو ما جعل بعض الملاحظين يعتبرون ان الحركة قد ظلمت مرتين مرة من القانون الانتخابي وتحديدا "نظام الاقتراع على القوائم مع احتساب اكبر البقايا" الذي حرمها من الأغلبية المطلقة وبالتالي تمرير جميع قراراتها بسهولة.. وهو الكلام الذي جاء مثلا على لسان السيد عياض بن عاشور رئيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.. وهي الجهة التي سنت هذا القانون الانتخابي..و ظلمت مرة ثانية من خلال النقد المسلط عليها داخليا وخارجيا لمجرد انتصارها في الانتخابات وقبل حتى انطلاقها في الممارسة الفعلية للحكم وتقييم النتائج الفعلي وليس المفترض. لكن وعلى الرغم من كل هذا ألا إن الحركة مطالبة اليوم قبل الغد بوضوح رؤيتها نحو المستقبل وتقديم ما يفيد أنها صادقة في كل ما وعدت به والبعد عن الازدواجية التي تصل حد التناقض في كثير من المواقف والتي أضرت بها كثيرا خاصة ان المرحلة الأولى التي تلت فوزها قد شهدت العديد من الأحداث التي وان كانت بسيطة في ذاتها ألا ان ابعادها تمس من جوهر الحريات والتي ان سارعت الحركة الى نفيها عن نفسها لكن عديد الاطراف ترى انها مطالبة بالسيطرة على قواعدها وتأطيرهم حتى يطابق قول القيادات في المنابر السياسية فعل القواعد في الشارع وفي المجتمع..و حتى لا يصبح ذلك ذريعة للحركة للتنصل من كل ما من شأنه ان يعكر صفو الحياة اليومية وخاصة مبدأ الحريات الذي يعتبره البعض يأتي في المرتبة الأولى قبل الخبز.. وهي قبل كل ذلك لا تسطيع ان تمرر برنامجها السياسي إلا في جو من التوافق والهدوء الاجتماعي وبالاعتماد على مختلف مكونات المشهد السياسي الوطني بغض النظر عن تموقعاتها الايديولوجية.. وثمة جانب اخر هو من الأهمية بمكان حيث ان الحركة لن تكون فقط محل أنظار الداخل بل ستكون محط أنظار الخارج كذلك.. فالعالم كله اليوم.. وخاصة الدول الغربية.. ينظر اليها بعين الريبة والحذر كأول حزب اسلامي يصل الى الحكم في الربيع العربي عن طريق انتخابات ديمقراطية وربما أولها في المطلق اذا استثنينا التجربة السودانية التي كانت في ظروف مختلفة تماما.. او كذلك التجربة الجزائرية التي اتت بنتيجة عكسية أدخلت البلاد.. انذاك.. في سنوات دموية مازالت لم تلتئم جراحها بعد..لذلك فهي تجد نفسها أمام مسؤوليتين.. الأولى وهي الأهم لأنها تشمل محيطها القريب في الداخل الوطني ويمتد الى الجوار العربي وبدرجة اقل الأسلامي.. فلا يخفى اليوم ان حركة النهضة بقدر نجاحها بأغلبية كبيرة في استحقاق التأسيسي بقدر ما هي مطالبة بخلق حالة من الوفاق داخليا خاصة ان أصوات التخويف منها قد انطلقت حتى قبل الانتخابات باعتبارها تهدد مكتسبات الدولة الحديثة التي عرفتها تونس منذ الأستقلال وبالتالي فأن فوزها لا يجب أن يكون الشجرة التي تخفي غابة المشاكل وتعدد الطروحات داخل مجتمع هو..شئنا أم أبينا..بقدرتشبثه بهويته العربية الأأسلامية بقدر تطلعه الى نموذج من مجتمع متطور ومنفتح على العالم تصان فيه الحريات وتحترم فيه الأختيارات الشخصية للافراد بغض النظر عن اتجاهاتهم. كذلك هي تحمل آمال وتطلعات الشعوب العربية وخاصة في دول ما اصبح يسمى بدول الربيع العربي والتي كانت تونس ملهمتهم مرتين.. الأولى في التغيير وفي الثورة على الظلم والاستبداد والثانية في تنظيم اول انتخابات حرة ونزيهة شهد بها القريب والبعيد والتي افضت الى وصول حزب ذو مرجعية اسلامية الى السلطة كتكريس لمبدأ طالما نادت به كثير من الأصوات داخل هذه الدول وهو أن "الإسلام هو الحل". لذلك فأن نجاح النهضة ربما يكون أول خطوة في الطريق نحو تبني منظومة ديمقراطية ذات صبغة عربية أسلامية تتجاوز المنظومة الديمقراطية الغربية الجاهزة والتي يرفضها الكثير داخل المجتمعات العربية الإسلامية باعتبارها "سم في الدسم" وتكريس للامبريالية الغربية وطمس لمعالم الهوية ومس من استقلالية القرار السياسي والأقتصادي. اما المسؤولية الثانية وهي غير بعيدة تماما عن الأولى فهي ازالة الصورة النمطية المشوهة الراسخة في أذهان الغرب عن الأسلام والمسلمين وخاصة ممارسي السياسة منهم والذين يعتبرونهم عدوا للحرية والديمقراطية خاصة في مسالة المرأة وحرية التعبير وممارسة الشعائر الدينية وكذلك عنوانا للأرهاب الفكري والسياسي وخطرا محدقا بهم يهدد صراحة الأمن القومي لهذه الدول باعتبارها قد تصبح حاضنة لتيارات راديكالية وأبوابا خلفية للعنف والتطرف.. ليصل الى الخوف الكامن من امتداد طرحهم الفكري الذي يهدد قومياتهم خاصة مع وجود جاليات مسلمة معتبرة داخلها.. وهو ما يبدو ان الحركة قد استوعبته مبكرا فسارعت الى طمأنة الجميع سواء في الداخل او الخارج وأكدت أنها بالفعل حزب قد تطور وساير الزمن وأنها لن تمس من مبدأ الحريات وستحافظ على المكتسبات الوطنية وأنها ستحافظ على جميع تعهدات الدولة التونسية في الخارج وعلى المعاهدات والمواثيق الدولية التي صادقت عليها تونس وستبقى منفتحة على جميع التيارات الفكرية والسياسية وتفتح ذراعيها لاحتضان الجميع..و بدورها سارعت الدول الغربية الى الرد سريعا على رسائل الحركة وأكدت أنها تمد لها يدها وقد جاء ذلك على لسان العديد من المسؤولين الغربيين مثل وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه الذي قال ان بلاده مستعدة للتعامل والتعاون مع حزب حركة النهضة وأنه شخصيا يريد أن يثق بهذا الحزب".. وكذلك وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون التي قالت انها مستعدة للتعامل مع االاسلاميين في تونس وان الاسلاميون ليسوا جميعهم سواسية..و هو تقريبا نفس الكلام الذي أتى على لسان وزير الخارجية الأيطالي فرانكو فراتيني.. وغيرهم من المسؤولين في عديد دول العالم..مما يؤكد ان الحركة لا تريد لنفسها أن تيقى معزولة في هذا الظرف الحساس في تاريخها وفي تاريخ البلاد عامة خاصة أمام هذه المشاكل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا التي تستعد لمواجهتها قريبا عندما توضع فعلا أمام محك التجربة في الممارسة التي تعلم جيدا أنها تفتقر للخبرة اللازمة فيها. الى ذلك فان الحركة اليوم.. وبعد سنوات طوال من القمع والتشريد والسرية.. تجد نفسها ولأول مرة في تاريخها في موقع الحكم وتقف أمام شعب طالما تعاطف معها أيام الجمر وربما اختارها لانه يرى فيها نفسه التي طالما مورست عليها الدكتاتورية في ابشع صورها والتي طالما صودرت فيها حرياته وكتمت فيها أنفاسه ويرى فيها كذلك ذلك الوازع الديني الذي يرى في العدالة والمساواة ركنا لا يتجزأ من أركان النظام الذي تأسس اليه..وأن من يخشى الله في نفسه انما يخشاه في عباده الذين حوربوا في دينهم وفي قوتهم وأحيوا فيهم من غير ان يشعورا ما اراد الظلم والاستبداد ان يقتله.. لكن ذلك لن يعطيها حصانة تظن معها انها بمناى عن أي اصطدام مع الشعب الذي هو على اهبة الاستعداد للفظ كل من تخول له نفسه ان يصادر ما حارب وضحى من أجله بدماء شهدائه والام جرحاه..فالخوف كل الخوف من ما يمكن ان نسميه "بالغرور الانتخابي" الذي يمكن ان يصيب اي حزب لأن الأغلبية في الانتخابات لا تعني صكا على بياض وما ربحت به اليوم يمكن أن يصيبها في مقتل غدا خاصة اذا فشلت في تحقيق ما يطالب به المجتمع اليوم وخاصة ان "العمر الانتخابي" قصير ويمتد في أقصى الحالات سنة ونصف ولن يتجاوز في كل الأحوال الثلاث سنوات..فهل ستنجح الحركة في كل هذه الرهانات؟ وهل ستظفر فعلا بثقة المواطن البسيط والمثقف؟ والى اي مدى ستظل على توافق مع حلفائها ومع من مد لها أيديه في الداخل والخارج؟ وخاصة هل ستكون الحركة فعلا ذلك الخطاف الذي يصنع الربيع في الداخل وكذلك في الخارج وتحديدا في العالم العربي والاسلامي.. ام ستكون اولى غيوم الشتاء التي تجهض كل الاحلام في مستقبل حر وديمقراطي وتجهض معها احلام ملايين المكبوتين والمقموعين في الدول العربية التواقة الى غد افضل؟ كلها اسئلة تبقى معلقة في انتظار الإجابة. فلننتظر ونرى.