العالم تفاجأ بمنح جائزة نوبل للسلام للرئيس أوباما؛ ولكنَّ عليه ألاَّ يتفاجأ إذا ما قررت اللجنة نفسها منح الجائزة نفسها لنتنياهو، مكافأة له على مساعيه لالسلام الاقتصادي مع الفلسطينيين؛ وهل بيغن وبيريز يستحقان الجائزة أكثر منه؟ جائزة "نوبل" للسلام كادت أن تموت، معنى وقيمة وأهمية؛ وأكاد أن أقول إنَّها قد ماتت؛ ولكنَّ "المؤسَّسة"، التي تَحْتَكِر سلطة مَنْحها، مع القوى التي لها مصلحة في بقاء "نوبل" للسلام، مؤسَّسةً وجائزةً، تأبى التسليم بموتها قبل دفنها؛ وهناك من "المكابرين" من يأبى حتى هذا، مفضِّلاً لها طول البقاء، ولو على هيئة "مومياء فرعونية"! دعونا، ما دمنا نتحدث من داخل العالم الواقعي (لا الأفلاطوني والمثالي واللاهوتي) للسياسة، أن نتحلَّى ولو بشيء من "فضيلة سوء الظن"، ف "النيَّات الحسنة الطيِّبة"، ولو كانت بأهمية نيَّات الحائز (بفضلها) على جائزة "نوبل" للسلام، أي الرئيس أوباما، تذهب بصاحبها سريعاً إلى جهنَّم؛ بل إلى الحُطمة. لقد أرادت "لجنة نوبل" أن تحيي عِظام "نوبل"، مؤسَّسةً وجائزةً، وهي رميم، من خلال أخْذ العالم بأسره إلى "جَدَلٍ" في شأن "الجائزة"، لجهة أحقِّية الرئيس أوباما بنيلها، فكان لها ما أرادت، حتى أنَّ "ريختر"، لا غيره، هو خير مقياس نقيس به الآن قوَّة هذا الجدل، الذي لو توسَّعنا فيه وتعمَّقنا، وهَبَطْنا به من "عالم المُثُل الأفلاطوني" إلى "أرض أرسطو"، لَتوصَّلْنا إلى ما هو أهم بكثير من الجائزة، ومن مانحها، ومن الحائز عليها، إلا وهو "الحقيقة"، المحجوبة عن أبصار العالم وبصائره بطبقة كثيفة من ضباب الأوهام. إنَّني لا أرى في المشهد (الحقيقي) جائزةً (تشجيعية) تَمْنَحها "مؤسَّسة نوبل" للرئيس أوباما؛ وإنَّما جائزةً (تشجيعية، لها ما لطوق النجاة من أهمية إذا ما أُلْقي لغريق) مَنَحَها الرئيس أوباما للجنة، إذ اشتعل فتيل الجدل العالمي في أمْر هذه الجائزة، وأحقِّية الرئيس أوباما بنيلها. كانت "نوبل للسلام"، مع مؤسَّستها ولجنتها ومانحيها، مُعْتِمةً، فأضاءت بغتةً إذ استمدَّت من "شمس أوباما" بعضاً من الضياء؛ ولقد حقَّ لعشَّاق "النجم" أوباما أن يقولوا في فخر واعتزاز: أتته الجائزة منقادةً، إليه تجرجر أذيالها، فلم تكن تصلح إلاَّ له، ولم يكن يصلح إلاَّ لها! وإنَّني لأهنِّئ "لجنة نوبل" على فوزها ب "جائزة أوباما"! هل يستحقها؟ ما أسهل أن تجيب عن هذا السؤال ب "الأبيض" أو "الأسود"، أي ب "نعم" أو "لا"؛ وما أسهل أن تشرح وتعلِّل إجابتكَ "البيضاء" أو "السوداء"؛ ولكن ما أصعب أن ترى رأياً ثالثاً، يحتاج إليه كل من له مصلحة حقيقية في أن يعود، بعد طول غياب، إلى العالم الواقعي الحقيقي الأرضي للسياسة، وإلى أن يفهم "السياسة" على أنَّها بِنْت العلم والفن معاً، على أنْ يفهم "الفن" على أنَّه شيء لا يمت بصلة إلى "هوليود السياسية"، حيث تُصنَّع "النجوم" في عالم السياسة بما يُظْهِر ويؤكِّد اضمحلال الفَرْق بين "الممثِّل السياسي" و"الممثِّل السينمائي". ما أسهل أن تجيب قائلاً: كلاَّ، إنَّه لا يستحقها، فهو لم يسكن البيت الأبيض إلاَّ منذ تسعة أشهر فحسب، ولم يحقِّق من "التغيير" الذي وعد به، في خلال حملته الانتخابية، إلاَّ ما يؤكِّد أنَّ الحاجة إلى هذا التغيير قد اشتدت وعَظُمَت، وأنَّ المحتاجين إليه قد أوشكوا أن يكفروا بالوعد وصاحبه، الذي ما زال يعيش معنا في عالمٍ مدجَّج بالسلاح النووي من رأسه حتى أخمص قدمه، ويملك من هذه السلاح ما يكفي للقضاء على الجنس البشري برمته بضع مرَّات، على الأقل. كل ما فعله الرئيس أوباما، حتى الآن، في أمْر خلق عالمٍ يخلو من السلاح النووي، ومخاطره، لا يتعدى "قوله" في جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي "علينا ألاَّ ندَّخِر جهداً من أجل أن يأتي يوم نرى فيه الأسلحة النووية وقد زالت من على وجه الأرض". أمَّا مجلس الأمن فدعا، في قرار له، في اليوم نفسه، إلى عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية". هذا الذي قاله أوباما، ودعا إليه مجلس الأمن، ليس بالأمر الجديد، فكثيرٌ من قادة وزعماء العالم قالوا، من قبل، القول نفسه، ودعوا إلى الأمر نفسه؛ ولكنَّ كل ما تحقَّق حتى الآن في اتِّجاه خلق العالم الخالي من السلاح النووي لم يُفِدْ إلاَّ في إظهار وتأكيد طوباوبة القول والدعوة، واشتداد وتعاظم الميل لدى كثير من الدول غير الأعضاء في مجتمع القوى العسكرية النووية، إلى صُنْع وحيازة الأسلحة النووية. والعالم يحتاج، قبل جعله خالياً تماماً من السلاح النووي، إلى ما يُقْنعه بأنَّ خلق عالمٍ يخلو من الأسلحة النووية يمكن أن يعود بالنفع والفائدة على أمنه واستقراره وسلامه، فكل ما ثبت وتأكَّد حتى الآن هو أنَّ تسلُّح بعض الدول بالقنبلة النووية قد منع دخولها في حروب ضدَّ بعضها بعضا. أمَّا الحروب دون النووية فما زالت جزءاً لا يتجزأ من النهج السياسي-الإستراتيجي للرئيس أوباما (وإدارته) الذي ما زال عازماً ومصراً على الزجِّ بمزيد من جيش بلاده، وقواها العسكرية والاقتصادية والمالية والسياسية، في حرب أفغانستان، بصفة كونها، على ما أكَّد غير مرَّة، الحرب الحقيقية على الإرهاب الحقيقي، وإنْ بدا مهتماً الآن بتمييز العدو اللدود، وهو "القاعدة"، من "طالبان" الذين جنحوا، أو يمكن أن يجنحوا للاعتدال. إنَّه يطلب مزيداً من الحرب (التي يقول بما يشبه قدسيتها) في أفغانستان، متحدِّياً، ضِمْناً، فقهاء "مؤسَّسة نوبل" أن يُطوِّروا ويُحسِّنوا مفهوم "السلام"، الذي استحدثوا له جائزة، بما يجعل خوض، وإشعال فتيل، بعض الحروب جزءاً لا يتجزأ مِمَّا يُبْذَل من جهود لإنشاء وتوطيد السلام، فحرب كالتي يخوضها ويقودها الرئيس أوباما ضد "أشرار الأرض" في أفغانستان يجب أن تُفْهَم على أنَّها امتداد لسياسة لا غاية تنشدها سوى أن تسبغ على العالم (وعلى أفغانستان بالتالي) نعمة السلام! والمعترضون على منحه الجائزة سيقولون، أيضاً، وقد قالوا، إنَّ الرئيس أوباما لم يقم حتى الآن بأي عمل في العراق يمكن أن يدل على أنَّه عازم على أن ينهي عمَّا قريب الوجود العسكري لبلاده في أرض الرافدين إنهاءً تاماً، ف"المارينز" لم يخرجوا من العاصمة والمدن، إلاَّ ليصبحوا بمنأى عن الموت، وكأنَّ الغاية هي أن يبقوا في العراق (إلى أجل غير مسمَّى) ولكن في داخل ما يشبه البروج المشيَّدة، وبما يفي بالغرض، الذي هو الاحتفاظ بهيمنة إمبريالية للولايات المتحدة في أرض الرافدين، مع السعي إلى أقلمة هذه الهيمنة انطلاقاً من تلك الأرض. وإلى حيثيات الاعتراض، يمكن أن يضاف ما مني به الرئيس أوباما، حتى الآن، من فشل (ظاهر، أو أقرب إلى الظاهر منه إلى الباطن) في تليين حكومة نتنياهو بما يسمح بأن يغدو "حل الدولتين" حقيقة واقعة في أجل مسمَّى، وبقاء علاقة بلاده بالعالم الإسلامي (بعد خطابه القاهري) مثخنةً بجراح عهد سلفه بوش، فالوعد بالتغيير، ومهما كان صادقاً، لا يصلح دواءً. وهناك من يُفْرِط في سوء الظن، متحدِّثاً عن احتمال أن تكون لقوى يهودية وصهيونية وإسرائيلية مساهمةً في منحه الجائزة لاعتقاد هذه القوى أنَّ منحه إيَّاها يمكن أن يجعله أقل اهتماماً ببذل جهود حقيقية من أجل التغلُّب على ما تبديه حكومة نتنياهو من معارضة، ظاهرة ومستترة، لمفاوضات يمكن أن تقود إلى "حلِّ الدولتين". لكن بعض القادة الإسرائيليين كرئيس الكنيست رؤوفين رفلين أعربوا عن خشيتهم من أن تقوِّي الجائزة الدافع لدى الرئيس أوباما إلى ممارَسة مزيدٍ من الضغوط على حكومة نتنياهو لتقبل "حل الدولتين" ولو على مضض. أمَّا المؤيِّدون، الذين لبسوا لبوس "الحكمة"، وأرادوا أن يظهروا على أنَّهم يملكون من "الميكيافيلية"، حذقاً ودهاءً وذكاءً، ما يقيهم شرور "قصر النظر" لدى المعترضين الجامدين في فكرهم وتفكيرهم، فزعموا، في حججهم، أنَّ جائزة نوبل للسلام لم تُمْنَح للرئيس أوباما مكافأةً له على ما حقَّق من أجل السلام، أو على ما قام به خدمةً للسلام؛ بل تشجيعاً له على المضي قُدُما في سعيه إلى جعل الحلم حقيقة، وعلى ترجمة نيَّاته الطيِّبة بأعمال وأفعال من جنسها، وعلى الصمود والثبات في وجه معارضيه وخصومه، والساعين إلى إحباط سعيه، و"تيئيسه"، وزرع الألغام في دربه، وهزِّ وتحطيم ثقة ناخبيه به، من خلال إظهاره لهم، وللعالم بأسره، على أنَّه جَبَلٌ تمخَّض فولد فأراً.. في غوانتانامو مثلاً، أو على وجه الخصوص. ولقد جرَّب اللاعبون (المانحون) الأمر نفسه تقريباً، من قبل، مع المستشار الألماني الأسبق برانت، ومع آخر رئيس للاتحاد السوفياتي غورباتشيوف، فاقتنعوا بجدوى التجربة، فكلا الرجلين الفائزين بجائزة نوبل للسلام تشجَّع، وبذل وسعه ليثبت للعالم، ولمانحيه الجائزة، أنَّه مستحقٌ وأهلٌ لها. كلاهما تشجَّع بالجائزة، فانتهى به الفعل والعمل إلى نتائج أثبت من خلالها لمانحيه إيَّاها أنَّه كان عند حُسْن ظنِّهم به. ولكن ثمَّة من يشكِّك في هذه التجربة وجدواها قائلاً إنَّ منح جائزة نوبل للسلام من أجل تشجيع الذي مُنِحَت له على المضي قُدُماً في المسار نفسه، وترجمة نيَّاته الجيِّدة ووعوده الجميلة بما يشبهها من أعمال وأفعال ووقائع، يمكن أن يضعف لديه الدافع الإيجابي، مقوِّياً، في الوقت نفسه، الدافع السلبي، فالمرء يكفي أن يمتلك ما حلم بامتلاكه حتى تنفد طاقة الحلم لديه، وتتلاشى قوَّة الدافع. الرئيس أوباما، والحقُّ يقال، أظهر نُبْلاً في موقفه من قرار "لجنة نوبل" منحه جائزة نوبل للسلام، فهو، على ما ثبت وتأكَّد، لم يكن على علم بالأمر، الذي فاجأه وأدهشه أكثر بكثير ممَّا فاجأ وأدهش غيره. ومضى في إظهار مزيد من النُبْل والتواضع والأخلاق الحميدة إذ اعتبر نفسه غير مستحقٍّ للجائزة، متبرعاً بقيمتها المالية (نحو 1.4 مليون دولار) للأعمال الخيرية. لقد شكر مانحيه الجائزة، مؤكِّداً أنَّه يفهم حصوله عليها على أنَّه تشجيع له على المضي قُدُماً في سعيه إلى جعل الوعد بالتغيير حقيقة واقعة، وحرفاً نابضاً بالحياة، وإنْ قال في نفسه، على ما أتوقع، إنَّه تكريم تنوء بحمله الجبال، ويشبه قيداً ذهبياً قيَّدني به العالم الذي يتضوَّر إلى التغيير، ناظراً إليَّ على أنَّني المُجْتَرح وحدي لمعجزة تحقيقه. إيجاباً، قد نتوقَّع أنْ يتشجَّع الرئيس أوباما بالجائزة، وبمعاني الرسالة العالمية التي سيتسلمها مع الجائزة، فيعمل بما يؤكِّد أنَّه مستحقٌّ وأهلٌ لها؛ أمَّا سلباً فينبغي لنا أن نتوقَّع أن يعمل الرئيس أوباما بما يؤكِّد أنَّ الجائزة، وعلى أهميتها المعنوية، لن تكون قيداً (ولو من الذهب) على يديه ولسانه، وأنْ يعامِل الجائزة على أنَّها "هدية مسمومة". وأحسبُ أنَّ الرئيس أوباما يملك من النبل ما كان ينبغي له أن يحمله على طلب أن تظل الجائزة في الحفظ لدى "لجنة نوبل"، فلا يتسلَّمها إلاَّ عندما يُثْبِت بالفعل، أي عند تحقيقه لجزء يعتد به من وعوده الانتخابية الجذَّابة، أنَّه يستحقها، وأهلٌ لها، فالسلام، وعلى افتراض أنَّنا متَّفِقون على معناه، لا يتحقَّق بالنيَّات الطيِّبة وحدها، وإنْ استحال تحقيقه في غيابها؛ ولو كان ممكناً تحقيقه بها فحسب لجاز القول "إنَّما السلام بالنيِّات". ثمَّ أنَّ "السلام" يختلف في خاصية جوهرية له عن "الحرب"، فإذا كانت "الحرب" من صُنْع أحد طرفي النزاع فإنَّ "السلام" لا يصنعه إلاَّ طرفا النزاع معاً؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ جائزة نوبل للسلام، بمعناها الضيِّق، يجب أن تُمْنَح لطرفين على الأقل، وليس لطرف واحد فحسب. أوباما فاز بجائزة نوبل للسلام؛ ولكنَّه، إذا ما أردنا فهماً للسياسة بمنأى عن "اللاهوت" وأشباهه، لم يَفُزْ بها لأنَّه رجلٌ ممتلئ حُبَّاً للسلام، وحُبَّاً لِما يكمن في السلام من قيم ومبادئ إنسانية وحضارية وأخلاقية؛ وإنَّما بصفة كونه رئيساً للقوَّة العظمى في العالم، فلو أنَّ رئيس كينيا تفوَّق على أوباما لجهة حُبِّه للقيم والمبادئ نفسها لَمَا خطر في بال "لجنة نوبل" منحه الجائزة. ونحن يكفي أن نَزِن الأمور في عالم السياسة بميزان أرسطو، وليس بميزان أفلاطون، حتى ندرك أنَّ وزن القادة والرؤساء من وزن دولهم وبلادهم، وإلاَّ ذهبت جائزة نوبل للسلام لملايين الكهنة في العالم، فهل هناك من يضاهيهم في حُبِّهم الأفلاطوني (العذري) للسلام وقيمه ومبادئه؟ لا تعترضوا على فوز الرئيس أوباما بجائزة نوبل للسلام، بمعنييه الضيِّق والواسع، فهل في العالم الآن من يستحق هذه الجائزة أكثر منه؟! لقد فاز بها؛ لأنَّ أحداً من رؤساء وزعماء العالم لا يجرؤ على أن يدَّعي أنه أحق منه فيها. ولو كنتُ مكان الرئيس أوباما لشكرتُ أوَّلاً الرئيس جورج بوش، وليس "لجنة نوبل"، فإنَّ جُلَّ الحب العالمي للرئيس أوباما هو الوجه الآخر من الكراهية العالمية لسلفه الجمهوري الرئيس بوش، الذي شدَّدت تجربته في الحكم الحاجة إلى استحداث "جائزة نوبل السلبية"، لتُمْنِح لمستحقيها من أشرار الأرض. إنَّني شخصياً أشعر بكثير من المشاعر الإيجابية تجاه الرئيس أوباما؛ ولكنَّ هذه المشاعر يجب ألاَّ تكون في منزلة المواد الأوَّلية التي تُصْنع منها سياسة؛ ولَنْتَذَكر دائماً ذلك الذي قال: "أُحِبُّكَ يا أفلاطون؛ لكنِّي أُحِبُّ الحقيقة أكثر". قبل نحو قرنين من الزمان، زار البارون همبولت رئيس الولاياتالمتحدة جيفرسون، فوجد جريدة على مكتبه، فلمَّا تناولها وجد فيها مقالاً قد امتلأ بكلمات السباب والقذف في الرئيس، فنظر إلى الرئيس، وقال: "كيف تسمحون بهذا السباب؟!"، فأجابه الرئيس قائلاً: "خُذْ هذه الجريدة وضَعْها في جيبك، فإذا وجدت من يشك في حقيقة حرِّيتنا، أو حرِّية الصحافة في الولاياتالمتحدة، فأعْطِها له"! ولقد وقف أوباما في ليلة الانتصار ليقول لجمهوره المنتشي، وللعالم أجمع الذي عرف الرئيس بوش كيف يُكرِّهه بالولاياتالمتحدة، إنَّ في هذا الذي حدث الليلة خير ردِّ وجوابٍ على كل المشكِّكين المتشككين في العظمة القيمية للولايات المتحدة، التي في قوَّة قيمها ومثلها ومبادئها، وليس في قوة اقتصادها وجيشها، على ما قال الرئيس المنتخَب، تكمن عظمتها. لتقارنوا الآن بين القولين والعصرين حتى تقفوا على السبب الحقيقي لظاهرة أوباما، ولانتصاره المدوي. إنَّ أوباما، ظاهرةً وانتصاراً، هو البيان الذي فيه، وبه، أعلنت القوة العظمى في العالم إفلاسها القيمي، وسقوطها الفكري المدوي، فهذا الرجل، وبما يمثِّل، إنَّما هو خير دليل على أنَّ الدهر قد أفسد الولاياتالمتحدة؛ ولن يكون في مقدور أي عطار أن يصلح شيئاً أفسده الدهر! لا تنظروا إلى أوباما فحسب؛ ولكن أُنْظروا من خلاله إلى ما يتوفَّر "المُنْقِذون"، من رجال ومؤسسات وقوى، على صنعه، أو اجتراحه، فالسؤال الذي استبدَّ بتفكيرهم (الاستراتيجي والتاريخي) إنَّما هو: هل بقي، بعد هذا السقوط القيمي والفكري والإيديولوجي المدوي، من شيء إيجابي يمكن فعله، ولو عن اضطرار، توصُّلاً إلى اجتذاب العقول والقلوب، على استعصاء الأمر، بعد، وبسبب، كل هذا الخراب البوشي، إلى الولاياتالمتحدة، التي استبدَّ بها الشعور بالعظمة حتى عاملت العالم بأسره على أنَّه الأصغر منها في كل شيء، عدا المساحة والسكان؟ لقد حاروا في الجواب حيرة من يحاول الحصول على شيء من إنسان ما عاد يملك من هذا الشيء شيئاً؛ فهل يقولون للعالم ما قاله جيفرسون للبارون همبولت وهم الذين يعلمون علم اليقين أنَّ "غوانتانامو" هي "الحقيقة" التي تمحو كممحاة كل رواية جديدة يخطها مداد الوهم، وأنَّ "الحرب على الإرهاب" لم تنتهِ إلى إلقاء القبض على أسامة بن لادن وإنَّما إلى إلقاء القبض على خير ما تمتَّع به مواطنو الولاياتالمتحدة من حقوق وحرِّيات ديمقراطية ومدنية.. أم يقولون، وكأنَّ العالم له عيون لا تبصر، وآذان لا تسمع، وعقول لا تعقل، إنَّ لدينا فخر ما صنع، ويصنع، التاريخ، وهو "الليبرالية الجديدة"، في الاقتصاد والإيديولوجيا، والتي لِفَرْط كمالها واكتمالها حقَّ لها أن تأمر التاريخ بالتوقُّف عن الحركة، فاستخذى لها، وتوقَّف؟! ولكن، كيف لهم أن يقنعوا العالم وهو الذي عاين وعانى عواقب الانفجار المتسلسل لفقاقيع "الليبرالية الجديدة"، والذي ما أن وقع في "وول ستريت" حتى أصابت شظاياه العالم أجمع، في دليلٍ على أنَّ الولاياتالمتحدة ما عاد في مقدورها، بعد، وبفضل، عولمتها لليبراليتها الجديدة، أن تنتحر من غير أن تنحر العالم معها؟! هل يقولون للعالم الذي أثخنوه هُمْ بجراح التعصب الديني إنَّ الولاياتالمتحدة ولو فقدت أعزَّ ما تملك لن تفقد أبداً تفوقها العلماني، وتساميها عن كل تعصب ديني يَسْقُط بالبشر إلى الدرك الأسفل من الوحشية في صراعٍ يشبه صراع رجلين أصلعين على مشط؟! وكيف لهم أن يقنعوه وقد رأى "الثيوقراطية" تنمو وتزحف، بفضل "المحافظين الجدد"، حيث "هُبَل الحرية" يرمز إلى الماضي، ويُبْلِغ إلى شعوب الأرض أنَّ "الحرية" في الولاياتالمتحدة أصبحت أثراً بعد عين؟! لم يبقَ في "احتياطهم القيمي" من قيمة يمكن إذا ما أشعلوها أن تضيء كضياء شمعة في ظلمة الكون إلاَّ "مساواة الأسود بالأبيض" مساواةً ليس فيها من الذهب سوى لمعانه، فوقع خيارهم على أوباما؛ وهل للمفلس من خيار غير العودة إلى دفاتره القديمة لعلَّه يعثر فيها ولو على ثلاثين من الفضة؟! وخطب أوباما في جمهوره وكأنه أراد أن يقول، أو أرادوا هُمْ أن يقولوا بلسانه، إنَّ للعالم أن يشكَّ وأن يتشكَّك في كل ما كنا نفخر به من قيم، كالحقوق والحريات الديمقراطية والمدنية، ومبادئ السوق الحرة، والليبرالية الجديدة، والعلمانية ونبذ التعصب الديني؛ ولكن ينبغي له أن ينحني لنا إجلالاً واحتراماً بعدما أقمنا الدليل الحي على أننا قد طلَّقنا ثلاثاً التعصب العنصري ضد السود (والملونين على وجه العموم) وجئنا بهذا الرجل إلى عرين الحضارة الأنجلو-ساكسونية، أي إلى البيت الأبيض؛ وذهبت تلك الليلة التي كانت ليلى؛ وليلى هي الخمر. مَنْ يمثِّل مَنْ؟ هل الولاياتالمتحدة تمثِّل أوباما أم أوباما يمثِّل الولاياتالمتحدة؟ نحن العرب اعتدنا أن ننظر إلى غيرنا على أنه نسخة منا لجهة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فالحاكم عندنا يملك من جبروت السلطة (الفردية) ما يَحْمِلنا على النظر إلى دولنا على أنَّها ممثِّلة لحكامنا، فنميل، بالتالي، إلى أن نفهم الرئيس أوباما فهماً مشابها. إنَّ أوباما هو ممثِّل للولايات المتحدة، التي لا يقرِّر مصيرها فعلاً إلاَّ تلك الحلقة الوسيطة، أي التي تقع بين الرئيس وناخبيه؛ ولعلَّ خير دليل على ذلك هو المصير الذي تلقاه عادة الوعود والشعارات الانتخابية للمرشح الرئاسي الفائز، ف"لغة الشعب"، وعبر "المُتَرْجِم"، أي الرئيس، شعبي القلب طبقي الرأس، تُتَرْجَم ب "لغة الطبقة ذاتها". الانتخابات مع طرفيها (الناخب والمرشَّح) وصناديقها وحملاتها وبرامجها وشعاراتها إنَّما تقع وتحدث حيث ينعدم الوزن، أي في خارج مجال الجاذبية الأرضية؛ أمَّا الحكم فلا يُمارَس إلاَّ ضمن مجال الجاذبية الأرضية، حيث تظهر الأوزان الحقيقية، والفروق بينها. كان أوباما في منتهى الشفافية والوضوح والصراحة إذ قال في خطبة النصر إنَّه يأتي إلى الحكم "صفحة بيضاء"، وكأنَّ كل وعوده وشعاراته الانتخابية لم تنل من قوَّة بياض صفحته، وكأنَّ أمر تلوينها وتخطيطها والكتابة عليها يعود إلى جماعات المصالح الخاصة المنظَّمين جيداً، والذين هم، في نزاعهم واتفاقهم، في منزلة الرقبة التي تحرِّك الرأس في البيت الأبيض. ولقد شرعنا نرى "الصفحة البيضاء" وقد امتلأت بكل الألوان والخطوط عدا لوننا وخطنا، فنحن لا نملك إلاَّ "اللوبي الأخلاقي"، الذي لا يملك إلاَّ أن يدعو لأوباما أن يريه الله الحق حقاً ويرزقه إتباعه، ضاربين صفحاً عن حقيقة أنَّ الرئيس هناك لا يُنْتَخَب، وإن انْتُخِب، وإنَّما يُصْنع صناعةً. العالم تفاجأ بمنح جائزة نوبل للسلام للرئيس أوباما؛ ولكنَّ عليه ألاَّ يتفاجأ إذا ما قررت اللجنة نفسها منح الجائزة نفسها لنتنياهو، مكافأة له على جهوده ومساعيه ل"السلام الاقتصادي" مع الفلسطينيين؛ وهل بيغن وبيريز يستحقان جائزة نوبل للسلام أكثر منه؟ ولو كان ل"السلام"، ول"جائزته"، من معنى لَمَا فكَّر المانحون في منحها لهتلر! جواد البشيتي