ظل المحاضر المشبوه يمطر جمهوره بقشور "السوسيولوجيا" و هو يقارب ظاهرة لا يمسك بأسبابها الحقيقية إلا نمور هذا العلم، عرف في دواخل نفسه أن الموضوع الذي جازف بالخوض فيه يحتاج بحثا دقيقا و غوصا عميقا في جدات الكتب لاستجلاء كهوفه و الإحاطة بتضاريسه المعقدة... غير أنه استغبى جمهوره و اكتفى بمسحات سطحية و رذاذ ممسوخ بدل أن يفك عقدا شديدة الإحكام عمرت طويلا في أمخاخهم، زادها استحكاما ورسوخا، أحس بنشوة عظيمة حينما رأى جميع الطلاب يخطون في أوراقهم ما كان ينثره عليهم، لكن بينما كانت نظراته تسافر هنا و هناك في أنحاء المدرج، لمحت عيناه طالبا نحيفا ذا قسمات خشنة قاعدا في الصف الخلفي مكتفيا بتشبيك يديه و تصويب نظرات ليزرية ثاقبة نحوه، بدا للمحاضر أن الطالب ذا النظارتين الصغيرتين لا يعدو أن يكون من المستهترين المبيدين للوقت، بيد أنه بعد انتهاء المحاضرة و تفضل بعض الطلاب بمداخلاتهم التقليدية المعهودة تناول الطالب النحيف الكلام وشرع في إرسال صواعق النقد إلى المحاضر قائلا :" إن كان ما تقدمت به له صلة بالسوسيولوجيا فسيشيب رأس الجنين في بطن أمه و إن كان ما فسرت به الظاهرة صحيح فستقام جنازة للعلم..." استمر في الكلام عن الظاهرة بحذق بالغ وذكاء نادر، و بكلمات قليلة موزونة بالذهب أوصل رسالته إلى الجمهور الذي وعى الموضوع و أدرك حيثيات الظاهرة بدقة متناهية. أما المحاضر فلم يملك إلا أن تصنم و طأطأ رأسه مصغيا للطالب في ذهول، فقد أحس بغبن شديد و عاش لأول مرة في مسيرته مراسيم قتله رمزيا، و شعر بأن عورته العلمية قد ظهرت للعيان، خصوصا حينما رأى الطلاب يكمشون أوراقهم و يرشقونه بها فقد علمهم النحيف في الأخير بأن العلم الحقيقي هو الذي يفك العقد و لا يعقد و هو الذي يعري و لا يغطي. منذ قتله رمزيا، لم يعد محاضرنا يبرح المكتبات، وراح يحشر نفسه أينما حمي وطيس النقاشات العلمية، فقد أضحى كل همه ترقيع الشرخ الذي أحدثه الطالب النحيف في عباءته العلمية لما أقدم على كشف مكنونه الفظيع أمام الجميع، فما زالت تلك الكلمات التي قصفه بها منحفرة في ذهنه و وجدانه و بات شبحها يطارده في يقظته و رقاده... ذات يوم و هو مستلق على سريره يستجدي النعاس، أخذ يسترجع بحرقة ذكرى تلك المراسيم المأساوية قائلا في نفسه" آه... فعلا لقد كنت واهما أني محاضر..." أطلق ضحكة كما لو سمع للتو نكتة شديدة الإضحاك وسرعان ما استحضر قولة عالقة في ذهنه لأحد المفكرين: " تصبح ناضجا بعد أول ضحكة حقيقية تضحكها على نفسك." أمسى محاضرنا مصرا كل يوم على التهام مئات الصفحات من كبائر الكتب و الاقتيات دوما على أطباق شهية من النعم الرمزية، حريصا أشد الحرص على إعداد مواضيعه بفائق العناية و بالغ الدقة دون إفلات للصغيرة والكبيرة، فأصبح مع مرور الأيام و الشهور شعلة متقدة علما جديرا بحمل لقب "المحاضر"، وبات الطلاب يقصدونه من كل حدب و صوب حتى إن الكثير منهم صاروا يفرون من مدرجات محاضريهم الكلاسيكيين و يلتحقون بمن عاد حيا من قبره الرمزي، غير أن المحاضر كثيرا ما كان ينحدر متواضعا من برجه مكلفا الطالب النحيف بالتربع في مكانه لإمتاع الطلاب بكنوزه و خيراته الرمزية. فنال إعجاب طلابه خصوصا حينما قال لهم يوما :"رب طالب علم كان أولى بأخذ مكان محاضره".