سمعت خبر وفاة عبد الوهاب المسيري على التو من قناة الجزيرة و أنا أتناول وجبة الفطور، فلم أتمالك نفسي من شدة الخبر فقمت مكبرا؛ الله أكبر ..الله أكبر ، و اغرورقت عيناي بالدموع ، أمام أسرتي التي اندهشت لتكبيري ، أمي بدأت تسألني بفضول زائد ، ما الذي ألم بك ؟ فكرت مليا في الإجابة، فقلت لها مات مفكر مصري عظيم اسمه عبد الوهاب المسيري، فلهجت أمي بدعاء رحمة، و تسمرت أختي في مكانها وغادرتنا بذاكرتها متجهة إلى برنامج بلا حدود ، فأجابتني بخشوع، آآه هداك لكيجيبوه في الجزيرة و كيهدر على ليهود. قلت: لها نعم.. "" خالجني شعور محزن صباح هذا اليوم (الخميس)، و في نفس الوقت استمتعت بتجوال ذاكرتي في علاقتي مع هذا المفكر العظيم ، رجعت بي ذاكرتي لآخر ملتقى علمي حضرته حول فكر عبد الوهاب المسيري و نموذجه المعرفي بمدينة المحمدية ، و الذي نظمته منظمة التجديد الطلابي حيث استضافت ثلة من المفكرين و الباحثين لمدارسة فكره و نموذجه المعرفي، و أنا أتجول بذاكرتي أحسست بأني حرمت من الكلمة التي وجهها المسيري لطلاب المغرب في افتتاح هذا الملتقى لأني لم أحضر إلا في اليوم الأخير، لكن غمرني شعور بالفرح ؛ أن يخاطب هذا المفكر العظيم طلاب العلم بالجامعة المغربية مباشرة من القاهرة ، فهو الباحثة الألمعي الذي قضى كل حياته في البحث العلمي و النضال الأكاديمي ، و هو المناضل الشرس المنسق لحركة كفاية و الذي لم يجعله مرض سرطان الدم يتقاعس عن النزول الميداني في ساحة الشارع العام لشهود حرارة الجماهير الشعبية هو و زوجته ، وقلت في نفسي بمثل هؤلاء الرجال ينبغي أن يقتدي طلاب البحث العلمي الرسالي .. تذكرت في هذا الملتقى محاضرة المفكر المغربي سعيد شبار و هو يتحدث عن علاقته بالمسيري من خلال زيارته لبيته و الحديث معه في مصر ، و يحكي لنا كيف ألف موسوعة اليهود و اليهودية و الصهيوينة و التي أخذت منه ربع قرن، و يحكي كيف فكر المسيري في توزيع موسوعته ، التي كانت سببا في تلقيه أكثر من عشرة تهديد بالقتل ، يقول سعيد شبار : من خلال أصدقائه في كل بقاع العالم ، أرسل لكل صديق نسخة يحفظها عنده حتى لا يتمكنوا من مصادرة الموسوعة ، و من كثرة اللطائف الفكرية العميقة التي حدثنا بها عن المسيري ، في حصة المناقشة سألت المحاضر هل يمكن لي أن أحدث عنه أقول مثلا ؛ حدثني سعيد شبار عن المسيري قال ، و قلت له مضيفا هل يمكن لي أن أسقطك من السند و أسند الحديث إلى المسيري مباشرة فأقول حدثني المسيري قال ، فلم يجبني شبارا سوى بابتسامة جميلة كعادته . أول ما فكرت فيه بعد وفاته هو هذا الملتقى الجميل الذي حضرته مع طلاب المغرب و الذين انبهروا و اندهشوا بفكره الثاقب و بمشروعه المتجدد على مستوى الأنساق و النماذج المعرفية ، ثم رجعت بي الذاكرة إلى أول كتاب قرأته له صدر سنة 2002 " الفلسفة المادية و تفكيك الإنسان " حيث استعرته من عند أحد أصدقائي ، قراءتي للكتاب جعلتني ألج عالما فسيحا كثيف المفاهيم و المصطلحات التي ينحتها المسيري ، فأحس و أنا أقرأ الكتاب كأنك المسيري يرتب الجغرافية المفهومية لتفكيري ، و استشعرت قيمة الكتاب الذي أقرا ، حيث يقدم مادة معرفية جديدة في قراءة الغرب و فلسفته و نظرته للإنسان . كما أني تذكرت التعب الكبير يوم أن أقمت بجمع جميع مقالته التي كانت تنشرها جريدة التجديد المغربية ، كنت أذهب عند أحد الأصدقاء و أطلب منه جميع الجرائد القديمة ، فيمدني بها و آتي إلى البيت فأضع أمامي ركاما من الجرائد ، و آتي بسكين حاد فآخذ ما أحتاجه، فتكون المحصلة في الأخير، ستة عشر مقالا نشرت في الصفحة الأخيرة بعنوان نصوص مختارة ، أخذت كل هذه المقالات و نسختها ووزعتها على بعض الطلبة لاكتشاف فكر هذا الرجل العظيم . كما أني تذكرت ، أمتع دراسة قرأتها له حول الفيديو الكليب و العولمة ، و بحق كانت الدراسة جديدة في بابها فقاربها مقاربة جديدة انطلاقا من نموذجه المعرفي التفسيري ، وبالموازة دراسته المفسره المتألقة للحركات النسوية في العالم الغربي و العربي . و تذكرت أقوى صدمة معرفية له علي ، حينما قرأت مفهوم " تسفير الإنسان " ، و كيف استطاع أن يقارب الصراع العربي الصهيوني ، وأن يخرجه من دائرة التعاطي الديني المحض إلى دائرة الدراسات الاجتماعية و الإنسانية ، و استنتج أن دولة إسرئيل ما هي إلا امتداد للغرب الإمبريالي الإحلالي ، الذي ينظر إلى الإنسان نظرة مادية صرفة و يقيمه انطلاقا من إنتاجه المادي ، فعمل الغرب على تسفير كتل " الإنسان اليهودي " إلى فلسطين لأجل أن يستفيد منه وأن يتجنب المشاكل التي يمكن أن يحدثها في منطقته ، فكان هذا التفسير رجة فكرية لذهني و أذهان الكثيرين ، مستندا إلى معطيات كثيرة تاريخية و فلسفية. من الناذر ألا أجد عند أصدقائي الطلاب مذكراته الرائعة الممتعة التي تفاجئ عين القارئ لأول وهلة بعنونها الغريب " رحلتي الفكرية: سيرة غير ذاتية غير موضوعية في البذور والجذور والثمار" ، هذه السيرة العجيبة التي تبين الرحلة الفكرية لعبد الوهاب المسيري ، كيف انتقل من الماركسية إلى رحاب الإسلام و كيف انتقل من دراسته للأدب الإنجليزي إلى دراسة الصهيوينة ، ثم يتحدث عن كثير من المواضيع الشائكة في الغرب كالجنس و الإباحية ويفسرها تفسيرا ثاقبا ، بحق إن شباب القرن الواحد الذي يعيش زمن العولمة و المكدلة و الكوكلة إن لم يقرأ كتاب " رحلتي فكرية " كأنه لم يقرأ شيئا ، إنه كتاب مبهر ، يجيبك إجابات تنأى بك عن البساطة و التسطيح و تحلق بك عاليا في سماء التركيب الخلاق . هكذا ايها السادة ؛ يموت الرجل و تبقى أحلامه وأفكاره تسري في عقول و قلوب الناس كل الناس ، ما أجمل أن تموت و يتذكرك الناس بروائعك ، وبإنجازاتك العظيمة ، فهؤلاء يموتون ويبقون أحياء إلى الأبد ، ومنهم المسيري المفكر الخالد . [email protected] www.maktoobblog.com/father_father [email protected] www.maktoobblog.com/father_father