تعتري أحاسيسك اليومية مرارة مزمنة و توجعك آلام رمزية و ينفطر قلبك أشد الانفطار حينما ترى الحالة التي أصبح يحياها من أوكلت إليه مهمة صنع الأجيال و من كاد أن يكون رسولا، من إذا احترق أضاء الورى و تخرجت على يديه باقي المهن الأخرى،انه المدرس الذي بعث إليه الناس فلذات أكبادهم عاقدين عليه الأمل الكبير في أن يعلمهم و يعمل على تنويرهم ويغرس فيهم قيما فشلوا هم في غرسها في سياقهم، يرسلونهم غير مدركين في الأغلب الأعم لما يجري داخل المؤسسات التعليمية من "جرائم" ترتدي قناع التربية، و لما وصلت إليه حالة المدرس الذي صار يعيش أحلك أيامه بعد أن أفل نجمه و أضحى مفعولا به لا فاعلا و أداة تستخدم أينما أريد لها الاستخدام، هذا إن كتب له أن يعي ذلك بامتلاكه الحد الأدنى من النعم الرمزية و الخير الثقافي. تراجع الفعل التربوي للعديد منهم، طبعا إن كان في الأصل لهم، أما من أفلح فيهم في تكوين "مملكة رمزية" فهم قليلون قلة الديمة في البيداء و البحث عنهم كالتنقيب عن العظمة في الفقمة. و عموما فقد بات معظمهم عبارة عن أشباه مدرسين، لا يحملون من مهمتهم غير الاسم و أصبحت أنماطهم عديدة كلها لمسمى واحد هو "المندرس": - المدرس متوهم أداء الرسالة : هو صاحب الحقيبة المنتفخة أو جبل المعرفة، يتماشى انتفاخ حقيبته مع انتفاخ أوهامه، حينما تطالعه والجا إلى المؤسسة فكل شيء يوحي بالمنطق الكمي للمدرسة وثقافة الحشو و الملء التي تجمع الصالح بالطالح في سلة واحدة، لا يهم شيء سوى الدفع بالأمور حد الامتلاء ما دام في ذهنه الماسي المتصلب مرادفا للكمال و الجودة، كأن المدرس يأخذ عهدا على نفسه ألا ينتهي العام الدراسي حتى يكون قد أقحم جبلا في مخ المتعلم كمن يحاول غاية جهده إيلاج فيل في سم الخياط. يتوهم بحقيبته السمينة أنه "سقراط" المؤسسة و "ابن خلدون" زمانه و أنه يحمل علم الدنيا و ما فيها و أنه - لا غيره - صاحب الرسالة الحقيقية، بل هو "المهدي المنتظر" في حقل التعليم الذي سيأتي ليخلص المدرسة من آفاتها و شرورها ناسيا أو متناسيا أنه أب الشر بعينه. حينما ينهي حصة دراسية كأنه "أديسون" توصل إلى اختراع المصباح، يشير للمتعلمين بمغادرة الفصل بعد أن حقنهم بمعارف تعود إلى عصر "الكمبري" و حشا أذهانهم الفتية بما هب ودب في عقله من المعرفة البالية و المبتذلة نافثا فيهم سما زعافا يستعصي علاجه حتى من المعمرين الذين شابوا في علم النفس. ينسحبون انسحاب الأسرى من السبي و لسان حالهم يقول: "أعتقتنا رحمك الله"، وتنطبع في أذهان المساكين فكرة أن المدرسة ما هي إلا امتداد للقيادة أو مخفر الدرك أو للمؤسسة السجنية، كيف لهم أن يدركوا مغزى مقولة "بونابرت": "من فتح مدرسة فقد أقفل سجنا"، و الحال أن من فتحها فقد فتح أسوء السجون. أما هو فيتبعهم إلى الباب بخطى واثقة يتوقف عند مدخل الحجرة ملتقطا أنفاسه، يعتدل قليلا في وقفته ناثرا غبار المادة البيضاء من على يديه، يرسل نظرات إلى نظرائه مبادلين إياه النظرة نفسها، فترتسم على محياه ابتسامة كمن ينتشي بالانتصار في حرب ضروس. بعد لحظة يستقبل فوجا آخر و تقاطيع الطلاب توحي بالولوج إلى جهنم الدنيا قبل الآخرة، يوصد الباب بعد دخولهم و يبدأ " العلم الحقيقي" عنده في الغليان، طيلة الحصة يعلي من صوته محافظا على نفس الإيقاع و الحركات ضاربا عرض الجدار بفنون التواصل، و بصوت الرعد يستهل حصته بالجملة المشهورة "درسنا اليوم" فتهتز له السبورة قبل المتعلمين، موضوع التعلم آسن كثير الاهتراء لا يخاطب لبا ولا يحرك وجدانا، ولا يكلف نفسه عناء "تمليحه" حتى يستسيغه الطلاب، ينثر أسئلة هنا و هناك وفي ذهنه جواب واحد لها، ولو جاء الحق على لسان أحدهم فلا ترن في غشاء طبلته إلا كلمة: خطأ خطأ... أما إن جاء السؤال من أحدهم يستعديه، فالسؤال اختصاصه و الجواب اختصاصهم، والجور على الاختصاصات خرق للنظام، يتذمر الطلاب كل يوم، فأسئلتهم الملتهبة لا تلفي الجواب، فما عادوا يطرحونها فاستتب لديه الأمن بعد أن أباد أدمغتهم وخلت له الساحة فساد سيادة السباع في المفازة. - المدرس "المستخبز" : و أمثال هذا المدرس كثيرون تنسحب عليهم في الأغلب الأعم مواصفات الأول، غير أن ما يميز هذا الصنف من المدرسين هو سعيهم الحثيث خلف قبضة قروش تنضاف إلى أجرهم الهزيل لتقيهم شر اكتمال حياتهم و وصول الموت و هم دون مسكن لائق و دون امتلاك ذات العجلات الأربع المحسوبة على شرطهم في هرم المجتمع، أما المرأة التي تشكل الحلقة الثالثة ضمن الثالوث المقدس لرجل التعليم، فكثيرون قد اقترنوا بها مع أن بعضهم قد تقهقر سلما بعد ارتكابه هذا الفعل أو سلمين بعد فعل أفدح حين يعمد إلى وضع ثلاث "بيضات" في عش ليس حتى بعشه، ناهيك عن قبيلة في بلاده تنتظره لينتشلها من مستنقع العوز و كأن لعنة قد حلت به. يتبع المدرس الدنيا و نعمها ويلهث وراءها كالفهد المعاق وراء الغزالة الرشيقة هيهات أن يظفر بها. روي لي أن أحدهم أنشأ مشروعا لتربية النحل من أجل الاستفادة من مبيعات العسل حتى يرقع أجره الشهري، غير أن زميلا له قد نبهه في إحدى جلسات المقهى إلى التأثير السلبي لهذا المشروع على عطائه التربوي، إلا انه وبتحد و استعلاء منه أخبر صاحبه أن لديه القدرة على الجمع بين الاثنين: تربية النحل و الأطفال، هنيهة و دون أن يدري أنه يفضح نفسه أقر بأنه في إحدى الأيام تعرض للسعة نحلة على وجهه نفخت له محيط عينيه حتى أصبح صينيا من الطراز الأول، وأن ذلك قد منعه التوجه إلى المدرسة ثلاثة أيام خشية تهكم و سخرية المتعلمين، فضاع لهم زمن نفيس حتى استرد ملامحه المغربية، وبهذا أقام عليه زميله الحجة القاطعة على صحة طرحه فبدا من تعابير وجهه استشعاره لجريمته. أما أنا فحينما رويت لي هذه القصة فكرت قليلا و قلت لنفسي: فعلا إن النحلة كانت على صواب و كأن لسان حالها يقول له لما همت بلسعه: أيها الشقي، اذهب لأداء رسالتك و تربية الطلاب فهذا هو الاستثمار الحق للأمة، و دع عنك تربية النحل لمن هم دونك في المنزلة الاجتماعية. أما مدرس آخر فقد حول المختبر التجريبي لمادته إلى متجر لبيع اللوز مستغلا توفر المعدات و منها الميزان و وحداته، فأصبح يكيل لهذا و ذاك من المدرسين الذين لم يفوتوا فرصة اقتناء اللوز ما دام متجره قد استوطن في مقر عملهم. و ليس بائع اللوز وحده التاجر، فهناك صاحب زيت الزيتون يهرب القارورات في جوف المؤسسة محاولا إخفاء ذلك غير أنه وكما يقال: "فيك رائحة الدم أيها الذئب سرقت"، فبقع الزيت تطال سرواله في زوايا قد لا تظهر له مشكلة عندما تختلط بالمادة البيضاء خرائط أرخبيل من الجزر. المهم صارت المؤسسة مسرحا للمبادلات التجارية و سوقا لرواج السلع بدل أن تكون سوقا صغيرة لرواج القيم و فيض نعمها على المجتمع. - المدرس المراهق: أمثال هؤلاء كأصحاب "الهيب هوب"، لا يستطيع الوالج الى المؤسسة التفريق بينهم و بين المتعلمين، كونهم لم يتخلصوا بعد من شوائب الصبا في ملبسهم و سلوكهم و ضروب معاملاتهم، تلفي الواحد منهم متعطشا لأن يعيش حياة الثانوي في كل تفاصيلها، أما أن يفقه الوزر الوازن الملقى على عاتقه من خلال رسالة التدريس الجسيمة الخطر، فهذا من الأمور المحسوبة على الخيال بل على العدم. يتوغلون إلى المؤسسة بمشية شديدة الاصطناع على رؤوس أصابع القدم بحقيبة خلف الظهر و مقدمة اليدين في الجيب الضيق، يرفعون رؤوسهم عاليا ويستديرون يمنة و يسارا استعلاء و استعراضا للعضلات المعرفية الوهمية التي لا وجود لها إلا في عقولهم و في غالب الأحيان تجدهم يتأففون من الوضع و من السلوكات الطبيعية جدا للمتعلمين و المستوى الحضيضي الذي بلغوه معرفيا و مهاريا و قيميا ، يسارعون إلى تحميلهم المسؤولية فيما وصلوا إليه موهمين أنفسهم أنهم قد أدوا أدوارهم كاملة غير منقوصة و هذا دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الأسباب الحقيقية لهذا المآل والتي يشكلون طرفا متعاظما فيها، هذه الأسباب التي لا يفقهها إلا سوسيولوجي عميق البحث قد قارب ظواهر المدرسة ماكرو-سوسيولوجيا و ميكرو-سوسيولوجيا وأثبت أن المدرسين رقم كبير في المعادلة من شانهم تصيير الأسود الكالح أبيض ناصعا و جعل المدرسة تنبض بالحياة و الرقي بالمتعلمين إلى المستوى المطلوب. - أصحاب المقاهي: هؤلاء كثر في هذا العصر، أصبح اليومي عندهم مقرونا بالمقهى أو عند البقالين، من درس فيهم صباحا تجده قابعا فيه مساء، ومن درس مساء لم تفته قعدة الصباح، باتت مرابضهم في المقاهي معروفة عند القاصي و الداني، حتى إذا أراد شخصان أن يلتقيا ربطا مكان التقائهما باسم أحد المدرسين الذي عوض اسم المقهى إن لم يكن قد ألغاه، حتى إن كثرة ارتياده لها توشك أن تجعله يرتقي لاستحقاق أن يكون إحدى ورثة صاحبها، تصبح المقهى في بعض الأحيان غير عادية و كأن شيئا ينقصها إذا غاب أحدهم عنها. يلتقي الكثيرون منهم ضمن جلسات رباعية أو خماسية يحتسون في الغالب بريد شاي مقتسمين أداء ثمنه و يشرعون في نقاشهم اليومي الكلاسيكية مواضيعه و الموزعة بين الترقية في السلم و مواعيد الإضراب و المواضيع التقليدية حول المدرسة من قبيل الصدام مع طالب مشاغب أو عراك مع أحد الإداريين أو تفاصيل شديدة التسطيح حول الحياة المدرسية من وثائق و مذكرات تقليدية و مشؤومة، و في أحسن الأحوال يخترقون مواضيع ذات علاقة بالتربية و فنونها غير أنها في الأغلب الأعم تكون من صنف المواضيع المقتولة بحثا، ثم إلى غير ذلك من المواضيع التافهة و الهامشية التي يفيض الكلام حولها فيضان النهر على جانبيه، و فعلا فقد لامس الصواب من قال: "يستغرق الكلام حول المسائل التافهة وقتا كبيرا لأن الكثير منا يعرف عنها أكثر مما يعرف عن القضايا الهامة". وقد دأب أحدهم على ثقب آذان بعض المدرسين بكلام يردده يوميا كالببغاء حتى بلغت فيهم السآمة و الضجر مبلغا عظيما، دون أن يسأم هو منه، يغرق جلستهم بحديث عن نقابة هو محسوب عنها و دائما يذكرهم بانجازاتها العظيمة مصورا إياها كجيش عرمرم عاد من نصر كبير. أما هو فيخيل إليه انه المدافع الأكبر عن رجل التعليم و أنه إمبراطور النقابة الذي بدونه ضاعت حقوق المدرسين و مصالحهم، في أحاديثه نبرة ثورية مبالغ فيها إلى حد كبير حتى لأنك تعتقد انه "ماركس" أو "جيفارا" عصره دون منازع. لا مضمون في حديثه قد يوزن بالذهب، و حينما يجنح أحسنهم ثقافة لإعلاء النقاش و ملامسة القضايا الملحة، ينبري ذوو الثقافة المتواضعة، فيحتدم النقاش و الفكر، في حين يفقد هو متعة الجلسة و حلاوتها فيحاول البحث بعينيه عن جلساء عزيزة عليهم نقابته أو يحاول جاهدا إن لم يجد أحدهم اختراق النقاش بمواضيعه الدينصورية لكسر الحوار فتثار حفيظتهم جميعا فينصرفون واحدا واحدا تاركين له الكراسي تتوسله الرحيل. - المدرس صاحب "المملكة الرمزية": هذا الأنموذج هو من لا زال يحفظ للمدرسة - إن وجد فيها - ماء وجهها، يستطيع المحسوبون على هذا الصنف تشكيل "ممالك رمزية" لا ترى للعيان، و لا يلمسها ذوو الألباب العادية، غير أنها ضاربة أطنابها و مترامية الأطراف يبدأ مركزها من المؤسسة إن لم يكن من الفصل و ينتهي محيطها خارجها حيث أريد له أن ينتهي حسب نوع الأسلحة المعرفية المحشوة بالقيم و الجيش الرمزي و المقدرات المهارية و الثروة الثقافية المملوكة لصاحبها، قد يصل نفوذ المملكة إلى نواحي مستعصية الاختراق و يتغلغل حتى داخل البيوت ليشكل نوع أحاديث الجلسات الحميمية بين مختلف الأفراد و الفئات، بل إذا بلغت المملكة غاية بطشها و جبروتها فإنها قد تخلخل بعض بنيات المجتمع و تصنع نورا يكسر سواد الظلمة، فيستوي العمران في سكته، وتتفتق الأزهار واعدة في الآتي القريب بأحلى الثمار. غير أن للمملكة أعداء شرسون بعضهم يعلنون بالصراحة العداء و البعض الآخر يعرقل المسار بالسير عكس التيار، إلا أن ما يجمع هؤلاء الأعداء سعيهم الدؤوب لتفتيت المملكة و تقليص مداها بالأسلحة المضادة، و هدم المباني و ناطحات السحاب الرمزية، فيشلون حراك العمران و يسحقون الأزهار المتفتقة . يلج صاحب المملكة الرمزية المدرسة فتفوح رائحة الثقافة و يشرع معمل الفكر بالعمل، ترى الطلاب مشدوهين بحركاته و سكناته فتتبلور فيهم أخرى غير تلك التي ألفوها، يرمقون المدرس بنظرات يسطع منها البريق، و أفواههم مفتوحة كالطير الصغير في العش يترقب قوتا من أمه، تلاحق الأعين المدرس حتى يتوارى في الفصل كغطسة الشمس في الأفق. أما الفوج الذي يهم بالولوج إلى فصله فهو "شعب الله المختار" ،يصطفون حتى قبل رنين الجرس المشؤوم كمن يريد الحصول على حصته بعد أزمة خبز، يدب النشاط و تسري الحياة في عروقهم و هم يدخلون إلى عاصمة "المملكة الرمزية"، يتم كل هذا تحت مرأى طلاب المدرسة الذين تتبعثر طوابيرهم أمام فصول مدرسيهم، تبرح أعينهم المكان و تسافر نحو الفوج المنعم عليه، لا تعود من سفرها إلا بعد أن يختفي ذيل الطابور و يوصد الباب، يعرفون قطعة العذاب التي تنتظرهم في سجنهم، ساعة كأنها الدهر كله، أما الفوج المختار فالساعة كالرمشة لا يفهمون كيف قضت نحبها، غير أنهم لأول مرة يفهمون نسبية "اينشتاين" تلقائيا دون معلم. يقف الإمبراطور الرمزي في الفصل أمامهم و نظراته ترسل الحنان و توزع الأمل عليهم خالقة فيهم ارتياح حضن الأم، أما قاموسه فيخلو من كلمات المشاغب و الكسول و المستهتر، يعلم علم اليقين أنه الأب الثاني و الطبيب المعالج، و أنه قد حمل أمانة على العاتق كالجبل و أنه من الأوائل الذين فقهوا علة دنو المدرس من الرسول. فيا من غاصت قدماه في حقل التعليم، في أي صنف أنت محسوب ؟ فقط يبقى أن نشير إلى كوننا لا نعدم وجود مدرسين جديرين بحمل هذا الاسم و كثير منهم يجاهدون للخروج من "بيدر الاندراس"، كما أننا واعون تمام الوعي بجبروت العوامل الاخرى خصوصا من الحقل السياسي و التي لها حصة السبع في صناعة هذا الواقع المرير، إلا أن هذا لا يسقط أبدا مسؤولية المدرس و دوره الجسيم في قيادة التغيير مهم ازدادت شدة وطأة "الآلة السياسية".