أنزل صاحبنا محفظته الثقيلة من على كتفه و حملها في يده حاثا خطاه نحو فصله، توقف لبرهة عند مدخل الحجرة ينتظر قدوم "لحيمات الناس"، نظر إلى محفظته المنتفخة اليوم بسخرية غير مألوفة و قال في نفسه: "بارك الله فيك أيها العلم الراقد هنا، زدت ربا فوق ربا يا أيها الخير الثقافي، استرح فبعد قليل ستشتغل و بك سنصعد مراقي الحضارة و نلحق بركب الأمم... لا بل سنفوتهم و نجعلهم يتبعوننا..." قطعت جلبة الطلاب تفكيره و قد وصلوا متثاقلين كمسيرهم إلى السعير، ناداهم في قرارة نفسه وهم يلجون الفصل: "أدخلوا لكي أعلمكم، أدخلوا لكي أقص عليكم أكبر كذبة في التاريخ، هيا يا أبنائي لكي أحول رؤوسكم إلى براميل مجلجلة و أفرغها مما تبقى فيها من إمكانيات استدراك العقول و احتمالات النجاة في استئناف النماء الحقيقي، هذه مهمتي و رسالتي النبيلة... ادخلوا لأوزع عليكم أشهى حلويات الأوهام،... أنا أمتلك منها الكثير، ما أسهل رواج بضاعة الأوهام هنا و ما أكثر تجارها ... أنا أحدهم، نعم، أنا أحد العساكر المسخرين لذلك، لا أكون على راحتي إلا إذا حققت مبيعاتي من الأوهام أرقاما قياسية و عمت أكبر عدد من الزبناء". تذيل طابور طلابه متجها صوب مكتبه المتهالك و سيل من الأفكار يراود ذهنه، لم يفتح محفظته اليوم كعادته، توسط منصة الفصل بعد أن تربع الجميع على مقاعدهم، لم ينبس ببنت شفة إلا بعد أن ثبتهم من فرط تركيزه، وجل الطلاب من بياض عينيه الذي استحال أحمر و أوشك على دفق الدم من عروقه، تصنم الجميع كالأوثان كل جوارحهم قد طلقوها و أودعوها لديه، أخيرا راح يخاطبهم بصوت شديد الوثوق و قد عم سكون رهيب: "لا...لا... أنا لن أكذب عليكم بعد اليوم يا أبنائي سأحكي لكم اليوم قصة الاستعمار الحقيقي، فاسمعوا: أولا، أتدرون من أنا؟ بالتأكيد لا تعرفون، أنا خادم صغير للحكام و وسيلتهم على الأرض للتحكم، أنا أداة من الأدوات التي ما انفكوا يستخدمونها لتأبيد هيمنتهم و منع انبلاج عقولكم، هذه العقول التي يعرفون أنها يوما ما ستكون سبب دمارهم و معول حفر قبورهم، أنا بوق يسعون من خلاله إلى إسماعكم صوتهم قائلين: يا فائض البشر و يا بقايا الناس، ابقوا على حالة آبائكم و أجدادكم ببؤسها الفادح و عوزها الشديد، و إياكم ثم إياكم أن تسول لكم أنفسكم مجرد التفكير في الارتقاء إلى جنتنا، فهي لنا و حدنا، يكفيكم أن تحيوا بالهواء، ألا تفهموا؟ ألا يكفيكم الهواء؟!. نعم يا أبنائي، هذا ما يقوله من يحكمكم حينما يعقدون اجتماعاتهم، هذا ما يردده الطغاة كلما لملموا صفوفهم: دعونا نغتال العدو الغاشم المهدد، انه أخطر الأخطار، نعم انه حبيبنا العقل، دعونا ننسفه لكي يكون سهلا علينا حكمهم، هيا يا أصدقائي لكي نحولهم إلى قطيع من التابعين و زمرة من الأموات قيد الحياة، وزعوا المهام، الخطر قادم لا محالة. شيدوا المدارس في كل مكان، أوهموهم بأنهم يدرسون و يحلقون في سماوات المعرفة، يا مؤلفي الكتب المدرسية جففوا المناهج و المقررات و لا تدعوا فيها ذرة من الحياة، اعملوا على تخريج مدرسين لهم من نفس شرائحهم لكي يساعدونا في تخديرهم، دعوهم يعيشون هم وطلابهم في فلك الجهل الكبير، جاهدوا ما استطعتم على تزوير الواقع و خلق التناقضات و الانفصامات، استعينوا بعلم النفس في خلق الاستعدادات لدى الأطفال نحو التسليم و التقبل، اسهروا على أن ينطبعوا بسلوكات الإحجام و الخوف و الاستسلام، حذاري من أن تفوح رائحة النقد و التمحيص لديهم فهي بداية اشتغال الآلة العقلية لديهم، لذلك احرصوا على قتله عند بزوغ أول أعراضه، شعارنا "تربية معطوبة من أجل شعب معطوب".المدارس، يا لها من بنايات عجيبة، إنها وسيلتنا للترويض المنظم و العجز المتعلم، هي معتقلات لاحتواء الفائض البشري الذي لا نفع يرجى منه، كل فصل زنزانة يحرسها حارس من حراسنا الميامين، اضمنوا لهذا الحارس فقط قوت يومه ليستمر في أداء مهامه، دعوه ينشغل بهموم الدنيا لا بهموم الفصل الدراسي، ما أجمل أن يكون حاضرا جسدا غائبا عقلا، فهو على كل حال بهذا سيحرس القطيع القابل للتمرد في أي لحظة، لا توحدوا رواتب المدرسين، اتركوا الحسد يدب بينهم و ينشغلون بالتنافس التافه بينهم، إنها آلية من الآليات الرائعة لكسر كل مشروع وحدة قد تقوم بينهم، أينما رأيتم متنطعا بينهم استميلوه عندكم و أغدقوا عليه النعم ليخرس لسانه إلى الأبد. نحن يا أصدقائي المتسلطين نملك اليوم طرازا رفيعا من الأسلحة هو أعتى ما أبدعته عقولنا النيرة، انه التحكم في المواطنين في عقر دارهم بفضل الصندوق العجيب المركون في غرفهم كسلطان يأمر على عرشه أو كشيخ يفتي على منبره، انه حبيبنا، زينوا لهم من خلاله الدنيا و اعرضوا في شاشته كل ما لم يستطيعوا تلبيته على أرض الواقع. احرصوا على أتفه البرامج، خاطبوا بها عقولهم الباطنة. بفضل الغزارة الكبيرة للصور تستطيعون تربيتم بشكل غير مباشر و تمرير القيم التي تشاؤون، اضمنوا أكبر نسب للمشاهدة من فضلكم، شعاركم: "مزيد من الغباء بمزيد من الإلهاء". ابحثوا لنا نحن عن آخر ما استجد من كتب سيكولوجيا الجماهير، همنا ترويضهم و صناعة أفواج من القطعان يهون توجيهها و يسهل تخويفها عند إشهار أصغر عصا، اياكم أن يحصلوا على مثل هذه الكتب، فقد يتم إفشاء السر الأكبر و عندها يقضى علينا. آه، لا تنسوا سلاحا آخر انه مؤسسة الدين، المدرسة تحتوي الصغار وهذه تحتوي الكبار، انتقوا الخطباء من كبار أشرار الناس و وجهوهم، أكتبوا لهم الخطب و احرصوا على صياغتها صياغة تساعد على خلق النعاس العظيم، احرصوا ألا تكون لها علاقة مع الواقع النتن، إذا وجدتم خطيبا يحرك البرك الآسنة فكونوا له بالمرصاد، أنزلوه من المنبر و قولوا له: احفظ خطابك لنفسك، ألا تخجل من نفسك، أنت تسمو يا أيها السفيه بأرواحهم، و تمهد لاغتيال أرواحنا. آه، لدينا أحباء كثر، حبيبتنا المقهى انك تسدين لنا معروفا كبيرا، اجمعي هؤلاء الحثالة ليخرجوا من الميادين فنحن نخشاها نعم نخشاها...اعرضي لهم المباراة تلو المباراة، قومي بإلهائهم من فضلك، آه أيتها المهرجانات كم أعشقك، أكثروا منها، نظموها حتى في أقاصي الجبال و القرى النائية، أخلقوا وهم الفرحة الكبرى دعوهم يصفقون بحرارة فبلدنا يزدهر. امنحوا الناس المستوى النباتي من الحياة، تذكروا فقط ما يحفظ رمق الحياة، الوحدة هي الخطر الأكبر المحدق بنا شتتوها في جميع السياقات، أخلقوا الشجار أينما حللتم، أخلقوا الخلاف و النعرات، دعوهم يتحاربون و نحن نتفرج، فرخوا الأحزاب و كل حزب ضعوا له بيضا يحضنه لكي يفقس مزيدا منها، أخلقوا وهم التعددية و التمثيلية الكبرى، طبقوا نفس الشيء على النقابات فرخوها، فهمتم، كسروا الوحدة أينما أرادت أن تتبدى. الم تفهموا آخر صيحات موضة السوسيولوجيا و قانونها ماذا يقول: امتلكوا المعرفة من أجل السلطة، ألا تعرفون كيف نحافظ عليها؟ ابعثوا أبناءكم إلى بلاد الفردوس و دعوهم يعيدون احتكارها، و اتركوا أبناء القواعد الشعبية، أتركوا هؤلاء لمزيد من المسخ و الانمساخ في حلقتهم المفرغة، ماذا سيحقق أغلبهم، بالطبع لن يحققوا شيئا، سيبقون في دوامتهم لا يخرجون منها، على الأقل ما دمنا مالكين للرساميل المادية و الرمزية، الآن لا تفوتوا الفرص أبدعوا مزيدا من الآليات التحكمية، فبها نسود و نطغى. أنهى صاحبنا درسه و صاح فيهم بما أوتي من قوة في حنجرته : هيا اخرجوا و لا ترجعوا إلي أبدا...إلا إذا كان ما يكون و سيكون هو ما نريده نحن...خرجوا و بعد عام بدأوا يتجمهرون في الميادين و يرددون: "الشعب... يريد...".