دوى الجرس معلنا بداية الامتحان . الأستاذة المراقبة، لاهتة ، ما زالت تستفسر عن وجهتها : " القاعة رقم أربعة ، على اليسار" أجاب أحد المسيرين بحماس وامتعاض . بسرعة ، اخترقت حشدا من الواقفين، يتوسطهم مسؤول كبير ، هكذا بدا من لباسه الأنيق ، خصوصا ربطة عنقه المحكمة على صدره ، والتي وسم سوادها ، ودقة ضبطها بياض شعره وقميصه بالتميز اللافت . سلكت المراقبة أول ممر على يسار الساحة الفسيحة التي ابتلع الضباب جزء كبيرا منها في ذلك الصباح الخريفي البارد . محملقة ، عدت: واحد ، إثنان ، ثلاثة ، لتجد نفسها أخيرا في القاعة رقم أربعة . جلست إلى زاوية المكتب التي أفلتت من ثقل المحافظ ، حقائب اليد ، الملفات والكتب . استوت على الكرسي محاولة استجماع قواها المبعثرة ، بعد رحلة شاقة : حافلة ، سيارة أجرة ومشي على الأقدام . مع ذلك لم تصل قبل الجرس ، ولم تشارك الأستاذ المراقب في توزيع الأوراق . قدمت اعتذارا. تلقت ابتسامة و كلمات :"ما كاين مشكل " ، وغلافا أصفر به أوراق أسئلة تغيب أصحابها . رمت ببصرها إلى الممتحنين ، كانوا أساتذة . أغلبهم ذكور، جمعهم هدف الظفر بتسمية جديدة في الإطار ، و إضافة مادية إلى الراتب الشهري ، وإحياء تجربة التباري بما تبقى من نفس . اعين توزع نظراتها بين الاوراق و الاشخاص و الجدران. وشوشات ، انحناء و قيام . أحدهم أخرج سيجارة ، تأملها ثم أعادها حيث كانت . مدرسة في الأربعينيات استدارت إلى أخرى ، همهمت لها بسرعة وعادت إلى وضعها تصوب نظرات في كل اتجاه ، وبيدها تدس ما انفلت من شعيرات تحت غطاء رأسها القاني . مدرسون في الخلف ، تكثلوا للحظات ، ثم انفضوا واستووا علىمقاعدهم . عيونهم زائغة. بين هؤلاء ، قلة اكتفت بتأمل ما يجري ، والحملقة في الأوراق . أحدهم انهمك في قضم أضافره ، تائها بين النافذة وورقة الأسئلة .جلس المراقب الثاني قبالة الممتحنين ، أخرج محمولا ، قرأ شيئا وكتب شيئا . أخفى المحمول وأ طرق تساءلت المراقبة : "كيف يراقب الشخص مثيله ؟ كيف يراقب المدرس المدرس ؟ تذكرت طفولتها ، عندما كانت مدرسة الإبتدائي تختارها و اثنثين من زميلاتها لحراسة التلميذات كلما غادرت الفصل للإفطار مع المدرسات ، والتحدث عن الأعراس ومشاكل الأزواج . لا زالت تتذكر كيف كانت تمسك بعصا المدرسة ، تصوبها نحو كل من تتفوه بكلمة ، ثم تجلس إلى المكتب تدون اسم المسكينة ، غير آبهة لاستعطافها . مشهد توقف عنده الزمن . هي الحراسة ، في كل زمان ومكان ، الفرق أنها وهي طفلة ، كانت تترقب بلهفة خروج المدرسة لترفع العصا مزمجرة: من تتكلم أدون اسمها ! وبالطبع ، كانت الألسنة تخرس تماما ، والأنامل الصغيرة تتكور في الجيوب طلبا للدفء والأمان . أما وهي مدرسة ، حضرت باستدعاء رسمي مختوم لمراقبة الممتحنين ، فإنها تتمنى لو يفعلها الزمن مرة واحدة ، فيبتلع اللحظة البئيسة كلهارحمة بها و بالتاريخ المنهك ...ويأبى الزمن إلا أن يكمل المسير وكأنه لا يسير وتنكفئ الرؤوس على الأوراق بعد حمى الدقائق الأولى للإمتحان ، ومحاولة التموقع في قلب الحدث .متفحصة ، مترقبة ، أخذت المراقبة تحملق في الممتحنين ، تسعفها لعبة طالما تسلت بها في حراستها للصغار والكبار : تمعن النظر إلى الى الممتحنين ، الغافلين و المتغافلين ، حتى إذا استشعرت نظرات أحدهم مصوبة نحوها ، أطبقت عينيها أو غيرت هدفهما . لم تستطع المضي في أطوار اللعبة ، سئمت التربص و القنص . ثم هي تعلم جيدا أنها الخاسرة في البداية و في النهاية ، لأنها موضوع تربص عشرين ممتحنا ، وبالطبع ، لابد أن تسقط فريسة مهما كانت متيقظة ماهرة في مطاردة لعينة كهذه . أشاحت بوجهها إلى الباب ، حيث أحدهم يقتحم القاعة . باحتراف ، ألقى نظرة خاطفة وغادر ليعود بعد ثوان ومعه المسؤول الكبير ، وشخص آخر وابتسامة عريضة . استوى المراقب واقفا . تململت المراقبة قبل أن تقرر البقاء جالسة . اخترق المسوؤل الكبير الصفوف ، يجود ببصره على القاعدين ، وعلى المكتب المحمل بالملفات حقائب اليدو الكتب. وبابتسامة ، ودعاء " الله يعاون . " ، أنهى إطلالته ، وغادر تحفه انحناءة من مرافقيه، ورد من بعض الممتحنين : " شكرًا ، بارك الله فيك " بفضول، قامت المراقبة ، اتجهت نحو الباب تشيع الموكب بعينيها وكأنها توثق لزمن آت . أكثر من عشرين قاعة أخرى تترقب الإطلالة ، ولعبة العد متواصلة بين عاد ومعدود . سرب من الطيور السوداء يمزق مسحة ضباب متبقية ، يدوي بصراخ وصفير فيضيف لعنة إلى لعنة . استعاذت بالله ثم استدارت إلى القاعة. سارت قليلا بين الرؤوس المدفونة في الورق، بينما عاد المراقب الثاني إلى كرسيه ومحموله . ثلاثون دقيقة مضت على انطلاق الإمتحان والأقلام لم تعرف بعد طريقها إلى الورق . الأعين والألسن لم تفصح بعد عن استحسان أو استهجان . لكن بين الحين والآخر ، نظرات متبادلة ربما يكون لها ألف معنى . لم تقو على الوقوف ، خواء معدتها و ركبتيها أرغماها علع الإرتماء من جديد على كرسي المكتب ، فهي لم تفطر كعادتها. توجسها من لحظات كهذه يسد نفسها تماما عن الطعام . فتحت حقيبة يدها العالقة بين ركام المكتب . أخرجت قلما ولم تجد ورقا تذكرت الغلاف الأصفر . سحبت منه ورقة عبئ نصف صفحتها بسؤال عريض : " إلى أي حد يمكن للبرامج والمناهج التربوية أن تساهم في إدماج المتعلم في محيطه الإجتماعي والإقتصادي والثقافي ؟ " ترددت قبل أن تسطر على الصفحة الأخرى ، كالعادة ، خطوطا وكلمات ، قد تعمر في درج مكتب لسنوات ، وقد يدفعها الفضول أو الحنين إلى فك رموزها كما يحدث في كل مرة ، لتبدو وكأنها وليدة اللحظة ، ولتزداد يقينا بأن الزمن لا حدود بين لحظاته ، فالحراسة هي هي ، وطقوسها هي هي ، وما ينطبق على الصغار يشمل الكبار أيضاً ... خطت : كيف ارتبط الإمتحان بالحراسة ؟ من وضع هذه القوانين ؟ إن السماء لا تعترف إلا بحراسة النفس للنفس ؟! هي إذن قوانين الأرض ، أدارت ظهرها لكل قيمة أخلاقية . هو تنكر الجسد، الطين ، لنفخة الروح الإلهية ، وتمطط أبالسي آمره الهوى . قوانين تربي الصغار على أن يراقبوا ويراقبوا . فن التربص ، عطاء الفطرة للحيوان ، وصناعة يلقنها الإنسان للإنسان ، في تبادل للأدوار ، بين متربص ومتربص به ، حيث لا فرق بين ذكر وأنثى ، بين متعلم ومعلم ، بين صغير وكبير...!!! تساءلت : ماذا لو ألغيت الحراسة وترك كل ممتحن أمام رقابة الذات ؟! متبسمة : عندها لن نعود بحاجة إلى حراس ، وإلى مسوؤل كبير ، ولن يحتاج المسوؤل الكبير إلى أكبر منه لو قرر إجراء امتحان الترقي ...! أمام عينيها تمثل مشهد مغر : قاعة تضم مسوؤلين كبارا ، يخوضون امتحان الترقية إلى مرتبة أعلى : بدلات أغلبها سوداء ، قمصان بيضاء ، ربطات عنق بكل الألوان تستقر على الصدور، وحتما حراس ومسوؤل أكبر يجره طاقم في جولة تقص كما العادة ... تسلسل لمشاهد لا يعلم متى يسدل الستار عليها إلا الله . في يأس ، رمت بالورقة والقلم على زاوية المكتب . أخذت تتطلع إلى الرؤوس تتنحنح ، فتكشف عن وجوه شاحبة ، أغلبها تجاوز الأربعين . شد نظرها وجه جد نحيف في المقعد الأول : لحية مهملة وتجاعيد هلت قبل الأوان . القلم بيمناه ، يحركه في الهواء حركات دائرية . شيئ يمضغه لكن بقليل من الأسنان ، تكاد سدرته الصوفية الكبيرة تبتلع جسده النحيل، وعيناه الغائرتان في تراقص بين الباب والقلم . جلس في المقدمة ، كأنه ربان سفينة ، ركابها أساتذة ، استعاروا مقاعد تلامذتهم الصغيرة لصبيحة مشهودة . في الوسط ، حظي مدرس أحدب بكرسي خارج المقعد الضيق . واثقا من نفسه ، إنهمك في تقليب أوراقه والهمهمة بما يشبه الكلام . مدرسة شذت عن كل ذلك ، جلست بمحاذاة المكتب ، الورقة بين يديها ، تلامسها الكلمات بإصرار . ينافسها مدرس ، انزوى في ركن القاعة يمينا ، متحررا من ساعة يده ، ومن معطفه الجلدي . أحاط نفسه بأقلام ومبيض وقنينة ماء صغيرة ومناديل ورقية ، يسطر على الورق بلونيه ، الأصفر ثم الأبيض ، وعلى محياه مسحة رضى . ووجوم غزا الباقين ، استوطن ساعة بدت كالدهر. وأخرى يتيمة متبقية على النهاية . الأوراق لا زالت تنعم ببياضها ، أما أوراق التسويد ، فقد لطخت بطلاسم ، أو ظلت على حالها . وكأن القاعة كانت على موعد آخر ، فجأة ، تغير كل شيئ ، و بشبه إجماع ، بدأ الكشف عن المستور: أخذ الممتحنون يخرجون مطبوعات ، منسوخات من كل مكان ، من جيوب سدراتهم و معاطفهم ، من تحتهم ، أو بكل بساطة وانسيابية ، من تحت أوراق التحرير . أسئلة من هنا وأجوبة من هناك. الأعين تخلت عن بالتربص بالمراقبين ، في محاولة مجنونة لاصطياد أي شيئ يملأ البياض . مدرسة جاءت المكتب تترنح ، التقطت حقيبة يد سوداء براقة ، بثقة وهدوء ، أخرجت كومة من الأوراق . بعناية ، انتقت بعضا منها . لم تحكم إغلاق الحقيبة ، رمت بها ، و باتسامة قاتلة حيث الركام ، و كلام ، تعمدت تفجيره في المراقبة دون أن تنظر إليها: " ماذا عسانا أن نفعل ، فمواد الإمتحان كثيرة ، والعمل بالقسم شاق ؟! "وعادت مسرعة رغم ثقل جسمها وثقل فعلتها ، تسابق ما تبقى من زمن الإمتحان . هاجت القاعة رقم أربعة وماجت . اتضح الطريق بعد توهان . لقد بدأ الإمتحان بالفعل . من الورق إلى الورق. تراقص مجنون لا يقدر على إيقافه إلا دوي الجرس القادم في الطريق . اعتصم المراقب بالباب يوزع بصره وابتسامته بين القاعة والساحة . انتفضت المراقبة واقفة . كادت تصيح وتزمجر في الجميع ، لكنها تذكرت ما حدث في مرة سابقة ، حين واجه الأساتذة الممتحنون استنكارها بحقد وسخرية شرسين ، وباستغراب ، طلب منها أحد المسوؤلين التغاضي حفاظا على أعصابها ، وقد كان طلب المراقب الآخر أيضاً . وبالفعل تغاضت ، وتغاضت ، أراحت القوم وانبرت لذاتها تبادلها تعذيبا بتعذيب ... وأخيرا ، دوى الجرس حاملا نهاية الصبيحة المشهودة . توافد الأساتذة الممتحنون على المكتب ، سلموا الأوراق للأستاذ المراقب الذي كان في الإنتظار . وقعوا ، انتشلوا حقائبهم وملفاتهم من تحت و من فوق الركام . ابتسموا . شكروا و غادروا. آخرهم كان نحيف المقعد الأول . وهو في الطريق إلى الباب ، كشف عن إحدى ساقيه ، سحب كتيبا من جوربه . ضمه إلى حزمة أوراق ملأت جيوب سدرته. أخرج محمولا ضائعا بين الأوراق وغادر : عين على المحمول وأخرى على الساحة . منتصف النهار . انقشع الضباب عن الحجر والبشر . عجت الساحة بجموع الأساتذة يتأبطون الملفات و الحقائب ، يلوحون بهواتف ، و بسؤال و جواب : " كيف كانت الحراسة ؟ ". " رائعة ، ولكن المشكلة هناك !!! أحست المراقبة ببرودة شديدة . سلكت أقصر ممر إلى الباب الخلفي للثانوية ، تتوارى عن الحشد ، ليقع بصرها على المسؤول الكبير عالقا بين قهقهات ، وعلكة ، ورؤوس مصبوغة وأخرى مغطاة و متمنيات بالصحة و التوفيق ...!!! لاهتة ، منهارة ، انطلقت المراقبة...صراخ يدوي في داخلها.