..في ذلك المكان ذو التضاريس الجبلية في سلسلة دائرية وعرة, تترامى مجموعة من الدور و الأكواخ, مشكلة غطاء لما يشبه ذلك الصحن المخلوق من قش نبات خاص, يخصصه سكان المنطقة لحفظ قطع الخبز .. حقيقة هو مكان يقسو فيه الطقس على أكف الأطفال و يترك على أخاديدهم الصغيرة آثارا حمراء ملتهبة .. تستطيع أن تتأكد من ذلك إذا استيقظت عند كل موعد ذهاب إلى المدرسة .. أعرف عددا منهم لم يسبق أن حصلوا على علامات جيدة في كل فصول البرد و الصقيع.. حجرة الدرس شاسعة البناء و النوافذ المكسرة و السقف القزديري يحدث ضجيجا باستمرار في كل مرة جادت فيه السماء .. تصادف الأطفال بأجسامهم النحيلة يصارعون أكواما من الوحل الذي يغطي كل الأزقة و هم يتأبطون قطعا من الحطب في لهث مضن تحت طلب معلم ملحاح .. لم يكن حسن من بين هؤلاء الأطفال, لقد كان أميرا على ضيعة لم تكن بعيدة عن مركز المدينة .. كان ذلك البلاط العالي الأسوار الذي تطل من خلاله أشجار الفواكه و الصفصاف .. كان حسن يمضي كل وقته في عالمه الممتع .. يطارد كل الكلاب المتسللة إلى بلاطه الصغير.. إنه يعرفها جميعا .. و كان يضع لكل واحدا منها اسما خاصا به.. و أحيانا أخرى يدافع عنها من كل معتد أجنبي .. بل كان يحضر لها ما تبقى من فضالات الطعام .. كان يقلد أصوات العصافير و حتى أصوات القطط المتثائبة .. و من حين إلى آخر كان حسن يقترب من بوابة بلاطه الصغير.. ليطل من ثقبه المبعثرة و ما أن يحس بأثر أقدام قادمة أو صوت أجنبي يقترب .. إلا و أطلق ساقاه للرياح.. لا أدري ما الذي كان يخيف حسن.. و ما هو الشيء الذي يقمع فضوله عما يحدث في هذا العالم الواسع و الشاسع.. كان يهيء إليه صوت ناعم و حزين يناديه و يدعوه إلى التمرد عن هذه الأسوار الملونة باخضرار نبات اللواية.. و أصوات أخرى تدعوه إلى البقاء حيث هو و لا يدع فضول الأطفال المتخيل إليهم بأن شعلة النار لعبة ممتعة , يسيطر عليه... يمضي الوقت في الأذهان و بلغة الأرقام بجنون قاس.. يخرج حسن تاركا عالم القطط و العصافير إلى عالم بلا خرائط .. بلا منطق.. آه يا حسن؟ لو تعرف ما ينتظرك في عالم التناقضات هذا لفكرت ألف مرة قبل أن تفكر في ما ستقبل عليه.. . و الحقيقة أن خروجك الذي يشبه خروج فراخ العصافير من أعشاشها كان منتظرا ..أخرج يا حسن لكي تكتشف أن بلدتك مازالت تقع في الجزء الغير النافع وفق التقسيم الليوطي , وأن سكان كل المنطقة لا يشكلون إلا رقما لترجيح لون سياسي خاضع و مطيع .. و أنهم لا يشكلون إلا سواعد عمل في ضيعات و معامل أصحاب لياقات بيضاء .. و أن خيرات فوق و تحت الأرض تبخرت و ما زالت تتبخر لتتجمد في حسابات مجهولة.. حسن أيها المسكين أخرج لتتسكع في أزقة البلدة و أرجائها البئيسة, لا دور شباب تتبنى هواياتك .. لا أمكنة لترفه فيها عن نفس ضاقت بها الدنيا بما رحبت .. ليس لك إلا أن تجلس على قارعة الطريق في مقهى بئيس يقتل الآمال و يجعل الأحلام تتبخر ..و تصبح سرابا في صحراء مترامية الأطراف... بقلم عيسى