***** .." أعتذر للنّاس ان قصرت في تقديم حياتهم كما رأيتها وعايشتها بأم عيني لأنني وجدت أن الواقع أكثر قسوة من أن يقدّم على الشّاشة .. خالد يوسف مخرج حين ميسرة .. ***** .. يجزم بعض النّقاد انّه منذ فيلم عمارة يعقوبيان أخذت تتشكّل ملامح صحيّة لسينما مصريّة جديدة,واعيّة,مشبّعة بزخم فنّي جريء في شكل معارضة جدلية,صّداميّة وتصادميّة مع المؤسّسة السّياسيّة والدّينية,يمكن القول أنها سينما متمرّدة على ما هو سائد وتقليديّ ومحافظ,مختلفة عمّا كان سائدا في الماضي,بالضّبط منذ أواخر الثّمانينات حيث طغت سينما تجاريّة هابطة عرفت بسينما أفلام المقاولات أفقدت الفنّ السّابع لكلاسيكي العتيد كثير من بريقه و كرزماتيته, سينما الأسماء الفنيّة ثقيلة الوزن و القضايا الاجتماعيّة الكبيرة والإحاطات الفكريّة التّي صنعت سمعته ونجاحه في المحافل العالميّة,لذا يعتبر النّقاد دون وضع سينما يوسف شاهين في ذات الخانة بحكم أنّها ظاهرة فنيّة نادرة الحدوث,لذا فهناك شبه إجماع على انه منذ عمارة يعقوبيان الفيلم الدّكليك أو الأشبه نوعا ما بال 11سبتمبر سينمائيّة التّي غيّرت النّمط والسّلوك السّائدين في الإخراج وكتابة السّيناريو والتّصوير والإحاطة الشّاملة بنواصي المشاكل الاجتماعيّة الكبيرة والخطيرة وما تتستّر عليه من ترسبّات تابوهاتيّة مفترى عليها,كلّ هذا دفع بذات السّينما المتمرّدة كما يصفها المخرج خالد يوسف,الخارجة عن خطّ الرّقيب المؤسّستي للتّحرّر بعد عقود من التّقهقر, أي فتح علبة البندورا المصريّة الموصوفة بالمحظور والممنوع والغير المرغوب فيها وتسميّة الأشياء بمسمياتها الحقيقيّة بدون رتوشات كاذبة وهذا ما ينطبق خاصة على فيلمين مميّزين أثارا جدلا كبيرا في الأوساط الفنيّة والنّقديّة وهما[هي فوضى]إخراج الأستاذ والمعلّم يوسف شاهين وتلميذه خالد يوسف و[حين ميسرة]لهذا الأخير وما جناه عليه من ردود أفعال تهجميّة, متّهمة إياه بخدش الحياء العام والإساءة لرموز الدّين و الدّولة!.. [ 2 ] ..فيلم حين ميسرة يطرح أحد أخطر الظّواهر الاجتماعيّة التّي تتخبّط فيها مصر,ليس مصر وحدها بل كلّ دول عالم الثّالث,مثلا السّينما البرازيلية ناقشت بحدّة وموضوعيّة مع كثير من العنف والقسوة ذات الظاهرة في أحد أشهر الأفلام وهو[مدينة الله city of god]للمخرج البرازيلي فرناندو رييس,مشكلة العشوائيات أو ما يسمّى باللّهجة العاميّة"البرارك",الأحياء القصديريّة,التّي هي شكل عمراني فوضوي لا علاقة له بالنّمط الحياتي المعاش في المدينة بمعناها السوسيو-عمراني الأكاديمي,موازية بشذوذ ظاهر للعين أو هو التلصّص المكبوت والفضولي المحروم من خلف أسوارها وجدرانها المتهرئة لنبض الحياة الخارجيّة التي تتسمّ بالسّرعة واللاثبات والتّغيّر المتجدّد,غيتوهات تنبض بمصائر حياتيّة تعيسة لناس هامشيين مهمّشين,يولدون ويترعرعون ويكبرون وينضجون ويحبّون ويتزوجّون وينجبون فيها,هذا العمر الطويل الفاني في محاولة يائسة للنّفاذ من عنق زجاجة لكنّه خروج مستحيل,هو الخلود عند نقطة البداية الكارثية,بالضبط في بؤرة المأساة الأولى,إذا لا خيار إلا خيار البقاء في عشوائيتهم التي هي قضاءهم وقدرهم من المهد إلى اللّحد,في صراع شرس لإنقاذ الذّات والذّوات العائليّة المحبوبة من السّحق الفردي و الجّماعي لمنظومة اجتماعيّة واقتصاديّة أنانيّة وقاسيّة,تراجيديا إنسانيّة تجافي منطق النّضال القاسي وهو الخروج من النّفق, الانتصار على اللّعنة المتوارثة أب عن جدّ وهكذا دواليك,في حين ميسرة يحدث نفس الشّيء,لا وجود لخاتمة سعيدة,لنهاية الأحلام الورديّة السّاذجة,ما يحدث هو دمغرفة[ديمغرافية]الأخطاء والمشاكل على المستوى الأفراد والجّماعة وجنونيّة الأخطاء المكرّرة بإعادة إنتاج سير ذاتية عشوائيّة ثانية وثالثة وابتداع ظواهر اجتماعيّة أخرى أكثر جنونا وتدميريّة كالتّطرف الدّيني و الجّريمة المنظمة والشّذوذ الجّنسي من زنا المحارم والمثليّة الجّنسيّة والاغتصاب..و,النتيجة إنجاب أولاد غير شرعيين يلقى بهم في مقالب الزّبالة ويسمّون بأطفال الشّوارع, فينشئوا بدورهم في عالم الفقر والحرمان والتشرّد,لا تختلف حياتهم عن حياة القطط والكلاب الضّالة التّي تبحث عن طعامها في القمامة!.. [ 3 ] ..يروي الفيلم حكاية أسرة تعيش في القاع أو الهامش القاهري القاسي والعنيف,يسافر أحد أبنائها للعراق للعمل والآخر عاطل عن العمل,يقع في مشاكل جمّة أوصلته إلى السّجن كذا من مرّة,أما صديقته سميّة الخشاب الصّارخة أنوثة فتحمل منه وتضع مولودا يرفض الاعتراف به بسبب الفقر فتتخلى عنه في حافلة ثمّ تختفي,تتمفصل المصائر الفرديّة والجّماعيّة بدفق قصص يوميّة تصدم حياء الفضيلة والأخلاق وعزّة النّفس وتتشابك الأقدار المنحوسة ويجافيها الفال الحسن عداء وعداوة وتتنافى الرّغبة والأمل و الحلم في غدّ أفضل مستحيل التّحقق في قاهرة تتخبّط في مشاكل ديمغرافيّة ومعيشيّة واجتماعيّة جمّة,من هم هؤلاء العشوائيين؟, الهامشيين؟,المهمشين؟,المنسيين في جحيم جغرافيا متروبولية لا تنظر للأسفل؟,هن نساء شبقيات حزينات يعاشرن رجال كئيبين و مكتئبين خلف الأبواب الشّبه المفتوحة على فضاء ضيّق يسدّ الأنفاس ويسبب الغثيان لأزقة موحلة وقذرة من دون حسابات أخلاقيّة تذكر,تتقاذفهم على مدار ساعتين أذرع الفقر وشمولية العذاب المجاني وفساد سلطة الحزب الواحد وبارانويا جماعات الدّين المتطرّفة وبرغماتية راهن متوحش ولا يهادن ولا يبتسم ولا يرحم,في هذا النّسق السّيناريوي القبيح يناضل سكان الحيّ العشوائي بما فيها عائلة البطل[ حشيشه]من أجل الخبزة أو"العيش"في ظروف لا إنسانيّة حيث تنخر يومياتهم البائسة واليائسة التّي تفتقر للكرامة الإنسانيّة البطالة والعنف و الجّريمة والانحلال الخلقي وفساد الذّمم,عندما لا يجد عملا يعيل به أسرته كثيرة العدد يلجأ للاتجار في المخدرات فيصطدم بأحد بارونات الحيّ مما يضطره لمواجهته والتّحول إلى فتوّة الحيّ ثمّ مخبرا للشّرطة لكنّه يصطدم و بسبب نزاع شخصي مع الضّابط المكلّف بالتّعامل معه,يلفق له هذا الأخير تهمة حيازة ممنوعات تلقي به داخل السّجن مرّة أخرى و عند خروجه يجد أن حيه تحوّل إلى وكر لجماعة أصوليّة متشدّدة تحاول تجنيده,أما عشيقته سمية الخشّاب الهاربة من زوج أبيها المتحرّش,فلقد أدّت بإقناع مدهش دور المرأة التّي يطمع في جسدها رجال ونساء مشرقيين يعانون من عقدة الجّنس التقليدي من بداية الفيلم الى نهايته,بدءا بمشروع الحبّ الفاشل ومرورا بتحرّش زوج أمّها وحادثة الاغتصاب الجّماعي التّي تعرضت له وفي أجرأ مشهد من مشاهد سينما الحداثة الفنيّة أو الصّدمة إن صحّ التّعبير,يصوّر المخرج مشاهد أقلّ ما يقال عنها أنّها الخبطة السّينمائية التّي من المؤكّد أنّها لن تتكرّر مع مخرج آخر,بالطبع بعد الخبطة الأولى التّي شاهدناها في عمارة يعقوبيان التّي صورت بجرأة قلّ نظيرها المثليّة الجّنسيّة بين الذّكور,يعرض خالد يوسف مشاهد للممثلة غادة عبد الرّزاق الشّاذة جنسيّا تقبّل فيها سميّة الخشاب, بينما الأخرى تعلّق"هو انتو ملقتوش غير جسمي,تطمعوا فيه رجالة ونسوان",فتردّ عليها بحدّة"هو أنت عندك غيره يا روح أمك",لكي تعيل نفسها تمارس الأنثى البطلة التي تجسدها,بطلة مهزومة ومضطهدة في شرفها وحياتها أما جسدها فحدّث ولا حرج مهنا وضيعة للعيش بعدما سدت كلّ السّبل في وجهها ولسان حال المخرج محذّرا المشاهد من الخطر الذّي يتهدّد المجتمع و هو أن المرأة العربيّة الغير المتعلّمة والغير العاملة في العموم مصيرها الشّارع في مجتمع يعاني من مشاكل اجتماعيّة وماديّة كثيرة ,تمتهن الرّقص في الملاهي وبيع جسدها للأغنياء الجّدد الذّين افرزتهم عولمة متوحشة,بينما ابنها الذّي دفعت به ظروف قاسيّة للتّشرد والعيش حياة الحرمان والّضّياع برفقة أطفال الشّوارع,تنجب منه صديقته رغم أن جسدها الغضّ الصّغير تداول عليه أكثر من شخص,لكنه سيبرهن عن أبوته بعنف شديد الغضب والكراهيّة عندما يحاول أطفال شوارع اغتصابها من فوق قطار هو نفسه القطار الذّي يركبه والده الهارب من الشّرطة والمتشدّدين وأمّه الهاربة من ملاحقة الشّرطة,في رمزيّة فنيّة ذكيّة من المخرج يحيل القطار في المشهد الأخير من الفيلم الذّي يجمع شمل العائلة المشتّتة إلى تلاحم المصائر وتشابكها عن بعد أو قرب وأي كان شكلها وشاكلتها,مهما كانت بيضاء أو سوداء,رغم اختلاف قصص وحكايات حياتهم واندماجها المثير مع آليات واقع قاس لا يرحم الكبار والصّغار وخاصة منها البراءة التّي تصبح الضّحيّة المفترس,لقد نجحت شخصيات الفيلم في ذوتة(استوعبت)اختفائها النّهائي عن خارطة الكرامة البشريّة منذ زمن أب عن جدّ,وهي لا تبحث عن سبيل للارتقاء الاجتماعي بل الى الحياة,مجرد حياة حتّى لو كانت جحيما على مقاس قدرتهم على المقاومة والصّبر على نوائب الدّهر,الجّميع كبار أو صغار يواجهون هدر ماء وجههم بابتسامة مقرونة بضمّ الشّفاه وطأطأة الرّؤوس وإخفاء سحنة الحزن الحاد والقاسي واستنكار بلغة الصّمت العاجز ظلم الطبقات وإقصاء الوصاية لهم..إن ارتباط الفيلم بالفقر والإرهاب وطريقة تعامل السّلطة العنيف والسّطحي مع هذه الظاهرة ليس ارتباطا عشوائيا أو مصطنعا,فالفقراء وبيئتهم السّكنية العشوائية مجال خصب لمصطلحات الهدم والتّهديم كالجّريمة,الانتحار,الدّعارة,الانحلال الخلقي, الإرهاب,التطرف,التمرد على السّلطة,تكفيرها وحمل السّلاح في وجهها,فالعشوائيات هي أشبه بمكان لتفريخ هذه الجّماعات و نشوءها ولعل أحداث الدّار البيضاء والنّهر البارد تؤكّد بالحجّة والدّليل هذا الارتباط الوثيق الذّي يحتاج إلى الجّرأة كجرأة حين ميسرة ليطرح قضايا الاستبعاد الاجتماعي والاستعباد الطبقي وما ينتج عنهما,أما تعامل السّلطة مع هذه الظاهرة فلقد كان دائما محصورا في معالجة أمنيّة وهي معالجة تزيد من تفاقم الوضع وتجّذره,ومن المفارقات السّاخرة التّي وردت في الفيلم وأظنّها لسان حاله وهي تلخيص ذكيّ لحبكته السّيناريوية,حيث نرى البطل وصديقه يجلسان على فرع ضيق من النّيل وفي حوار ثريّ بما يحمله من دلالة ضمنيّة,يقول أحدهم" نحن غير مرئيين وسوف نمرّ عبر هذه الحياة ونتركها دون أن يشعر بنا أحد,فلماذا ننجب أولادا غير مرئيين مسبّقا إلى هذه المزبلة المغطاة بالمجاري.."..وقد نجح الفيلم بفضل طرحه العميق والمتعمّق والجّريء إلى حدّ الفضاضة الفنية إن صحّ التعبير في إقناع النّقاد و دفعهم إلى التعامل معه والاحتفاء به واعتباره نقلة نوعيّة لسينما عانت كثيرا من رسوب مرحلة ماضية اتّسمت بالسّلبية والسّطحية والنّفعيّة الماديّة على حساب سينما الوعي وليس بعيدا عن هدا فلقد اعتبر الناقد سمير فريد حين ميسرة من أهم الأفلام التي أخرجها خالد يوسف كعمل يقدّم صورة فاضحة لواقع مفضوح,مشيرا إلى أهميّة لفت انتباه الجّميع وخاصة منها السّلطة المعنية بهذا المشكل لما ينجر عنه من مشاكل اجتماعية قد تنذر بالانفجار وياله من انفجار هدّام,وابلغ دليل على هذا هو ما حدث منذ فترة ليست بالبعيدة من خروج جموع المواطنين الغاضبة,رافعين لافتات تنادي بالعدالة,بتوفير الخبز,ب بالتنمية الغائبة, بالفساد الذي ينخر جسد وطن متروبولي مريض.. ...................... الكاتب والناقد السينمائي عبد الغني بومعزة