المغرب حاضر بقوة في الترشيحات لفئات السيدات لجوائز ال"كاف"    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    وزارة الاقتصاد والمالية: المداخيل الضريبية بلغت 243,75 مليار درهم عند متم أكتوبر 2024        في لقاء مع الفاعلين .. زكية الدريوش تؤكد على أهمية قطاع تحويل وتثمين وتسويق منتجات الصيد ضمن النسيج الإقتصادي الوطني    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    الفتيان يواصلون التألق بالفوز على ليبيا    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون    بوريطة يستقبل رئيسة برلمان صربيا        ولد الشيخ الغزواني يهنئ الملك محمد السادس بمناسبة عيد الاستقلال    العصبة الوطنية لكرة القدم الاحترافية تقرر تغيير توقيت انطلاق ديربي البيضاء    توقعات أحوال الطقس لنهار اليوم الأربعاء    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    تفاصيل نجاة فنانة مصرية من الموت        تلاميذ مغاربة يحرزون 4 ميداليات في أولمبياد العربية في الراضيات    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحلام صغيرة
نشر في مراكش بريس يوم 20 - 09 - 2009

استدار قرص الشمس في الأفق معلناً ولادة فجر جديد ،وأطول ليلة من ليالي الصيف اللاهبة في صحراء مترامية الأطراف.
كان لا يزال نائماً عندما فتح عينيه فجأة على لسعة خفيفة من خيوط الشمس التي دلفت إليه من خلال ثقوب عديدة من بيت الشعر الذي يضمه مع زوجته (ماوية) وأولاده الثلاثة : (ربيعه) وهو الابن الأكبر،و(جابر) وهو الابن الأوسط ،و(عتبة) وهو الابن الأصغر.
راح (حنظلة) الأب يتمطى ،يتثاءب بصوت مرتفع، لم يأخذ قسطاً كافياً من النوم بعد صلاة الفجر مع أسرته .جلس في فراشه مستنداً براحتيه على ساقيه الممدودتين ،فبدا ظهره مقسوماً، وقد وخط الشيب عارضيه، ينتعل جسماً نحيلاً ،قد جاوز الستين من عمره، تبدو حواجبه الثقيلة وهي تحتضن عينين غائرتين في صحن وجهه النحيف المستطيل ، ذي الأنف الطويل .سرعان ما احتبى بحزامه المصنوع من الكتان .
فجأة انتفض الأب(حنظلة) واقفاً من فراشه ، أخذ يزرع أرضية المحرم ذهاباً واياباً ،كان أمراً ما قفز إلى ذهنه فأقلق حياته ! كان الوقت يمر بطيئاً جداً ،وحرارة الشمس تزداد لحظه بعد لحظة ، فتلفح الوجوه،وسط صحراء مترامية الأطراف ، كأنه سياط غضب سلطها الرَّب على عباده ليعودوا إلى جادة صوابهم .
-قالت (ماوية) زوجة (حنظلة) :صباح الخير يا(ربيعه) . ردَّ عليها(حنظلة) زوجها: أسعد الله صباحك بكل خير يا أم ربيعه .
قالت مخاطبة له : ترى ما الذي جعلك تنهض من فراشك في هذه الساعة ؟
-رَدَّ وهو يتثاءب ،ويخلل بأطراف أنامله الدقيقة شعر رأسه ولحيته . بعد صلات الفجر ،انتابتني تعسيلة ، شدتني إلى عالم آخر ،فرأيت حلماً مزعجاً ، سحبني منه لسعة الشمس الحارقة التي سقطت على صحن وجهي فأيقظتني من نومي.
-رسمت (ماوية) ابتسامة عريضة على محياها وسط عينين ذابلتين، انطفأ بريقهما ، رغم أنها لم تتجاوز الأربعين من عمرها.قالت له: اللهم اجعله خيراً،
-سرد عليها رؤيته ...توالت دقائق عديدة قبل أن يصحو بقية أفراد الأسرة. سرعان ما دَبَّت الحياة في مفاصل بيت الشعر المصنوع من وبر الجمال وشعر الأغنام ،تبادل الجميع التحايا.
-توجه الأب إلى قربة الماء المعلقة على حبال البيت المشدود ة بقوةٍ بحبال واهية إلى الأرض المكشوفة ،حيث تتعرض للهواء فيجعل الماء فيها باردً ! إلى حدما...تناول القربة، ارتشف جرعات في حركة تظهر أن الماء فيها على وشك النفاذ . كانت أصوات رشفه للماء تحدث صوتاً مسموعاً يضفي الحياة على البيت ، ويطرد وخم الوحدة القاسي، مسح فمه بثنايا ثوبه القديم ثم قال : الحمد لله رب العالمين على هذه النعمة .أجابته زوجته (ماوية) :هنيئاً لك يا أبا ربيعه . َرَّد هَنَّأَكَ الله يا أم ربيعه .
-واصلت زوجته (ماوية)حديثها وكأنها تبرر قلة الماء في القربة ..ما أسرع أن ينفذ الماء ،فقد ملأتها مع هدأة الشمس يوم أمس !
-قاطعها زوجها قائلاً: إن الفم السقيم لا يستسيغ الماء الزلال .
تبادل الجميع نظرة صامتة دون أن يعلق أحد على ما دار من حديث ،بينما بدا (جابر)الابن الأوسط يحرك رأسه يمنة ويسرى كأنما يريد أن يَطْرِدَ عن نفسه وطأة الوخم. كان (عتبه) الابن الأصغر عائداً من الغائط ،تنغرز قدماه في تراب الصحراء الرخو الذي بدا يسخن شيئاً فشيئاً.
-التفَّ الجميع حول طعام الإفطار البسيط ،الذي لم يزد في أحسن الأحوال عن قرص الملبل ، أو كسرة من خبز شعير ، وربما حبات تمر وشربة ماء .
-قالت الأم في حسرةٍ وألم وهي تحاول أن تخفي ذلك بلهجة حديثها العذب ،بقليل من الكلمات:لقد نفذ كل ما لدينا من طعام!!
-وقع كلامها عليهم كالصاعقة ، خيم صمت رهيب على الجلسة ريثما الأثر الذي تركه وقع حديثها !
-توالت دقائق عديدة قبل أن يتفوه أحد بكلمة .لَجَّتْ الحيرة لسان (ربيعه) ، ازدرد ريقه ،قال : نحن نقيم في هذا الشعب المنعزل ، وسط هذه الصحراء الجرداء ، التي تحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم كرعشة أبدية،تصرخ في هذا الصمت اللانهائي المطبق حولنا ،فيرتد الصوت من بعيد كشبح يعصر القلوب خوفاً من الخوف ،وارتعاشاً يزيد الجوع جوعاً ،والعطش عطشاً!! قاطعه والده قائلاً :لابد مما ليس منه بد ، وكل شيء مرهون بوقته يا ولدي .
-استكنت كلمات (ربيعه) (جابر) الأخ الأوسط فقال:منذ ثلاثة أيام خلت لم نذق طعاماً إلا الماء فقط، وهذه الأحزمة التي نشدها على بطوننا لم تغن عنا شيئاً.فما العمل ؟ أردف قائلاً:وكثيراً ما حدثنا أبي عن البُر الذي لا نعرف له طعماً ،أو لوناً، بل نتذوقه في أحلامنا الصغيرة فقط ،سكت لحظة ثم انطلق قائلاً:أطول من هذا المد الممتد في أعماقنا خسرنا حلماً جميلاً .كان ليلنا طويلاً على سياج حدائق البر التي يبدو أننا لن نراها ابداً هنا .
-(ربيع)هل يعقل أن نجوع نحن هنا ، وتصنع الوحوش من عظامنا موائداً لها؟!
-غمغمت الأم بكلمات غير مفهومة ،دون أن ترفع رأسها من الأرض ،انصرفت وهي تومي برأسها لتقوم بعملها لإعداد القهوة .
-خَيَّم الصمت بُرهة قبل أن ينطق (عتبه) مسترسلاً في حديثه فقال: لماذا نحن هنا يا أبي وحدنا هنا دون البشر؟! لا أصحاب ، لا أقارب ، لاجيران! لماذا لا نرحل من هذا المكان الموحش؟هل كتب علينا أن نمضي أعمارنا هنا بين الوحوش ؟
-لم يجب أحد على أسئلته ،بدت كسياط لاهبة ،لم يكسر جمود الصمت سوى دقات مهباج القهوة تتتابع في يد الأم وهي تسحق حبات البن ،كأنها في دقاتها المتتالية تعزف لحناً جنائزياً ،بينما لهب النار يهبط، يرتفع كوجه الأسئلة التي سمعتها فتشتعل في صدور الجميع شفقة على أبنائها ،زوجها من هذا المصير المؤلم دون أن تشارك في النقاش. فلديها ما يكفي من أعمال تلهي بها نفسها عن سخونة الحوار.
-استكنت عواطف الحيرة والخوف والتأنيب (حنظلة) ربُ الأسرة ، ارتد رأسها إلى الوراء كأنما دفعته قبضته يد قوية إليه دون رحمة .
-رَفَعَتْ الأم يديها وهي تنظر إلى السماء قائلة :يارب رفقاً بهذه القلوب الغضة ، الأحلام الصغيرة، يارب فرجك القريب .
-اعتدل الأب في جلسته ، رسم ابتسامة على شفتيه يداري بها قسوة الحياة ، هروباً من مواجهة التساؤلات المشروعة من الأبناء التي كانت كالسوط في حرارتها . فقال: يا أبنائي ..ما أحوجنا في ضعفنا وتعاستنا إلى الرحمة والمحبة والتكاثف إلى أن يأتي الفرج من الله . فلقد وعدتكم بالرحيل من هنا . ولكن هل تجدون وسيلة ما توصلنا إلى آمان ؟ أردف قائلاً :نعم الصحراء موحشة ،تنضح بالكآبة ، ومع ذلك تبقى مليئة بالمعاني العظيمة الجليلة ، التي قد لا نجدها في مكان آخر ،كالصبر ، والتحمل ،و التعاون ، والقيم ... ثمة مناظر ومعاني في الحاضرة يا أبنائي لا تتحرك قلباً ، ولا تخاطب وجداناً!!
-قال (عتبه) :لكن الأدب لا يطعم البطون الجائعة .
-الأب : اعلموا يا أبنائي أن كل شيء إذا كثر رخص ، إلا الأدب إذا كثر غلا .. فالحياة صفاء وكدر ، والصفاء الكامل يا أبنائي لا يوجد له في الأرض مثيل .كثيرة هي الأشياء التي نفتقدها ،وكلما خلونا إلى أنفسنا تلوح ذكراها لنا من وقت لآخر صحيح أننا نلتحف السماء، ونفترش الغبراء ، وليس لدينا ما نأكله بقيت يومنا هذا ، حتى لم توقد نار في بيتنا منذ أيام . لكنها حياتنا اعتدنا عليها واعتادت علينا ، حتى إنني أصبحت أجد ألفة في الوحدة بعيداً عن البشر !! ولو عشت بين البشر فقد أشعر بالوحدة والوحشة الحقيقية !! فليس لنا يا أبنائي إلا الصبر .
-مطَّ (عتبه) شفتيه ، كأنه يعبر عن رفضه لما سمع وقال :لكن للصبر حدود يا أبي ،وقد أشرفنا على الهلاك .
-(ربيعه) وماذا نفعل يا أبي لو جاءنا ضيف ونحن على هذا الحال ؟!
-قاطعه الأب بسرعة : لا تفتح ذهنك لهذه الأفكار الغير واقعية ،ثم صمت قليلاً ،أخذ يفكر في كلام ولده ،بعد أن ساوره شك قارب اليقين ، خاصة وأنه رأى ذلك في الحلم الذي أزعجه وحدَّث به زوجه (ماوية). أخذ يحملق في
أولاده واحد بعد الآخر وسط علامات الذهول والمفاجأة من هول الفكرة التي يحملها السؤال البريء .ثم وجه حديثه إلى (ربيعه) وهو يتأمله ويتفحص كلامه . ماذا قلت يا ولدي ؟
-أعاد (ربيعه) كلامه بنبرات خافته واضحة . ماذا نفعل لو جاءنا ضيف ؟
-ضحك الأب ضحكة لا معنى لها ، قهقه بصوت ع مرتفع ، كسرت الصمت المخيم على الجلسة ثم قال : ولكن من أين يأتي الضيف يا ولدي ونحن هنا في معزل عن العالم من حولنا ؟ رفع يده ،هزها يمنه ويسرى وهو يقول : دع عنك هذا الوهم إنه خيال ،وساوس ، أضغاث أحلام .
-قال(عتبه) لكن يبقى الاحتمال وارداً على أية حال .
-أضاف (جابر) : إذا كنا لم نذق طعاماً منذ ثلاثة أيام ! فكيف نتصرف مع الضيف لو جاء؟ تبادل الجميع نظرات صامته ، لم تدم طويلا حتى طغى صوت (ربيعه) على المكان صاح عندما يأتي الضيف يخلق الله مالا تعلمون .فهي زيارة عاجلة ، وليست زيارة مقيم بل عابر سبيل، فقد يرق قلبه لأحوالنا فينصرف لحال سبيله ،وربما نعتذر له بلطف ، وربما يرزقنا الله برزقه..
-سمع الأب كلام (ربيعه)وكأنه انتشله من بئر عميقة . قال مؤكداً على كلامه .نعم عندما يأتي البيت الضيف ، فإن لكل حادث حديث .فليس العاقل من يحتال للأمر الذي وقع فيه ، فنح أهل الكرم والجود وسنبقى كذلك إلى الأبد ومهما كانت الظروف سيجعل الله لنا مخرجاً فنحن نفعل مكارم الأخلاق . فلا تقلقوا يا أبنائي فرزقنا على الله .
-شعر (ربيعه) بالسعادة من إطراء والده ،كأنه منحه امتيازاً من امتيازات الرجولة .
عندئذٍ استلقى الوالد على ظهره ،ثنى ساعديه شابكاً راحتيه تحت رأسه متوسداً راحتيه ،بدا يحملق في الأفق بعينيه لا تريان شيئاً ،فلا يُسمع إلا حوقلته، أو استرجاعه ، ثم غَطَّ في نوم عميق .
-تفرق الأبناء في ظل بيت الشعر الذي يظلهم بظله ،راح كلٌ منهم يسرح بخياله و أحلامه .فهذا (عتبة ) يبدوا وقد احتضنته فرحة عارمة حيث نسي نفسه ومكانه وزمانه في حلمها الهادئ،وهو مستلق على ظهره ،و يضع رجله اليمنى فوق الأخرى محدثاً هزات منتظمة رتيبة في حركات مستمرة دون أدنى شعور منه ، ولم يخرجه من هذه الأحلام سوى شعوره بالعطش ،فاتكأ على راحتيه ، وقف منتصباً ، سار بخطوات وئيدة نحو قربة الماء ، وعندما وضعها على فمه وبدأ يرتشف أنفاساً من الماء ، حانت منه التفاته إلى الأفق البعيد ، اتسعت حدقة عينيه، توقف عن الشرب ،تربت قدماه في الأرض، سرعان ما استجمع قواه، صاح بأعلى صوته : يا أبي ،يا أخوتي ، انتبهوا ،هلموا إليّ ،وأخذ يشير بيده نحو جهة الشرق !
-هرول الجميع مذعورين بعد أن تجمعوا على عجل ، توجهت أنظارهم حيث أشار (عتبه) .
أسرع الأب حاثاً أولاده قائلاً :إلى أسلحتكم .فهناك شبح قادم من بعيد قد يكون عدواً . قال (جابر): وقد يكون شبحاً .قال (عتبه) :وقد يكون ضيفاً !
طلب الأب من بنيه مراقبة القادم بحذر حتى لا يغيب عن الأنظار تناول الجميع أسلحتهم ، حرابهم ، سيوفهم ، كنائنهم ،استعدوا للمواجهة المحتملة .
-(ربيعه) : لقد اقترب الشبح أكثر يا أبي . إنه ليس وحشاّ إنه ..... قاطعه الأب ....إنه رجل .
-أضاف (جابر) :نعم يا أبي إنه رجل ، يبدوا عليه الإعياء من شدة التعب والجوع والعطش ! قال (جابر) لقد بد أت الأمور تأخذ شكلاً جديداً ، لقد حدث ما كنا لا نتوقعه ! قال الأب : كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر ، إلا المصيبة فإنها تبدأ كبيرة ثم تصغر.
-قال (عتبه) : إنه ضيف يا أبي ألم أقل لكم بأنه ضيف .
الأب : (لقد صدق من حدسك يا عتبه) ثم أردف يا بشرانا يا أبنائي... هذا شرفٌ عظيم ، استعدوا لاستقبال ضيفكم بما يليق به .
أسرع الأبناء في إعادة أسلحتهم مكانها ، أخذوا في الاستعداد لاستقال الضيف القادم.
وقف الأب مخاطباً أولاده قائلاً : أبنائي الأعزاء ، قبل أن يصل ضيفنا أريد منكم جميعاً أن تشاركوني الرأي فيما أصنعه في هذا الظرف .من باب تبادل الآراء و المشورة بيننا كما عودتكم في كل أمر واعلموا أن الرجال ثلاثة : -رجل رجل ، ورجل نصف رجل ،ورجل لا رجل .
-قال (ربيعه ) :وكيف ذلك يا أبي ؟
أوضح الأب مفصلاً :_ فالرجل الرجل : هو الذي له رأي ومع ذلك يشاور غيره .
والرجل نصف الرجل : هو الذي له رأي لكنه لا يشاور غيره .
والرجل لا رجل : هو الذي لا رأي له ولا يشاور غيره .
ثم أردف قائلاً : والعرب تقول : من شاور الناس كسب نصف عقولهم .
-قال ذلك وهم يستعدون لاستقبال ضيفهم القادم من المجهول . ثم تنحى الأب جانباً ،ورفع رأسه إلى السماء مناجياً ربه بصوت مسموع قائلاً : يا إلهي ارزقنا برزق هذا الضيف ، إنه ضيفي ولا قرى عندنا ، فارزقه الطعام هذه الليلة بحق عظمتك ، ولا تكشفنا ولا تفضح سرنا .يارب برحمتك نستغيث .
كان الأبناء في هذه اللحظة يفكرون عن طريقة في كيفية الخروج من هذه الأزمة العابرة .
لم يدم الأمر طويلاً ويبدوا أن الأبناء حزموا أمرهم على شيء ما . ولم يخبروا بعضهم بل جاء كل واحد منهم على حده لإخبار والده بفكرته لَعله يجد مخرجاً للأزمة .
كان الأب وحيداً عندما اقترب منه (عتبه) حيث لاحظ علامات الحيرة ترتسم على وجه أبيه ، أشفق عليه ، في الوقت الذي لم ينتبه الأب إلى وجود (عتبه) أمامه . تنحنح (عتبه) وانٍ حتى لا يقتحم عليه وحدته ، كأنه يستأذن عليه في كسر خلوته بنفسه .
-حانت التفاته من الأب نحو مصدر الصوت . لكن (عتبه ) رسم على محياه ابتسامه كبيرة ، اقترب من والده قائلاً : أبعد عنك هذا الحزن ، وهذه الحيرة ، فالحل عندي _إنشاء الله _وطعام الضيف موجود !!
-قاطعه الأب مبتسماً :ومن أين يأتي الطعام يا ولدي؟ وأنت تعلم كطل شيء . نحن لا نملك كسرة خبز نقدمها له.
-(الأب) :لا تمزح يا ولدي . ودع عنك هذا الآن .
ردَّ عليه (عتبه) بإصرار _يا أبي _هانذا بين يديك ،أقدم لك نفسي لتذبحني ،لتقدمني طعاماً لضيفنا!! لكن لا تعتذر للضيف، فهو لا يعرفنا ،وقد يظن بأننا أصحاب مالٍ وطعامٍ وحلالٍ ،وبخلنا عليه، فيذمنا بين العرب !أرجوك يا أبي لا تتعجل بالرد .اذبحني، اذبحني .هذه شراييني خذوها ، انسجوا من نسلها،من دمها بيادق للكرم والجود في ديار العرب.
عقدت المفاجأة لسان الأب ،الذي احتضن ابنه (عتبه)وهو يبكي، يقبله، يحنو عليه،يمسح على رأسه .بحنان ،يربت على كتفه ،يتفحصه كأنه يراه لأول مرة ، فهو صغير ، لكنه يفعل فعل الرجال. بدت عليه علامات التأثر،خاطبه بصوت متهدج تقطعت أوصاله : بارك الله فيك يا ولدي ،بارك الله فيك .كان (ربيعه)و(جابر)ينتظر كل منهما فرصة سانحة للانفراد بوالده وإخباره بنفس الفكرة ،ومن عجب أن الولدين قالا لوالديهما وكل على انفراد نفس مقالة (عتبه) زاد إكبار الأب لأولاده ،بدو جميعاً على قلب رجل واحد.
بدت السعادة على محيا الأب ،لتصرف أولاده مخاطباً نفسه.لقد كبر أبنائي في نظري ،زرعت فيهم الأخلاق الفاضلة والكرم ،هذا يوم الحصاد .الحمد لله الذي شرفني بهم في الجنَّة .
انتحى الأب جانباً يقلب في رأسه مقالة أولاده .دون أن يدروا أنهم جميعاً أنهم قالوا نفس الفكرة . أخذت الأفكار تروح وتجيء في ذهن الأب ، غمغم بكلمات مسموعة ..لا..لا..لا...لن أذبح أحداً .وجه بصره إلى السماء ...تذرع خاشعاً له .يا إلهي إنهم أبنائي ،هم كالحلقة المفرغة ،لا أعرف أولها من آخرها ،اللهم اجعل لي مخرجاً،بحق عظمتك استغيث!
كانت الأم قافلة عائدة من الجانب الآخر ، تبدو من بعيد وهي تنوء بكاهلها ،تضع عصاه غليظة على عاتقها ،تعلق في طرفيها قربتي ماء ،ملأتها من ماء الغدير ، الذي يبعد قرابة نصف ميل من بيتها ،هاهي تغذ السير ،تنغرز قدماها في التراب الملتهب الرخو ،رغم شسعها الفضفاض الذي تنتعله ، فيزيد من معاناتها أثناء سيرها ،تضع على رأسها،ضمة من أوراق النباتات اليابسه لتقيها حرارة الشمس ، وتشعل بها حذوة النيران أثناء إعداد الطعام .انطلق (عتبه) مهرولاً نحوها ، قابلها وسط الطريق ، حمل عنها ما ينوء به كاهلها ،.. خاطبته : على رسلك يا
ولدي ، حتى لا يتبدد الماء على الأرض فهو قليل وبالكاد وجدته ، إنه الدم الذي يسير في عروقنا. انطلق (عتبه) أمامها نحو البيت ، أما هي (ماوية) فقد تباطأت في سيرها عدَّلت من لباسها، مسحت وجهها بيدها ،شهقت كميه من الهواء.وصلت أخيراً (المحرم) ألقت بجسدها على الأرض ،تحاول التقاط أنفاسها ، أغمضت عينيها لتسترد حيويتها.
يصل في هذه الأثناء الضيف إلى مشارف بيت الشعر ، حيث يبدو مترنحاً في مشيته، تظهر عليه إمارات التعب وشدة الإعياء، يجر قدماه خلفه ،يمشي دون توازن، لا يكاد يستقر على الأرض ،تعالا صياح الأبناء بالترحيب بالضيف قبل أن يصل الربع الأخير للبيت ، بالكاد لوح لهم بالتحية رافعاً يده قال بصوت وان : السلام عليكم ..لم يكمل الجملة، سقط على الأرض مغشياً عليه من شدة الجوع والتعب والإرهاق والعطش .
أسر الأب وأبناؤه تجاه الرجل، كان جثة هامدة ،إلا من بعض الحرارة تدب في جسمه الضعيف ،حبات العرق تتفصد من جسمه ، يعلو صدره ويهبط بتسارع شديد ،مازال على قيد الحياة . تعاون الجميع على نقله داخل بيت الشعر ،أحضروا بعض من الماء ،نثره على وجهه ورأسه وصدره ، وضعوا قطرات منه على شفتيه ،فتح فمه قطرات من الماء القليل، قال الأب معلقاً : سيكون بخير إنشاء الله ،
نهض الأب ،أشار بيده إلى (جابر)و (عتبه) بالسهر على راحة الضيف، وأمر (ربيعه) أن يستعد للخروج معه .التقط سهماً من صدر البيت ،انطلق خلف والده ،لا يلويان على شيء ،ظهر من مظهرهما، أنهما ذاهبان للصيد !
(ربيعه): إلى أين يا والدي ، الأب :إلى الصيد حيث وادي الأسود ، لعل الله يرزقنا من فضله لإكرام هذا الضيف ،
( ربيعه) لكنها منطقة خطره جداً يا أبي ، الأب : وهل كانت حياتنا يوماً هانئة في يوم من الأيام ؟!
حانت التفاته من الأب نحو الأفق، جهة وادي الأسود ،شاهد غباراً كثيفاً غطى المنطقة ، يرتفع إلى السماء دون انتظام ،حثا السير تجاه الوادي ،اقتربا من حافته، سمعا خوار الثيران و الأبقار، وأصوات ارتطام أرجلها بالماء . فيحدث صخباً محبباً للنفس .قال الأب لولده هامسا: هل شاهدت أطراف القطيع . قال : نعم يا أبي .إنها تشرب الماء، يبدو إنها تشعر بظمأ شديد .
الأب :ونحن يا ولدي إلى دمها أشد ظمأً!
( ربيعه) يتحفز لإطلاق سهامه . زجره والده قائلاً : ليس الآن يا ولدي ، اتركها قليلاً تروي عطشها، رحمة بها ،ورفقاً بها . لكن كن مستعداً عند اللحظة المناسبة .
الأب : الآن يا (ربيعه) فداك أبي وأمي أطلق سهمك نحوها ، هل تشاهد البقرة التي تقترب نحونا، انخفض الآن ، لا تجعلها تراك.
أطلق الأب سهامه ، أطلق (ربيعه) سهامه ، انطلقت السهام نحو الهدف،أصابتها،حاولت الارتداد للخلف ،ترنحت في مشيتها ،فَرَّباقي القطيع ، حاولت البقرة اللحاق بالقطيع، خانتها قواها ، سقطت على الأرض ، نهضت ،ثم تعثرت مرة أخرى لم تقم بعدها. انطلق الأب وولده نحوها كالريح العاتية، اقتربا منها ، كانت دماؤها تشخب، تفور من جرحٍ أدماها في رقبتها ، وآخر في بطنها.
قفز( ربيعة) في الهواء قفزات متتالية معبراً عن فرصته، وهو يصيح بصوت هستيري. لقد نجحنا يا أبي ، لقد نجحنا ، لقداصطدنا بقرة ، إنها بقرة .
الأب الحمد لله ، الشكر لله ،اربطها يا ولدي من الرأس و الأرجل .
(ربيعة)وهو يربطها . إنها سمينة يا أبي ، مكتنزة اللحم و الشحم .
الأب .يا له من صيد ثمين.
يضحكان ، انفرجت أساريرهما، الفرحة لا توصف .
الأب :هذا رزق ساقه الله لنا. لقد استجاب الله لدعائنا،لا يزالان يجران الفريسة نحو البيت على الأرض الناعمة، فترسم خلفها طريقاً ناعماً عريضاً، كأنه لوحة سريالية،كانت قطعة من الأرض الممهدة تتخللها خيوط متعرجة من الدماء ،تنتشر دون نظام هنا وهناك .
هاهو البيت أخيراً يقفز على صدر الطريق ، صاح الأب يا (عتبه) يا (جابر) أقبلوا جميعاً نحونا . كان صوتهما يبدوا كصرخة استغاثة في وادٍ سحيق، حيث لا صدى للصوت في هذا الفضاء الفسيح. تسمع في المكان أصوات سرب من الغربان، تجمعت فوق المكان ،كأنها تستجدي سيد البيت بالأَّ ينساها من الغنيمة .
كان الضيف قد استرد عافيته ، فتح عينيه، وجد حوله شابين هما( جابر) و(عتبة) ومعهما قطعة من القماش مبللة بالماء كانا يضعانها على رأس الرجل لتخفيف حرارته، حرك الضيف رأسه نحو اليمين ثم اليسار،سرعان ما استرد وعيه ، رسم ابتسامة لها معنى على محياه، غمغم بكلمات غير واضحة. بادره الشابان : حمداً لله على سلامتك يا ضيفنا، أنت بخير فلا تقلق.
-كانت الأم قد نالت قسطاً من الراحة في محرمها بعد رحلة ورود المياه اليومية . نهضت من فراشها، اتكأت على ساعديها ، كانت تئن أناتٍ إلى أن استقام عودها ، خرجت بدورها لتحيي الضيف وترحب بقدومه، مما جعل الضيف يزداد سروراًردَّ تحيتها ، وقد عاد له صوته. قال للأم :الحمد والشكر لله أن جعلني بينكم يا أختاه بعد أن أشرفت على الهلاك . لولا رحمة ربي بي ، ثم عطفكم عليَّ ز
كسر هذا الجو الودي سماع أصوات صياحٍ متتالية إنها أصوات الأب و ولده ،خرج الجميع ليروا منظراً رائعاً ،قفز (عتبة) في الهواء ،راح يلهو كطفل صغير، مرة يبكي، ومرة يضحك من شدة الفرح، خرجت الأم ، مدَّت عينيها نحو المشهد العظيم، زوجها وولدها يجران بصعوبة بقرة سمينة يا فرحتها بهذا الصيد الثمين، استدارت نحو الضيف قالت للضيف :إن قدومك علينا قدوم سعدٍ. دخل في هذه اللحظة الأب قائلاً : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . نهض الضيف من مكانه ردَّ التحية ، تعانقا ، قال الأب : مرحباً بك يا ضيفنا ، لحقه (ربيعة) فحيا الضيف ، سلم عليه، أطمأنا على صحته، ثم جلسا.
قال الأب مخاطباً ضيفه : حللت أهلاً ، ووطئت سهلاً ،ووجدت مرحباً .
الضيف : شكراً لكم على طيبة كرمكم يا أخى العرب .
الأب : كيف حالك الآن يا ضيفنا . الضيف : أراني بخير كثير و الحمد لله.
الأبناء: كيف كانت رحلت الصيد ياأبي؟
الأب : الحمد لله وحده فلقد فداكم الله جميعاً بصيد عظيم . نظر الأبناء إلى بعضهم ، أدركوا مغزا كلامه (فداكم الله جميعاً ) بعد أن أعتقد كل منهم أنه هو الوحيد الذي قدم نفسه للذبح على مذبح الكرم .
كان الوقت يمر سريعاً ،تناوب الأبناء في الجلوس حول الضيف حتى لا يشعر بالوحدة ، قام كل منهم بواجبه في إعداد الطعام للضيف .
استقرت الفرحة في ربوع البيت ، تجاذب الجميع أطراف الحديث مع الضيف. مضى وقت طويل دون أن يشعر أحد بمروره، انتبه الضيف على صيحات (ماوية ) وهي تدعوهم لتقديم الطعام.
انطلق الأبناء كلٌ منهم يقوم بواجبهم ،عادوا بصحاف الطعام ، المملوئة باللحم ،وضعت أمام الضيف. دعوه للأكل أولاً ، دعاهم للجلوس حوله ومشاركته الطعام ،بسملوا، تسابقوا في تقطيع للحم ووضعوه أمام الضيف ، وتكديسه أمام الضيف ، كأنه طفل صغير، الكل يحرص على إطعامه، وهم مسرورون ، شعر الضيف بأنه بين أهله وعشيرته ، وليس ضيفاً عابراً . انتهى الجميع من تناول طعام الغذاء، عادوا للجلوس، جاء وقت الحديث الباسم واحتساء القهوة . بدأ الوالد سؤال الضيف .
الأب :كيف أنت الآن يا ضيفنا ؟
الضيف :بين أهلي وعشيرتي والحمد لله .
الأب : وكيف وجدتنا بصدق ؟
الضيف : وجدت أناساً كرماء بلا حدود في صحراء مترامية الأطراف ، موحشة. فجزاكم الله عنا خيراً. وبارك الله بكم وفي طعامكم ومالكم وفي أولادكم فأنتم نعم الأهل والعشيرة ، ونعم الأب والأم والأبناء . طبتم وطاب معشركم ووفقكم من إخوة كرام .وأعلموا أن الأخوة ثلاث أنواع :
الجميع وماهي عافاك الله يا ضيفنا ؟
الضيف : وقد اعتدل في جلسته:
-أخ كالغذاء نحتاج إليه في كل وقت !
-أخ كالدواء نحتاج إليه عند اللازم !
- أخ كالداء لا نحتاج إليه أبداً !!
(عتبة) و من أي الأنواع وجدتنا يا ضيفنا ؟
الضيف : من النوع الأول يا (عتبة) فضحك الجميع .
(ربيعة) : يا ضيفنا،لا بد أنك زرت بلاداً كثيرة ، وتنقلت في مناطق عديدة منديار العرب.
الضيف :نعم يا ولدي ، فأنا شاعر، أطوف البلاد ، التقي العباد ، اتجول بين الديار ، أمدح الشيوخ، ورجال القبائل ، فأنال بعض فضلهم فيذهب ما يعطوني ، ويبقى ، ما أعطيهم خالداً على مرِّ الأيام .
نزلت كلمات (الشاعر) على مسامعهم كأنها لحن مميز ، تبادلوا النظرات الصامته.
(جابر) : أريد أن أسألك سؤال.
الضيف: على الرحب و السعة يا ولدي .
(جابر) :ما خير ما ٌيرزقه العبد ؟
الضيف : يجول بعينيه في رأسه ، كأنه يستدعي ذاكرته ، بينما تداعب أطراف أنامله خصلات لحيته ثم قال:
خير ما يُرزقه العبد : عقل يعيش به.
(عتبة) :وإن عدمه .
الضيف: فأدب يتحلى به .
(ربيعة) : فإن عدمه.
الضيف:فما يستره.
الأب : فإن عدمه .
الضيف: فصاعقة تحرقه، فتريح منه البلاد و العباد.
ضحك الجميع دون استثناء .
حانت من الضيف لحظة تثاؤب ، أدرك الجميع أنه بحاجة إلى الراحة و النوم بعد الغذاء ، حيث طول سفر، ثم طعام ،ثم سمر. وهم في الحقيقة أحوج منه إلى الراحة. لكنهم أبوا أن يفعلوا ذلك أمام الضيف حتى لا يفهم أنهم قد ملوا حضوره أو كرهوه. انسلوا من حوله واحداً بعد الآخر ليتركوه للراحة. أسند الضيف رأسه إلى عمود البيت ،ثم انزلق شيئاً فشيئاً إلى فراشه، سرعان ما تخدرت عيناه، فاستسلم للنوم ، راح الجميع يغطون في نوم عميق . إلا الأم فهي كعادتها تبدو كالنحلة، حيث تبدو وهي تنظف أواني الطعام ، تزيل ما علق بها من لحم وشحم ، استعداداً لما يأتي من قابل الأيام.
عبد المجيد الدسوقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.