شارك ترجمة بتصرف : محمد القنور كانت رائحة الغرفة عطنة , تشمئز منها الأنوف، جدرانها مقشرة الصباغة، ومتقادمة وجنباتها قذرة , وخاوية على عروشها ، تخلو من أي أثاث . كان مصباح وحيد خافت بضوء شاحب تنساب أشعته مثل ‘نسياب لصوص آخر الليل، كان مصباح بغطاء مقعر متآكل يتدلى من السقف، فتنتشر أشعته فقط لتغطي نصف الحجرة بحيث تبقى الزوايا والأركان معتمة , وتحت المصباح مباشرة وقف مجموعة من الرجال بمعاطف سميكة داكنة وقبعات من فرو الدببة السيبيرية , كانوا يشكلون بوقوفهم حلقة , وفي وسط تلك الحلقة وقف رجل خمسيني يرتدي بزة عسكرية , كان رجلا ذو بنية قوية وملامح قاسية وشارب هتلري مميز , لكنه بدا منهكا ومتهالكا , ومن حين لآخر كان يتطلع إلى الوجوه المحيطة به وقد علت محياه نظرة يائسة مستعطفة .. أجزم بأن من رأى ذلك الرجل في تلك الساعة لم يكن ليصدق بأنه أمام الرجل الذي تخشاه روسيا بأسرها , الرفيق جينريك ياغودا , رئيس شرطة ستالين السرية الذي كان يتلذذ بتعذيب واغتصاب وإعدام ضحاياه بنفسه في أقبية المؤسسة الرهيبة التي يديرها , والذي أرسل ملايين الناس إلى معتقلات معتقلات الكولاك المخيفة ليعلموا هناك بلا هوادة في شق طرقات وحفر قنوات تسمى بأسم سيده . جينريك ياغودا ظل الشيطان في الأرض بين ليلة وضحاها جردوه من جميع مناصبه , لفقوا له تهمة الخيانة العظمى, وحكموا عليه بالموت . فوقف يستمع إلى تلاوة الحكم وهو غير مصدق , رفع رأسه نحو ستارة حمراء تغطي شرفة عالية داخل قاعة المحكمة , صرخ بيأس قائلا : "أناشدك أنت وحدك! .. أنت الذي من أجلك بنيت قناتين عظيمتين " .. لكن زعيمه الجالس خلف الستارة يدخن الغليون بصمت لم يأبه لتوسلات كلبه المطيع .. لقد انتهى دوره .. بعد أن حصل على كلب جديد , أكثر إخلاصا وتفانيا . وها هو الآن يقف وسط تلك الحجرة القذرة المعتمة , منكس الرأس , متقطع الأنفاس , ينتظر المثول في منصة الإعدام التي كثيرا ما أرسل إليها ضحاياه . "هيا، جردوه من كل ثيابه" .. أتى صوت أجش من ركن الحجرة المعتم , فأنقض الرجال كالذئاب الشرسة الجائعة على "ياغودا" , مزقوا ثيابه وتركوه عاريا على الأرض وهو يجهش بالبكاء . - "أضربوه" .. أتى الصوت مجددا فانهال الرجال على "ياغودا" العاري بالضرب المبرح ولم يتركوه إلا وهو لحم مفرومة، وبدن مشوه من الضمور والجراحات ….. أخيرا ترك الرجل الواقف في العتمة مكانه وأقترب ببطء من وسط الحجرة فبانت ملامحه بالتدريج , إنه الرئيس الجديد للشرطة السرية , الرفيق نيكولاي يازوف . كان قزما شرسا ونحيفا , لكن سحنته السيبيرية وملامحه الشيطانية كانت كفيلة ببث كل أنواع الهلع وجميع تفاصيل الرعب في الأرواح وبأعماق القلوب . وقف لبرهة يتأمل الجسد الدامي ويتلذذ بسماع تأوهاته ثم أومأ برأسه للجلاد الشهير فاسيلي بولخين, فأخرج الرجل مسدسه الصغير الذي تكاد تبتلعه يده، وأطلق رصاصة الإعدام على مؤخرة جمجمة ياغودا. وجدير بالذكر، القارئات والقراء الأعزاء ،أن هذا ال " فاسيلي بولخين" سجل كأعظم جلاد في تاريخ البشرية , قتل بيده عشرات الآلاف من البشر، ومن السوفيات أنفسهم، ومن أسرى الحرب العالمية الثانية خصوصا من الألمان, وقد أصيب بالجنون في أواخر حياته، وإنتحر في مصحة للأمراض العقلية، بأن غرس في كليته سكين مطبخ . أحلام وردية وثورة تفترس أبنائها إعتبرت ثورة أكتوبر الروسية عام 1917 ، المعروفة بالثورة البولشوفية، الحدث الأعظم في القرن العشرين ,وهي الثورة التي تزعمها البلاشفة بقيادة فلاديمير أوليافيتش لينين ، فالنتائج التي ترتبت عنها لم تؤثر على روسيا فقط , بل امتد تأثيرها ليشمل العالم بأسره، ولينقسم إلى معسكرين ، شرقي شيوعي وإشتراكي، وغربي رأسمالي ليبيرالي في سياق الحرب الباردة، . لكن هذه الثورة البولشوفية مثل اغلب الثورات , سرعان ما فقدت زخمها , ودبت الخلافات بين قادتها , وهو أمر تكرر عبر التاريخ في الكثير من الثورات . وتجدر الإشارة، أن كلمة بلشفية باللغة الروسية تعني الأكثرية , وهي الجناح اليساري التابع لفلاديمير لينين داخل حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي الذي عرف لاحقا باسم الحزب الشيوعي الروسي , ونقيضه الأقلية , المينشفيك أو المناشفة بقيادة يوليوس مارتوف . الفرق بين الجناحين هو أن البلاشفة كانوا يسعون للتغير في روسيا القيصرية عن طريق العمل الثوري والكفاح المسلح فيما المناشفة كانوا يريدون إحداث التغيير بالطرق الديمقراطية السلمية. وكما تعلمون أعزائي قراء "مراكش بريس" فإن التنظير أمر سهل وممتع ورائع .. وما أحلى شعارات العدالة والمساواة الاجتماعية , إنها كالأفيون , تجعل الإنسان يسافر بخياله بعيدا نحو عالم وردي لا وجود له , فيظن بأن تغيير السلطة الحاكمة سيعني تغيير كل شيء بين ليلة وضحاها .. سيختفي الفساد والظلم .. ستتحقق العدالة وتحترم حقوق الإنسان .. ستنقرض الواسطة والمحسوبية والرشوة .. سيتحسن الاقتصاد ويعم الرخاء .. ستقسم ثروات البلاد بين السكان بالتساوي .. باختصار .. ستتلاشى جميع الإكراهات والمشاكل . لكن الزعماء الجدد المدججين بالشعارات الثورية والكلام النظري سرعان ما يكتشفون بأن عملية إدارة دولة ليست بالأمر السهل كما قد تبدو في أحلام اليقظة .. فنحن جميعا نحلم أحيانا بأن نشارك في الحكم والتدبير , وقد نحدث أنفسنا بأننا سنفعل كذا وكذا وسنصلح ونعدل ونساوي وما إلى ذالك من القيم المثالية الطوباوية .. لكنها مجرد أوهام .. مثلا، جرب أن تدير فصلا من ثلاثين تلميذا لساعة واحدة وسترى كم هو أمر صعب ومرهق أن تفرض رأيك واحترامك على مجموعة من الأطفال .. أو ترأس ودادية سكنية في حي من أحياء المدينة، أو تعاونية فلاحية بإحدى القرى ، فما بالك بإدارة أمة من ملايين الناس , خصوصا في دول تفتقر إلى الثوابت التي تطبع مسار وحياة أفرادها، ويغيب عنها العمل المؤسساتي ، والفصل بين السلط ، والبنى التحتية والكفاءات والأطر اللازمة للنهوض بها . وعليه فإن معظم التجارب الثورية بما فيها مستجدات الربيع العربي الأخير، لم تأتي بالثمار التي توقعها الناس منها , فإعادة الأمن والنظام والخدمات وتدوير الاقتصاد من جديد هي مهمة في غاية الصعوبة .. غالبا ما يفشل فيها الثوار بامتياز لانعدام الخبرة , ولتبرير الفشل في تحسين حياة المواطن وتحقيق الوعود العسلية فأن القادة الثوريين غالبا ما يعمدون إلى إلقاء اللوم على الخيانات والمؤامرات والأعداء الذين يضعون العصي في دولاب الثورة لإجهاضها , أحيانا يمضون أبعد من ذلك إلى درجة اختراع أعداء ومتآمرين . فتبدأ الاعتقالات والتصفيات والاغتيالات وتمتد بسرعة لتشمل الأبرياء , وهكذا فأن النظام الجديد سرعان ما يعود فيستنسخ نفس أساليب النظام القديم , أي ذات الأساليب التي ثار عليها بالمقام الأول ! . حدث مثل هذا في الثورة الفرنسية , فنابليون سيطر على الثورة بعد أن أرسل روبسبير أغلب رجالاتها وقادتها إلى شفرة المقصلة في طوابير طويلة . والطريف أن الثورة الفرنسية التي قامت أساسا ضد الملكية عادت بعد سنوات قليلة لتتوج نابليون إمبراطورا ! .. والأمر ذاته تكرر مع الثورة الروسية , صحيح أن النظام الجديد لم يعد إلى الملكية , لكن بعد موت لينين عام 1924 سرعان ما بدأت الثورة تأكل أبنائها , وبنهاية عقد الثلاثينات فأن أغلب رفاق لينين في اللجنة المركزية للحزب , أي الرجال الذين فجروا الثورة وقادوها معه , كانوا قد لقوا حتفهم إما اغتيالا أو إعداما بتهم شتى .. أولها الخيانة .. وهكذا عادت الدكتاتورية للبلاد بثوب جديد .. أصبح ستالين القائد الأوحد، والإله الأوحد .. قيصر روسيا الجديد .. لكنه غير متوج، إذ لا حركة ولا سكون إلا بإذن الزعيم جوزيف ستالين . شكوك وريبة وجنون عظمة الرفاق القدامى .. المنحدرين من ثورة أكتوبر 1917، جميعهم اعدموا او اغتيلوا .. بأستثناء لينين وستالين فستالين المتعطش للسلطة كان مصابا بجنون العظمة , يرتاب ويشك في كل من حوله، في أبنائه في زوجته في سائقه الشخصي ، حتى في حلاقه، فقد كان يضع فوهة مسدسه على بطن هذا الحلاق، أثناء حلاقته لذقنه، مخافة أن يدبحع بشفرة الحلاقة، كان يشك ويرتاب في كاتبته الخاصة التي سيعدمها لاحقا بيده ، بعد أن لاحظ أنها أخلطت السكر بالملعقة في فنجان قهوته، على غير عادتها، فلم يرسل ما في فنجان القهوة إلى بطنه، وإنما أرسل الفنجان إلى المختبر، ليكتشف أن القهوة مخلوطة بسم الزرنيخ، قبل أن يستل مسدسه من قمطر مكتبه، ليقتلها على التو، برصاصة في جمجمتها. هذا، وقد تعمق لدى ستالين الشعور بالريبة، خصوصا بعد أن منيت خططه في إدارة الدولة بالفشل في بداية عهده , خصوصا مشروع المزارع التعاونية , ولهذا شرع بتصفية وإزاحة جميع خصومه في الحزب والجيش وكل من يشك في ولاءه إليه , شمل ذلك معظم الرفاق القدامى من أعضاء اللجنة المركزية للحزب .. نيكولاي بوخارين , ليف كامنف , أليكسي ريكوف , ميخائيل تومسكي , جريجوري زينوفايف وغيرهم .. إذ جرى تجريدهم من مناصبهم ثم طردوا من الحزب وأدينوا في محاكمات صورية بثتها الإذاعة السوفياتي ة على الهواء وأعدموا جميعا رميا بالرصاص . حتى عائلاتهم لم تسلم من التنكيل , فتم إعدام أبناءهم وأرسلت زوجاتهم إلى معتقلات معتقلات الكولاك الرهيبة . حتى ليون تروتسكي , أعظم منظري الحزب الشيوعي ومؤسس الجيش الأحمر والرجل الذي كان مرشحا لخلافة لينين .. لم ينج من المجزرة , فقد لحقت به شرطة ستالين السرية إلى منفاه في المكسيك فاغتالوه هناك عام 1940 ، عندما أغروا فلاحا مكسيكيا فغرس فأسا في ظهره . مارشال وراء قضبان الإهانة .. ولم يقتصر الأمر على السياسيين , فالكثير من الضباط الكبار لاقوا نفس المصير , المارشال ميخائيل توخاجفسكي , قائد الجيش الأحمر جرى اعتقاله بإشراف رئيس الشرطة السرية نيكولاي يازوف , قاموا بتعذيبه بشدة لإجباره على توقيع اعترافات كاذبة , حتى أن ورقة اعترافاته كانت ملطخة بالدماء , وحين وقف لاحقا أمام المحكمة العسكرية المكونة من ضباط تحت أمرته قال : " اشعر كأني احلم" .. ولم يكتفوا بإعدامه , إذ أرسلوا شقيقاته وزوجته وابنته إلى معتقلات الكولاك , وأعدموا أشقاءه . المفارقة أنه بعد مدة قصيرة على إعدام توخاجفسكي تم إعدام خمسة من الضباط الكبار الذين كانوا قضاة محاكمته ! . وبنظر البعض فإن تلك الإعدامات التي طالت آلاف الضباط أضعفت الجيش الأحمر وأوهنت عزيمته وكانت سببا في الهزائم المنكرة التي تلقاها من الرايخ الثالث في بداية الاجتياح الألماني بقيادة الفيلد مارشال "باولوس " للاتحاد السوفياتي عام 1941 . الجولاڭ : عبيد الخدمة المجانية .. التطهير الأعظم الذي ابتدعه ستالين للتخلص من خصومه، إبتدأ بواسطة مفوضية الشعب للأمور الداخلية وهي مؤسسة أمنية تضم أجهزة الشرطة والدفاع المدني والإطفاء وشرطة المرور وأرشيف الشرطة . كانت مسؤولة عن حفظ الأمن الداخلي ومطاردة من كانوا بوصفون ب"أعداء" الثورة في الداخل . كما امتد لاحقا ليشمل الملايين من المواطنين العاديين , في مدن وقرى كاملة أجبر سكانها على الرحيل إلى أماكن نائية وفقيرة وباردة وموحشة , هذا التهجير القسري طال ستة ملايين إنسان من قوميات وفئات متباينة ، كان ينظر إليها على أنها معادية للحكم السوفياتي مثل ألمان الفولغا والقوزاق ومعتقلات الكولاك والتتار والابخاز والشيشانيين واليونانيين والكوريين وغيرهم من الأقليات , وقد مات نصفهم بعد سنوات قليلة جراء المرض والجوع . أما أعظم المحن التي عرفتها الشعوب السوفياتي ة فقد تمثلت في ال جولاك "Gulag" , أي معسكرات العمل الإجباري , فحوالي 18 مليون إنسان دخلوا تلك المعسكرات بين عامي 1918 – 1960 , والملايين منهم لم يغادروها أبدا . كان نزلاء هذه المعتقلات ينحدرون من خلفيات ومشارب متنوعة .. لصوص وقتلة .. مختلسين ومقامرين .. أسرى حرب .. رهبان ورجال دين .. مثليين جنسيين .. معتقلين سياسيين . وهذه الفئة الأخيرة لم تكن بالضرورة تشمل أناس ذوي نشاط سياسي , فمصطلح معتقل سياسي كان فضفاضا جدا في زمن السوفيات , كان يشمل أناسا لا علاقة لهم بالنشاط السياسي من قريب أو بعيد . فمثلا أي انتقاد للدولة , حتى لو كان مجرد مزحة بريئة , يمكن أن يؤدي للاعتقال . كما أن أقرباء السياسيين الذي جرى اعتقالهم أو إعدامهم كانوا يعتبرون من أعداء للدولة أيضا حتى لو لم يكن لهم أي نشاط سياسي . فمثلا زوجة القيادي في الحزب نيكولاي بوخارين أرسلت إلى معتقلات الكولاك بعد إعدامه . أما القيادي ليف كامنف فقد أعدمت زوجته مع 160 شخص آخر رميا بالرصاص في غابة ميديفيدف وجرى إعدام اثنان من أبناءه وأرسل الثالث إلى معتقلات الكولاك . زوجة تروتسكي الأولى الكساندرا سوكولوفسكي أرسلت هي الأخرى إلى معتقلات الكولاك ولم يرها أحد بعد ذلك , أما ابنه فقد اعدم وتم إرسال زوجته وعائلتها إلى معتقلات الكولاك . اماكن نائية وأعمال قاسية .. العمل في المعتقل كان قسريا , طوال أيام السنة , لأكثر من 12 ساعة يوميا , وفي أعمال شتى , كقطع الخشب والتعدين والحفر والبناء والنقل الخ . كان على جميع المعتقلين أن يعملوا بغض النظر عن جنسهم وعمرهم ولياقتهم والظروف الجوية القاسية المحيطة بهم . وفي المساء كانوا يحشرون في أكواخ وثكنات قذرة , ينامون على رفوف خشبية ومعظمهم جائع يرتجف من البرد . كان مدراء هذه المعتقلات يتنافسون في تقديم أفضل إنتاجية بأقل كلفة , يجري هذا طبعا على حساب المعتقلين , فكانت تقدم لهم الثياب الخفيفة التي لا تقي البرد لكي يجبروا على تدفئة أنفسهم بالعمل , وكان الطعام رديئا ضئيلا لا يغني عن جوع , يقتصر غالبا على خبز الشعير الأسود مع القليل من الحساء . ولا تقدم لهم سوى قطعة صغيرة من الصابون كل شهر ولا يسمح لهم بالاغتسال إلا نادرا . كانت الظروف الصحية فظيعة , لم يكن هناك صرف صحي , مما تسبب بالكثير من الأمراض . وكانت نسبة الجريمة والرذيلة عالية , فالكثير من المعتقلين السياسيين والناس الأبرياء كانوا يتعرضون للابتزاز , وأحيانا الاغتصاب والقتل , من قبل المعتقلين ذوي السوابق الإجرامية ، وكم من معتقل سياسي تعرض للقتل لأنه لم يتنازل عن حصته من الطعام لأحد المعتقلين المجرمين .. كما شكلت النساء قرابة عشرة بالمائة من مجموع نزلاء معتقلات الكولاك , كن يتعرضن لشتى صنوف المهانة منذ أن تطأ أقدامهن ارض المعتقل , يجبرن على التجرد من ملابسهن والاستحمام أمام الحرس . كن يرخين شعورهن على وجوههن من شدة الخجل , فنحن نتكلم هنا عن أمهات وربات منازل ومعلمات وطالبات جامعيات وراهبات الخ .. اغلبهن لم يقدمن على أي جرم , اعتقلن بسبب نشاط أقاربهن السياسي . وكان يجري اغتصابهن بشكل دوري , أحيانا بشكل جماعي حتى الموت . والبعض منهن حملن وأنجبن داخل المعتقل , وكان اغلب الأطفال يموتون بسن مبكرة جراء ظروف المعتقل السيئة , أما أولئك الذين تكتب لهم النجاة فكانوا يأخذون من أمهاتهم بعمر عامين وينقلون إلى ملاجئ خاصة , كانوا يحرصون على تغيير اسم الطفل بحيث لا تعثر عليه أمه أبدا حتى لو تم إطلاق سراحها من المعتقل . شهادات من قلب الجحيم قد تكون شهادات الناس الذين مروا وعاشوا في معتقلات الكولاك هي الوسيلة الأفضل لفهم طبيعة ما جرى هناك من فظائع .. ليف رازغون كان متزوجا من ابنة ضابط في الشرطة السرية , كانت حياته رغيدة , لكن فجأة تبدل كل شيء بعد إعدام والد زوجته أثناء التطهير الأعظم عام 1937 . تم اعتقال ليف وزوجته , ومن حسن الحظ ماتت الزوجة قبل أن يتم إرسالها إلى المعتقل , أما ليف فقد امضي 18 عاما من عمره هناك , يصف جانبا من تجربته قائلا : "كنا 517 معتقلا ضمن وجبة موسكو عندما وصلنا إلى المعتقل في أغسطس 1938 .. بحلول الربيع لم يكن قد تبقى منا سوى 27 , الآخرون جميعهم ماتوا . وفي نوفمبر عام 1938 تم جلب 270 بدوي صيني , كانوا قد ضلوا طريقهم فعبروا الحدود الروسية من دون قصد , وقد جعلهم مدير المعتقل يعملون في نقل جذوع الأخشاب بأيديهم العارية فقط , وهو عمل لم نكن نحن لنستطيع الصمود فيه لأكثر من أسبوع , لكن الصينيين عملوا بثبات وبهدوء , بعد كل يوم عمل كانوا يعودون إلى ثكناتهم التي حافظوا على نظافتها وكانوا يقضون المساء في ترقيع ملابسهم , وبحلول فبراير , أي بعد ثلاثة أشهر فقط من وصولهم , لم يكن قد بقي حيا منهم سوى رجل واحد , تم تحويله للعمل في المطبخ " . أيلينا جلينكا , البالغة من العمر 29 عاما , كانت تدرس الهندسة في الجامعة عندما لفقت لها تهمة الخيانة والقي القبض عليها . أمضت ستة أعوام في معتقل رهيب يقع في قرية صيادين نائية في شبه جزيرة كوليما إلى أقصى الشرق الروسي حيث تصل درجة الحرارة أحيانا إلى 38 درجة تحت الصفر . كانت شاهدة حية على عملية اغتصاب جماعي رهيبة . من حسن حظها تم اختيارها لتكون من حصة مدير المعتقل لأنها كانت أكثر النساء شبابا , ولهذا نجت من تلك التجربة المميتة التي تصفها قائلة : نساء في المعتقل ..ورجال يتقاطرون ! " نساء في المعتقل ! .. انتشرت الأخبار كالنار في الهشيم فتقاطر الرجال من كل صوب وحدب نحو بهو القرية الكبير , بعضهم أتوا سيرا على الأقدام , بعضهم بالدراجات النارية . كان فيهم صيادو سمك وجيولوجيين وتجار فراء وعمال مناجم وحتى مجرمون مدانون . تم رمي التبغ والخبز وحتى سمك السلمون النيئ للنساء المنهكات جراء رحلة يومين في عرض البحر , فابتلعن الطعام حتى من دون مضغ من شدة جوعهن . ثم فتح الرجال زجاجات الخمر , وبتنسيق دقيق , كأنما ينفذون خطة , تراجعوا جميعهم وراحوا يقدمون كؤوس الفودكا للحراس , أخذوا يغنون ويعربدون وتبادلوا الأنخاب , أستمر ذلك حتى سقط الحراس واحدا بعد الآخر من شدة السكر . وما أن سقط الحراس حتى أخذ الرجال يهتفون ويهلهلون كالمجانين , دخلوا على النساء , قيدوا أيديهن ثم سحلوهن فوق العشب إلى داخل المبنى , وانهالوا بالضرب المبرح على أي واحدة منهن تبدي مقاومة . كانوا يعرفون جيدا ماذا يفعلون , الكراسي نحيت جانبا , النوافذ أغلقت بالمسامير , تم إدخال براميل من المياه . وعندما انتهوا من التحضيرات فرشوا الأرض بجميع ما تحت أيديهم من خرق وبطانيات وسترات , ثم ألقوا النساء فوقها , وفي الحال تشكل صف من 12 رجل أمام كل امرأة وبدأ الاغتصاب الجماعي .. كانوا يسمون هذه العملية "ترام كوليما" . أخيرا عندما وصل الصف إلى نهايته جرى سحب النساء الميتات من أقدامهن وألقين في الخارج , أما من بقين على قيد الحياة فجرى إنعاشهن مجددا برمي الماء عليهن من البراميل , وما أن استعدن وعيهن حتى تشكل صف الرجال أمامهن من جديد " . لم تكن النساء وحدهن هن من يتعرض للاغتصاب داخل المعتقل , فالمثلية الجنسية كانت متفشية بين الرجال , حتى أولئك الرجال ذوي الميول الجنسية الطبيعية كانوا يتحولون إلى مثليين أحيانا في تلك البيئة القاسية التي يتحول فيها الناس تدرجيا من بشر إلى حيوانات، كان الاغتصاب أمرا عاديا , قد يتعرض رجل للاغتصاب جراء خسارته لعبة ورق , وقد يتعرض لاغتصاب إذا سرق قطعة خبز , وقد يتعرض للاغتصاب إذا لم يتنازل عن حصته من الطعام لعصابات المعتقل الإجرامية . فاليري كليموف المعتقل يروي لنا جانبا من تلك الفظائع قائلا : " كنت قادرا على حماية نفسي , لكني شاهدت بأم عيني عشرة حوادث قتل لرجال مثليين . كان هناك 100 معتقل في "ثكنتنا" , وكان هناك رجل يتعرض للاغتصاب ثلاثة إلى أربعة مرات يوميا , وبعد أن ينتهون منه كانوا يركلونه ويجبروه على النوم تحت الأسرة , كان أمرا فظيعا , كابوس . وفي إحدى الليالي تناوب على اغتصابه عشرة رجال ثم اخذوا يقفزون على رأسه . لقد كدت أن أجن هناك , امتلأ رأسي بالشيب , كان الناس يفقدون سلامتهم العقلية , وبعضهم لا يستعيدونها أبدا حتى بعد مغادرتهم للمعتقل . هذا، فقد كانت المثلية الجنسية متفشية على جميع المستويات في معتقلات الزعيم جوزيف ستالين , ليس لأن المعتقلين هم الذين يمارسونها فقط , بل حتى الحراس وموظفي السجن يميلون لممارستها. أحيانا تكون نتائج الاغتصاب , بالنسبة للنساء , أكثر ألما من الاغتصاب نفسه. ف "هافا فولوفيتش" , كانت محررة صحيفة , اعتقلت عام 1937 وأرسلت إلى معتقلات الكولاك بسبب انتقادها لمشروع المزارع التعاونية في أوكرانيا . عاشت في المعتقل لمدة 16 عاما وأصبحت واحدة من آلاف النساء اللواتي حملن سفاحا داخل المعتقل , أنجبت طفلة جميلة أسمتها إلينور , تقول عن تجربتها : الصحافية هافا فولوفيتش .. فقدت ابنتها في المعتقل .. وألفت عدة كتب عن تجربتها في معتقلات الكولاك لاحقا في الستينات .. " كان هناك ثلاث أمهات في ثكنتنا , وتم إعطائنا غرفة صغيرة خاصة بنا , كنا نسهر الليل نبعد البق المتساقط من السقف كالرمل عن أطفالنا , وفي النهار كنا نذهب للعمل فنتركهم مع امرأة عجوز مقعدة . في كل ليلة لمدة عام كنت أقف فوق مهد طفلتي ابعد البق عنها واصلي , أتوسل إلى الله أن يطيل عذابي هذا لألف عام إذا كان معناه أن لا افترق عن طفلتي . لكن الله لم يستجيب لصلواتي , فما كادت "الينور" تمشي أول خطواتها وتنطق أول كلمتها .. ماما .. حتى ألبسونا خرقا من الثياب رغم برودة الجو ثم وضعونا في سيارة شحن ونقلنا إلى المعتقل الرئيسي . هناك كان متوقعا أن اعمل في قطع الأشجار في الغابة بينما كنت أترك ملاكي الصغير ذو الخصل الذهبية في ملجأ أطفال المعتقل . وسرعان ما تحولت طفلتي إلى شبح شاحب مع خيال ازرق يظلل عينيها وبثور مؤلمة تغطي شفتيها . لفم أفهم سبب شحوب وذبول أبنتي حتى أصبت ذات يوم بالتهاب في المثانة وألم رهيب في الظهر , فأعفوني من العمل ذلك اليوم , ومقابل حزمة من الحطب قدمتها للحراس كرشوة سمحوا لي أن أختلس النظر إلى طفلتي من نافذة الملجأ .. وليتني لم أفعل ! . وتضيف كاتبة في مذكراتها : "لقد رأيت الممرضات يدفعن ويركلن الأطفال من أسرتهم ثم يقمن بغسلهم بالماء المثلج , ورأيت ممرضة تمسك بأٌقرب طفل أليها , تلوي ذراعه , ثم تدفع ملعقة بعد أخرى من العصيدة الملتهبة إلى داخل في فمه . كانوا يقتلوهم بالتدريج .." "صغيرتي "الينور" بدأت تذبل بسرعة .. "ماما , أريد العودة للمنزل" .. قالت وهي تبكي في إحدى الليالي , جسدها الصغير كان مغطى بكدمات غامضة . وفي اليوم الأخير من حياتها , عندما وضعتها على صدري لإرضاعها , نظرت بعينيها الواسعتين بعيدا , أشاحت بفمها عن صدري وتوسلت أن أضعها أرضا ." "في المساء التالي , عندما عدت من عملي مع حزمة صغيرة من الحطب , كان سريرها فارغا , عثرت على جثتها العارية في المشرحة مع جثث السجناء البالغين . لقد أمضت سنة وأربعة أشهر في هذا العالم البئيس ، والمشتعل بالحروب ورحلت في 3 مارس 1944 " . من القاع إلى القمة كانت لدى ستالين أدواته الخاص التي أستعملها في أنشاء إمبراطورية الرعب التي تربع على عرشها , والتي كانت تبلغ مساحتها ، 22 مليون كيلومتر مربع، رجال لا يحكمهم أي ضمير أو وازع ديني أو أخلاقي , كانوا هم المسئولين عن التعذيب والإعدامات والاغتيالات وإدارة المعتقلات , وكانوا يتنافسون فيما بينهم في القسوة والنذالة . أحدهم هو ذلك القزم الذي تكلمت عنه في بداية المقال , نيكولاي يازوف , رئيس شرطة ستالين السرية , والذي كان يعرف بأسم "القزم الدموي" لكونه الأفظع والأقسى والأكثر تفانيا في تحقيق أغراض سيده .. فمن يكون يا ترى ؟ .. وكيف وصل رجل بضآلته إلى هذا المنصب الخطير ؟ . كان مساعد خياط .. وفي غمضة عين ، اصبح رئيس الشرطة السرية .. بحسب الوثائق الرسمية السوفياتي ة فأن نيكولاي ايفانوفيتش يازوف ولد عام 1895 في سانت بطرسبرغ، عاصمة القياصرة من آل رومانوف . لكن هناك مصادر تشير إلى أنه ولد في بلدة صغيرة في لتوانيا التي يعتنق أغلب ساكناتها الديانة اليهودية . كانت عائلته فقيرة , لدرجة أنه لم يكمل سوى تعليمه الابتدائي , عمل مساعد خياط , ثم عاملا في مصنع , ثم تطوع في الجيش القيصري الروسي عام 1915 وانضم للبلاشفة عام 1917 قبل نشوب ثورة أكتوبر بستة أشهر . كان نيكولاي يازوف ,أنسانا وصوليا , داهية ماكرا , وصفه عضو سابق في الحزب كالآتي : " في كل حياتي الطويلة , لم يسبق أن التقيت بشخصية أكثر بغضا من يازوف , كان يذكرني بشكل لا يقاوم بالأولاد الأشرار الذين يلعبون على ناصية الشوارع, والذين كانت هوايتهم المفضلة هي ربط قطعة من الورق المنقوع بالكيروسين إلى ذيل قطة وإشعال النار فيه , ثم كانوا يقفون يراقبون بفرح كيف يتخبط الحيوان المسكين محاولا بيأس ومن دون جدوى أن يهرب من النار المقتربة من جسده . ويضيف نفس العضو أنا لا أشك في يازوف كان في طفولته يسلي نفسه على نفس تلك الشاكلة , وهو مستمر في فعل ذلك الآن بطرق مختلفة " . في الحقيقة كان يازوف مجرما بامتياز , وكان ستالين بحاجة إلى رجل مثله في تلك الحقبة , فرئيس الشرطة السرية آنذاك , جينريك ياغودا , كان بطيئا في تنفيذ أوامر ستالين الدموية .. قال نيكولاي يازوف , لبعض أصحابه المقربين إن "ياغودا" قتل ربع مليون إنسان .. ياله من رقم تافه ! .. أنا سأحصد الملايين …. رجل ستالين المفضل ..إلى حين وفي طليعة هؤلاء الملايين كان "ياغودا" نفسه , إذ قام يازوف بمساعدة بعض عملاءه في الشرطة السرية بدس كمية من الزئبق في مكتب "ياغودا" , ثم زعم بأن هذا الزئبق كان سيستعمل في مؤامرة من اجل تسميم الزعيم جوزيف ستالين , وتحت التعذيب جرى إجبار ياغودا على الاعتراف بأنه يعمل لصالح الألمان , فحوكم واعدم بسرعة بأشراف من يازوف نفسه . ولواقع، أن "ياغودا" لم يكن أنسانا شريفا , بل كان نذلا , كان يستمتع باغتصاب النساء والفتيات الصغيرات , عثروا في بيته على 14 فيلم يصور اغتصابه لضحاياه , إضافة لآلاف الصور الإباحية التي التقطها بنفسه . لكنه لم يكن يوازي "يازوف" في القسوة والمكر , كان يازوف فنانا في تعذيب الناس وفي قطف الرؤوس بالجملة , بلغ أعداد المعدومين والمعتقلين في عهده رقما قياسيا لن يبزه فيه أي رئيس شرطة آخر في تاريخ العالم وتاريخ الإتحاد السوفياتي . وفي عهده انتشرت وراجت الوشايات والتقارير الكيدية .. أصبح الناس يخافون التحدث في السياسبة حتى في منازلهم .. "فالحيطان لها أذان" .. وفي عهده جرى تنظيف الحزب والجيش من جميع من يشك في ولاءهم للزعيم ستالين .. بلغ عدد ضحاياه مليون وربع إنسان , نصفهم قضوا رميا بالرصاص , فيما النصف الآخر لقي حتفه في المعتقلات . لكن يازوف لم يكن سوى أداة , فالمجرم الحقيقي كان جوزيف ستالين نفسه .. فالذي يظن بأن يازوف وياغودا وغيرهم من زبانية ستالين كانوا يتصرفون من تلقاء أنفسهم هو واهم. فالحقيقة هي أن كل ما حدث كان بعلم ستالين , فمثلا بين عامي 1937 – 1938 وقع ستالين 357 مرسوما بإعدام قرابة 40 ألف إنسان . وفي إحدى المرات نظر إلى قائمة طويلة بأسماء المحكومين وقال : "من سيذكر جميع هؤلاء الحثالات بعد عشرة أو عشرين عاما .. لا أحد .. وأضاف ستالين قائلا: من يتذكر الآن أسماء البويار الذين تخلص منهم ايفان الرهيب .. لا احد " . وللأسف كان غالبية من اعدموا أو أرسلوا إلى المعتقلات أبرياء , يازوف نفسه اعترف بذلك في اجتماع للحزب فقال : "من الأفضل أن يتعذب عشرة أبرياء على أن يفلت جاسوس واحد. فعندما تقطع الخشب , ستتطاير بعض الرقائق حتما" . يا له من منطق ! .. ولكن ، فلن يطول الوقت حتى يتطاير يازوف نفسه مع المتطايرين .. السقوط إلى الهاوية بعد أن انتهى ستالين من تطهيره الأعظم وتخلص من جميع أعداءه ومنافسيه في الحزب والجيش ونشر الرهبة والخوف في عموم الاتحاد السوفياتي , لم تعد هناك حاجة لقسوة يازوف المفرطة , فقرر التخلص منه , وبهذه الطريقة كان سيضرب عصفورين بحجر واحد , فمن جهة سيصبح بإمكانه أن يزعم بأن جميع الجرائم التي اقترفها يازوف كانت من دون علمه وبأن "أب الشعب" ما كان ليفعل مثل هذه الأمور الفظيعة بأبنائه , ومن جهة أخرى كان سيتخلص من الرجل الذي أصبح يعرف أسرارا أكثر من اللازم .. أسرار يجب كتمها إلى الأبد .. وفوق كل هذا فإن ستالين , مثل جميع الطغاة , كان يكره أن يبرز شخص آخر غيره في البلاد , حتى ولو على مستوى القسوة والنذالة . في أواخر عام 1938 شرع ستالين بتجريد يازوف من قوته , في البداية سلمه منصب جديد , رئيس مفوضية الشعب للنقل المائي , كان ستالين يهدف من ذلك إلى إشغال يازوف بأمور أخرى فترتخي قبضته الحديدية على الشرطة السرية مما يسهل القضاء عليه . ولعب القدر دورا كبيرا في تسريع نهاية يازوف واختيار خليفته , إذ كان يازوف قد أصدر أمرا باعتقال "لافرينتي بيريا" عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عن جورجيا , لكن قبل إلقاء القبض عليه تلقى بيريا تحذيرا من رئيس فرع الشرطة السرية في جورجيا فهرب إلى موسكو حيث قابل ستالين وطلب حمايته مذكرا إياه بمساهمته في تصفية أعداء الحزب في جورجيا , ويبدو بأن الرجل قد نال إعجاب ستالين , وهكذا فأنه بدل أن يرسله ستالين إلى الموت عينه كنائب ليازوف , وشرع بيريا حال تعيينه بأبعاد وإقصاء جميع الموالين ليازوف داخل الشرطة السرية . يازوف نفسه , الخبير بأساليب ستالين , لم يكن غافلا عما يحاك له , كان يعلم جيدا بأن نهايته قد دنت , فأهمل عمله وراح يقضي أغلب أوقاته بمعاقرة الخمر , الأمر الذي أعطى حجة إضافية لتدميره . ومما زاد الطين بلة، هو انتحار زوجته "يوفيغينيا" في 19 نوفمبر 1939 , ويقال بأنها قتلت على يد يازوف نفسه بعد أن ضاق ذرعا بعشاقها الكثيرين الذين كانوا يترددون عليها . وبعد أسبوع على مقتلها طلب يازوف إعفاءه من رئاسة الشرطة السرية , وهو أجراء شكلي , فعمليا لم تكن له أي سلطة , وتم تعيين السفاح الأشهر بيريا مكانه على الفور . وفي 13 مارس عام 1939 تم إعفاءه من منصبه في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي , ولاحقا من ذلك العام أصبح عاطلا عن العمل بعد إلغاء مفوضية الشعب للنقل المائي بأمر من ستالين . وفي 10 ابريل عام 1939 تم إلقاء القبض على يازوف أخيرا , واخفي خبر اعتقاله عن اغلب ضباط الشرطة السرية , فقد أراد ستالين أن تتم عملية التخلص منه بهدوء وسرية تامة . بيريا الأب الروحي للكاجي بي .. بيريا الأب الروحي للكاجي بي .. تحت التعذيب اعترف يازوف سريعا بكل ما أردوا منه أن يوقع عليه .. خيانة .. اختلاس .. تآمر .. وحتى بمثليته الجنسية، وبيني وبينكم فهذه التهمة كانت حقيقية، حسب الوثائق التي إطلعت عليها "مراكش بريس" ، المهم، باختصار فإن جميع ما يكفل إعلانه "عدوا للشعب ". ومثل سلفه ياغودا , وقف يازوف أمام محكمة الشعب مترنما ومعلن ومادحا ومتبجحا بمحبة الزعيم ستالين , صرخ في قاعة المحكمة قائلا بأن إسم ستالين " سيبقى على شفتي حتى أخر لحظة من حياتي " .. لكن هذا التملق كان قد أصبح من دون جدوى .. فالحكم عليه كان قد صدر حتى قبل أن ينطق به قضاة المحكمة، من طرف ستالين نفسه .. وهكذا حكموا عليه بالإعدام , وما أن سمع الحكم حتى خارت قواه وكاد يسقط أرضا لولا أن تلقفه الحراس وحملوه إلى زنزانته . في يوم تنفيذ الحكم كان يازوف مرعوبا وخائر القوى، متبولا ومتغوطا في سرواله , ربما تذكر كل أولئك الذين أرسلهم إلى ذات المصير ؟ .. أخذه ضباط الشرطة السرية، الشداد الغلاظ إلى نفس تلك الحجرة الكريهة، التي تكلمت عنها في بداية هذه الفسحة ، "فسحة الأحد" ، والتي طالما أشرف هو فيها على إعدام ياغودا وآخرون يعدون بالمئات قبل عامين . لكنه كان أقل شكيمة وصمودا من ياغودا , راح يصرخ ويتوسل , وطفق يذكر الرجال المحيطين به وبجميله بأياديه البيضاء عليهم حين كان رئيسهم .. لكن كل ذلك كان بلا فائدة .. وجاء صوت من أقصى الحجرة .. " انزعوا عنه ثيابه " .. فجردوه من ثيابه .. ثم جاء الصوت ثانية .. " اضربوه " .. فانهالوا عليه بالضرب المبرح حتى تركوه بين الحياة والموت ممددا على الأرض يبصق الدم من فمه ويبكي كالنساء .. ثم اقترب الرجل الواقف في ركن الحجرة المعتم وبانت ملامحه .. انه بيريا .. الرئيس الجديد للشرطة السرية , الذي كان يضمر ليازوف كرها شديدا , أومأ إلى الجلاد المخضرم , فاسيلي بولخين , فاخرج هذا الأخير مسدسه وأجهز على القزم الدموي برصاصة في رأسه . لعنة التاريخ وتعديل الصور .. انتهى عصر يازوف .. مسحوا أسمه ومحو ذكره من جميع السجلات , رفعوا صورته من معظم الصور الفوتوغرافية التي تجمعه بكالينين و ستالين , كأنه لم يكن يوما ذلك الرجل الذي فضله القائد على جميع الرجال .. أزف عصر بيريا .. الذي قام في بداية عهده , بأمر من ستالين , بإطلاق سراح عشرة آلاف معتقل , كأنه يريد أن يقول بأن ما حدث في زمان يازوف لم يكن بعلم وقبول القيادة السوفياتي ة . لكن رقة بيريا لن تدوم طويلا , فالحرب على الأبواب , والنازي يستعد لاجتياح روسيا , وقريبا سيرسل بيريا الملايين إلى المعتقلات من جديد بتهمة الخيانة , وستهجر شعوب كاملة من موطنها بتهمة تعاطفها مع الألمان , وسيعدم عشرات الآلاف ويدفنون في مقابر جماعية في الغابات والأماكن النائية . بيريا سيصبح نسخة جديدة من ياغودا ويازوف , سيدور مع زبانيته في شوارع موسكو , سيشير بيده إلى أي فتاة أو امرأة تعجبه , سيأخذها بالقوة إلى قصره فيغتصبها , وستحصل كل امرأة مغتصبة على وردة بيضاء يقدمها لها حرس بيريا عند مغادرتها لمنزله , أما من تقاوم فسينتهي بها المطاف إلى معتقلات الكولاك ولن يسمع عنها أحد مجددا . أخيرا .. مات ستالين .. نيكتا خروتشوف : خلف ستالين وإنتقد سياسته في 1 مارس 1953 عثر الحراس على ستالين في غرفته وهو ممدد على الأرض فاقدا وعيه وغارقا في جمود مهيب ,مثل غول أسطوري، فقد أصيب بسكتة دماغية , وفارق الحياة بعد أربعة أيام , ولن يطول الأمر حتى يتبرأ السوفيات من دكتاتورية وأساليب ستالين , حيث أن الحاكم الجديد للاتحاد السوفياتي ,رجل كان يرعى حيوانات الرنة في سهوب أوكرانيا ، إسمه "نيكيتا خروتشوف" , سيشن هجوما لاذعا على سياسات ستالين ودكتاتوريته , وسيعاد الاعتبار لمعظم الضحايا الذين لاقوا حتفهم على يده . وبنهاية عقد الخمسينات سيتم إغلاق معظم معتقلات معتقلات الكولاك . لافرينتي بيريا , رئيس شرطة ستالين السرية , سرعان ما سيلاقي نفس مصير سلفيه ياغودا ويازوف , سيحاكمونه بتهمة الخيانة , سيقف في قاعة المحكمة متوسلا الرحمة بلا جدوى , ثم سيعدم بنفس طريقة سلفيه , لكنه سيكون أقل شكيمة وشجاعة في مواجهة الموت , سيصرخ وينوح حتى يضطر جلاديه إلى وضع خرقة من قماش في فمه لإسكاته , ثم سيسكتونه للأبد برصاصة في رأسه . هكذا هي الدنيا عزيزي القارئ ..عزيزتي القارئة كما تدين تدان .. لكن برغم كل تلك الجرائم هناك من يشيد بستالين , لا بل أن شعبيته مرتفعة في روسيا اليوم , فهو بنظر البعض الرجل الذي حمل روسيا من دولة فيودالية إقطاعية غارقة في الجهل والفقر والتخلف إلى مصاف الدول العظمى , رجل طور الزراعة والصناعة والتعليم , رجل دحر الألمان , وقضى على هتلر، رجل صنع القنبلة النووية السوفياتية , ووقف بوجه أمريكا والغرب وأحكم قبضته على شرق أوربا .. كلها في حين يؤكد البعض الآخر أن ستالين كان أعظم حكام الاتحاد السوفياتي السابق , أما خروتشوف وبريجنيف وتشيرنينكو وأندروبوف وصولا إلى ميخائيل كورباتشيف فقد كانوا في نظرهم صنيعة الغرب وهم من مهدوا لسقوط الشيوعية . شارك