في طفولتي المبكرة، هنا في إمليل وبحيرة إيفني على الطرف الأيسر من طبقال أعلى جبال بلادي والعالم العربي بدون منازع، بقيت خائفٌا لسنوات طويلة، كلما أمضيت الشهر الأول من الصيف .. قابعٌا تحت السقوف الحجرية.. ترهقني الهواجس، وترعبني صور الخيالات التي تتراءى في القصص والدفاتر والخربشات في كل موسم،حيث يعرف شهر غشت حرارة مروعة في مراكش، بينما أمطارا غزيرة وبردا يصل لدرجة الصقيع في هذه المناطق بدءا من أسني وصعودا نحو الجبل. صور العفاريت الزرقاء والعفاريت الحمراء والغول وشيخ البير وبوخنشة ولالا رحمة الله وغيرها من الأسماء التي لم يكن لها وجود سوى في مخيلتي الصغيرة، ومخيلات أقراني، وفي الواقع “نعيمة” الفتاة التي كانت تكبرنا بحوالي عشر سنين، وهي الآن سيدة محترمة تقيم في الكيبيك مع عائلتها، كانت تتفنن في إرعابنا والتلذذ بما تخلقه من جحيم وأهوال حول نفوسنا وأرواحنا . إنه الخوف الطفولي الجميل والبريء الذي كانت تغذيه خرافات الجدات وأساطير القدماء، لكنه يتضائل كلما كبرنا، أما هذا الخوف فكان يكبر معي، وتكبر معه الخيالات والتوجسات. فلم تكن الحكايات العتيقة التي تسردها الجدات لنا عن الجن والعفاريت والمردة والسحرة كافية لأن تقودني للخوف، بل قذفتني في لجة الهلع توصياتهن الخائفة وتوصيفاتهن المتكررة.. ذلك الهلع الهستيري الذي سكن قلبي لسنوات،والذي تحول من العفاريت نحو المجهول، كان يجعلني أركض بكل ما أوتيت من قوة للوقوف تحت سقف يظلني بالآمن والطمأنينة. مشكلتي أني لم أكن أعرف في طفولتي أني ولدت بعد أخي محمود يرحمه الله ، كان هو البكر،الذي فارق الحياة صغيرا قبل قدومي، كنت أعتقد أني البكر. الولد البكر المرهون بكل الأماني لتحمل المسؤوليات.. شرعية وقانونية واجتماعية.. تجربة جديدة في عالم جديد تغلفه مرارة اليتم والوحدة والصقيع.. كم كرهت بكورتي وكرهت في أن أصبح الأكبر. أحمي من لم تلده أمي وأدافع عنهم ولا زلت أفعل ذلك، لكني لا أجد من يدافع عني.. الكبير الذي يتحمل زلات الصغار، والبكر الذي تعلق عليه التكاليف،والأخطاء،والضرائب والبكر الذي يجب أن يكون في العراء أثناء سقوط المطر ووميض البرق والصواعق أو عند هديرالزوابع والرعد. فالرعد دائما يختطف الولد البكر. ومنذ طفولتي كنت في كل موسم صيف متناقض المناخ، مابين مراكش وطبقال أتلقى مزيدا من التوصيات، مزيدا من التوصيفات وكثيرا من الخوف الذي كان يكبر في داخلي عاما بعد عام. لا تقف في العراء أبدا عندما يهطل المطر كي لا تأخذك “الرعدة”.. هكذا كانت التوصية.. أنت البكر.. والرعد لا يسرق إلا الولد البكر.. أقول كيف؟! يقولون: يأخذك الرعد يا أمحمد إلى الفيافي والثلث الخالي ،أو غابات الظلام إلى قرطاحنة فلا نراك أبدا.. كان السؤال يكبر في داخلي ويكبر معه الخوف. وبالرغم من ذلك، ففي كل موسم تراني، أركض كلما بدأت قطرات المطر بالانهمار أبحث عن سقف.. طفل صغير يرتمي في حجر جدته أو فوق صدر أمه، وكانت نعيمة الشيطانة تتضاحك من سلوكي وهي تتلاعب تحت ماء المطر فيما أراقبهم خائفا متخفيا، أسمعهم يرددون أناشيد المطر..نفسها التي نرددها في مراكش، كم أحببت تلك الصورة.. يا شتا تا ...تا ... تا يا وليدات الحراثة يا لمعلم بوزكري طيب لي خبزي بكري المطر ينهمر على كل شي، على طواقي الرعاة وجلابيب باعة الزيتون،ومزارعي التفاح، على السقوف وبين شقوق الطواحين،على العتبات الصخرية والأواني الملقاة في الباحة ... كانت نعيمة تقول لي : يالك من أحمق ؟؟ تقف في العراء تحت المطر المنهمر تردد الأناشيد، تارة ترفع وجهك للسماء مغمضا عينيك، فاتحا فاك على اتساعه كذئب جائع، لاستقبال قطرات المطر العذبة، وتارة ترخيه والمطر يبللك ويتقاطر من جسمك كالمتسول ... فرقعة كبيرة يتبعها هدير ضخم، صوت مرعب كدحرجة صخور عملاقة حطها السيل من عال في قعر الوادي، أمطار دافقة، يتبعها صحو مفاجئ تنكشف عنه زرقة السماء، دمى قطنية بيضا ورمادية من السحب.. فيما نحن لانزال نردد: يا شتا تا ...تا ... تا. يا وليدات الحراثة. ذات يوم ماطر عندما رأتني نعيمة، أهرول مسرعا للوقوف تحت سقف يحميني من المطر، قالت لي وأنا أستشعر براءتها وهي تقف تحت المطر.. أنظر.. أنا لا أخاف.. تعال.. لماذا أنت خائف؟! أضحكتني كلماتها وأبكتني في الوقت نفسه، فماذا يمكن أن أقول لها. بقدر ما كنت ناقما من بكورتي نقمت أيضا من الخياطين.. فالصورة المخيفة التي كانت ترتسم في مخيلتي هي أن الرعد يرفعني بمخطاف مثل مخطاف “المدني”السفناج، لذلك كنت دائما أقطع علامة القماش التجارية في القمصان والصدريات والمعاطف التي تكون وراء مكان العنق، عندما ألبس ثوبا أو قميصا جديدا.. كانت أمي تغضب عندما تراه بدون تلك العلامة، خصوصا عندما يترك نزعه بعض التمزقات. تقول لي برائها اللاثغة : وكأننا نقتني لك الملابس من “الخودة” يعني الخردة، أو الجوطية، أنت لاتريد ابدا أن تتنظم يا أمحمد. كانت مخاوفي تزداد من وجود هذه العلامات التجارية القماشية، وكنت لا أبوح بهذه المخاوف لأحد، لكني ذات يوم عندما نزعت علامة قميص أزرق جميل وجديد فأتلف النزع جزءا من القميص، غضبت أمي كثيرا وأصرت على معرفة سبب قطعي له، وكانت تلومني كثيرا كوني أقطعه، فلما أخبرتها بهواجسي انفرجت أساريرها عن ضحكة جميلة فيما بقي وجهي يحمل ملامح الدهشة. لا لا ! لا تخاف أيها الشيطان الصغير ، فالرعد لا يسرق سوى الولد البكر... وأنت لست البكر....