ذلك الصباح هل كان حلما أم خيالا راودني وانا مستلقية على وسادة الانتظار التي كانت تفصل بيني .. وبين جبران خليل جبران .. الفيلسوف والفنان والشاعر والرسام العالمي الذي لثغنا كلماته مع خطواتنا الأولى في الحياة ! طالما ارتبطت المدن بأسماء مبدعيها في ذاكرتي .. لذا وجدتني اقفز بذاكرتي لسنوات بعيدة وانا اتذكر كلمات جبران التي رسمت ملامح حبري باكرا .. فرأيتني في سنوات الاكتشاف الأولى اطالع بلهفة الأجنحة المتكسرة .. وأكاد احفظ عشرات العبارات من ( دمعة وابتسامة ) .. ورسائل جبران الى مي زيادة وغيرها من الكتيبات الصغيرة التي كانت تملأ المكتبات انذاك .. دمع شفيف يندّي جلد الشارع الطويل الذي يرقب لهفتي بالإمساك بأجنحة حلم راود ني لزمن طويل .. هكذا هو مطر بيروت في شتائها الناعس على الأرصفة والشجر.. وهو المطر ذاته الذي رافقني في رحلتي من بيروت الى (بشرّي ) حيث ولد جبران ودفن فيها وأودع كل ذكرياته ومقتنياته ولوحاته وتاريخه الفني والأدبي . كان صباحا جميلا .. وهو الصباح الذي كنت احلم به دوما .. مطر ناعم ناعم .. وبرد يبث الدفء في روحي التي انهكتها رائحة الحروب والرماد الذي صبغ أوراقي وحكاياتي .. كنت قد اتفقت مع (ابو طوني) وهو سائق سبعيني هاجر الى لبنان في عمر السادسة عشرة من فلسطين وكانت احدى الصديقات قد عرفتني عليه ودعته للفندق حيث وجدته بانتظاري وكانت فرحتي كبيرة حين وجدته يرسم لي خارطة رحلتنا الى مدينة (بشرّي) التي تبعد قرابة الساعتين عن بيروت . كان ابو طوني رجلا سبعينيا بامتياز فهو يرتدي قبعته وقيافة الستينات التي كنا نراها في أفلام رشدي أباظه والأفلام القديمة التي يظهر فيها الجبل وسحر الطبيعة اللبنانية، وكنت طوال فترة مكوثي في بيروت التي امتدت لشهرين احاول ايجاد وجه بيروت الحقيقي البعيد عن الاماكن التجارية والمولات والضجيج .. كان ابو طوني بقيافته السبعينية البيروتية لبقا وأنيقا وفهم ما أردته دون الحاجة للإيضاحات والشروحات وشعرت وأنا اخرج معه من باب الفندق اني سأكون في رحلة خاصة بمذاق خاص ! - ابو طوني – حال خروجنا من الفندق وجدته يفتح باب سيارة من طراز السبعينات وصدمت ! وفكرت كيف سنصعد الجبل ونجتاز المسافة من بيروت الى بشرّي بهذه السيارة ؟ بقيت أتطلع اليها وأتلمس معدنها الذي ظل محافظا على لمعانه ، لم يطل انتظاري حتى فتح لي ابو طوني الباب ووجدتني اندس في عبق سنوات بعيدة أخذتني اليها سيارته العجيبة .. وعرفت اني في رحلة استثنائية غائرة في الزمن والتاريخ والقصص والأفلام والزمن الذي نحب انطلقت بنا السيارة نحو الشمال وكان ابو طوني يطمأنني ان سيارته مازالت تحافظ على رشاقتها ومتانتها وانها افضل بكثير من السيارات الحديثة ، كنت سعيدة وانا اصعد هذه السيارة فهي فرصة قد لاتتكرر مستقبلا بل من النادر ان تتكرر فقد انقرضت هذه السيارات وكذلك ملابس ابو طوني التي زادت من بهاءه السبعيني . لم يكن ينقصني سوى صوت فيروز لتكتمل سعادتي ومتعتي بهذه الرحلة التي حلمت بها كثيرا ولكني خشيت ان احرجه بطلبي بسبب طراز السيارة القديم حيث تصورت انها بلا آلة تسجيل ولكنه كان بارعا في قراءة افكاري لدرجة اني وجدته يدس شريط التسجيل في فتحة صغيرة أمامه عرفت فيما بعد انها الة التسجيل واذا بصوت فيروز يهطل علينا مطرا سخيا غسلني بزرقته اللامتناهية وهي تمتزج بخضرة الأشجار التي افترشت جانبي الطريق . كلما اوغلنا في المسافة اكثر .. كانت الطبيعة ترتدي ثوبا جديدا .. فمن خضرة الأشجار التي احاطت بنا الى الصخور المترامية على الجانب الأيمن للطريق ليتحول الى طريق جبلي رغم استقامته لان المنطقة التي تحيط بنا كانت جبلية ، حين رفعت رأسي من النافذة لأرى قمة الجبل وقعت عيني على دير وتمثال بدا لي انه للنبي عيسى عليه السلام وكان ابو طوني خير دليل سياحي حيث بادرني وهو يخبرني ان ما اراه هو دير يسوع الملك حيث بني فوق قمة الجبل . جونيَِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِه أنت حر امام شمس النهار وأنت حر أمام قمر الليل وكواكبه وأنت حر حيث لاشمس ولاقمر ولاكواكب بل أنت حر عندما تغمض عينيك عن الكيان بكليّته ولكن أنت عبد لمن تحب لأنك تحب وأنت عبد لمن يحبك لأنه يحبك . (جبران) تصر الطبيعة على ارتداء ثوب واحد بجسد واحد لاتفصله الّلافتات والمسميات مهما أوغلنا في أحشاء مدنها وحقولها وجبالها .... يرافقنا وجه الشمس المخاتل من بين الغيم ورائحة الجبال .. حين دخلنا مدينة جونيَِِِِِِه لم أشعر إننا دخلنا مدينة أخرى إلا من خلال الّلافتات الموضوعة على جانبي الطريق والتي ترحب بالزوار وهذا شان أكثر إن لم يكن جميع مناطق لبنان من مدن و(ضَيعات) وما إلى ذلك من تقسيمات وضعها الإنسان مخالفا الطبيعة كعادته . كان الجبل يرافقنا في مسيرنا الذي كان أبطأ من السيارات التي كانت تعبرنا بسرعة ولم يكن يزعجني ذلك بل على العكس تماما فقد منحني فرصة أكبر للاستمتاع بجمال الطبيعة.. ومنحني فرصة للتأمل والإحساس بوقع خطواتي على الشارع كما لو اني اقطعه سيرا على الأقدام . كان الجبل قد التف حول خصر (جونيه) كلما تقدمنا في المسافة أكثر حتى استقر أمامنا بحلّة جديدة أكثر اقترابا وظهر لي يرتدي قبعة بيضاء عرفت من ابو طوني إن هذه القبعة البيضاء هي الثلج الذي يتربع على قمته والذي سيكون محطتنا في (بشِّري حيث متحف جبران خليل جبران ) ! لم أصدق إني سأتلمس الثلج الذي رأيته في الأفلام والأحلام ! سالت أبو طوني بإلحاح : هل سيكون هنالك ثلج حين نصل أم إنه سيذوب بفعل أشعة الشمس التي كانت تخاتل المطر الناعم وتزداد وضوحا بمرور الوقت! وكلما كررت عليه سؤالي هذا كان يجيبني بضحكته مؤكداً إني سأتجمد من الثلج وسألعب به أتزلج ان شئت !! لا أذكر من الثلج سوى صورة باهتة في صغري حين كنت في لندن .. ذكرى مضببة مثل تلك البلاد لكني أذكرها جيداً لأن وجعها كما يخيل لي مازال يلازم ظهري حين انزلقت وانا أسير لأول مرة على الثلج ! ذلك الثلج البعيد ..في تلك البلاد التي اصبحت حلما نائيا فيما بعد ... لم يكن رحيما بطفولتي كانت برودته البيضاء تنعكس حتى على الوجوه العابرة .. وكنت حينها أضعت أمي أو أضاعتني في أحد المتاجر لدقائق بثقل دهر من الخوف والضياع .. كانت دموعي تنعكس على مرايا الثلج وأنا أكاد أداس بأقدام العابرين الذين لم يكونوا ينصتوا أو يهتموا للغتي الهجينة التي اشتمهم بها بكل خوفي .. لم يكن ذلك الثلج رحيما كما أوحى اليّ بياضه فقد أوقعني في أولى خطواتي التي التزمت الحذر فيما بعد لكي لاتسقط في فخ بياضه من جديد ! لكني كنت واثقة من إني حين ألامس ثلج لبنان فإن الأمر سيكون مختلفا .. ذلك لأنه ثلج بلاد لم تبخل علي بالفرح والدهشة منذ وطئتها قدمي .. وهاهي بحلّتها الخضراء تؤكد لي هذا الإحساس.. كان الطريق ممتعا ولم يدع لي مجالا للضجر او اللجوء للنوم لانهاء المسافة كما يحدث في الشوارع المقفرة .. وعلى الرغم من أن السيطرات كانت تستوقفنا بين الحين والآخر إلا ان الأمر كان مختلفا فقد كان أبو طوني يبادرهم ونحن نقف امام الضابط ويقول لهم بابتسامته : سلامة ياوطن فيدعوننا نمر دون سؤالنا عن وجهتنا أو من اين أتينا .. كونشرتو أخضر كان سيرنا يشبه معزوفة كونشرتو مع فارق إن الطبيعة هي التي اشتركت في عزفه ... كل ماكان يصادفنا من مشاهد خضراء مغسولة بالمطر أزاحت عن كاهل روحي كثبان الرمل والرماد .. في كل منعطف تتغير المعزوفة .. وثمة تداخل عجيب بين أشكال الفنون .. فالطبيعة التي تشكلت أمامي كانت تدخلني معرضا للوحات فنية رسمتها الطبيعة .. وعزفتها .. وكتبتها حكايات لقصص مفتوحة البدايات والنهايات في حبري .. كنا نوغل الى الشمال .. ذلك الشمال الذي حملني فوق غيم الدهشة وأطلقني طائرا آخر في فضائه الأزرق .. دخلنا ( جونيه ) التي اشتهرت بالسياح كونها معلما سياحيا معروف في لبنان لما يتمتع موقعها بإطلالة بحرية مبهرة .. بالإضافة إلى ( التل فريك ) الشهير وهو يطل أيضا على أجمل المناظر الطبيعية .. حيثما انعطفنا كان الجبل أمامنا يرتدي قبعته البيضاء وكلما تقدمنا كان يحيط بخصر جونية بخضرته وكان التل فريك يسير بركابه المعلقين فوق أسلاكه وصولا لقمة الجبل ... مررنا بإحدى الضيعات التي انتشرت على جانبها الأيمن البيوت والبنايات وعلى الجانب الأيسر .. اطل البحر أخيرا بزرقته الهادئة محتضنا بريق الشمس المخاتلة بين الغيم والصحو .. لم اكن أسير في طريق .. بل كنت في كرنفال مزهو بألوان شتى .. فقد استعرضت الطبيعة أجمل ثيابها .. فمن خضرة الأشجار الى ألوان الصخور المختلفة بتدرجات ألوانها وأشكالها الهندسية التي نحتتها الطبيعة بأزميلها .. أما البيوت فقد تميزت بشكل عام في لبنان والقرى المحيطة وربما في أماكن أخرى بالقرميد الأحمر الذي يعتليها بتصميم ثلاثي ليشكل ببساطته وأناقته امتدادا آخر لجمال الطبيعة لا دخيلا عليها مضيفا اليها طابعا غربيا امتاز به لبنان بشكل عام كسلوك حياتي وحتى اللغة كان هذا التأثر واضحا على اللبنانيون الذين يستخدمون الكثير من المصطلحات الانكليزية والفرنسية صغارا وكبارا وذلك بتأثير تعاقب الحضارات التي مرت على هذا البلد ، وهنا اذكر حادثة طريفة حكاها لنا الدكتور عماد بشير التدريسي في كلية الاعلام بجامعة لبنان فقد روى لنا ان هنالك سائحا فرنسيا زار احدى الضيعات في لبنان فالتقى برجل مسن وحياه قائلا : بونجور فرد الرجل المسن عليه التحية قائلا – كيف عرف لغتنا هذا الفرنسي ولم يمض فترة طويلة في لبنان ! هذا التداخل في اللغة والعادات جعل من لبنان واللبنانيين بلدا مميزا فقد جمع الحضارتين العربية والغربية فالعادات الغربية تظهر بشكل جلي في المظهر كلبس وعمارة وبعض الطقوس الحياتية اما العربية فليس ثمة ادنى شك ان اللبنانيين محتفظون بعروبتهم ويمكن لأي زائر ان يلمس ذلك بوضوح حين يصعد سيارة الأجرة فكل سائق له وجهة نظر سياسية وروح ثورية.. ومن خلال تلك الأحاديث العابرة مع السواق كنت استشف ذلك القلق لديهم من نشوب حروب جديدة .. وفي البداية لم اكن أشاركهم ذلك القلق .. فأنا سليلة حروب طاحنة .. انا ابنة الموت التي خرجت من حروب شتى .. ولم يكن يخيفني ان اسمع انفجارا او موتا او قتلا .. فقد مثلوا بالعراق تمثيلا ونكلوا بنا عند كل موت .. لكني ومع مرور شهرين على مكوثي في لبنان .. بدأت اعي ذلك الخوف .... واشعر به وكنت صادقة جدا حين قلت لاحدى الصديقات اني ارغب بالخروج في مظاهرة مع اللبنانيين وارفع العلم اللبناني بشجرته الخضراء الغائرة في البياض واصرخ بملء خوفي ورجائي ان احموا هذا البلد من الحريق والقتل والحروب .. فلبنان بلد منذور لكل مفردات الجمال والإبداع ولا عجب ان تخرج من بين ضيعاته فيروز .. او يولد من قمة جباله .. جبران .. في أقدم غابة أرز في العالم على الجانب الأيسر .. طالعنا وجه بيروت المتشح بزرقة البحر .. لم تكن بيروت مدينة عابرة .. بل جنية ظلت تطاردنا بلعنة جمالها ونحن نجوب المدن والأوطان .. كانت السيارة تجتاز الضيعات ضيعة تلو اخرى دون ان اتمكن من تدوين اسمها او وصفها في دفتري الأزرق الذي احمله معي في رحلاتي .. اتذكر كلام إحدى الصديقات وهي تطلب مني ان اترك التدوين والكتابة والاكتفاء بالتمتع بالمناظر الخلابة والاستمتاع بالطبيعة .. معها حق .. فقد كنت اطارد الكلمات في محاولة لتثبيتها على الورق كي لايفوتني تسجيل التفاصيل التي اشاهدها .. لأني بلا ذاكرة .. او كما تحب ان تناديني الصديقة الإعلامية حنان الغريب : صاحبة الذاكرة المثقوبة ولان حنان الغريب كانت صادقة في وصفها فقد رافقتني في بيروت حتى اللحظة الأخيرة قبل سفرها لأمريكا .. كان لابد ان اصنع ذاكرة من ورق .. وفقا لنصيحة ماركيز الذي قال “من لاذاكرة له فليصنع ذاكرة من ورق”.. عند مدخل احدى الضيعات لاحظت وللمرة الاولى وجود ماعز منتشر على الجبل .. وذكرني هذا بماعز المنطقة الشمالية في العراق .. ثمة تشابه بين ماشاهدته من مناظر طبيعية في لبنان وبين المناظر الطبيعية في شمالنا .. .. فالجبال ذاتها ترتسم ايضا لدينا بنفس الخضرة وذلك التدرج اللوني العجيب .. لكني لم اكن اشعر بذات الغبطة هناك .. في كل فرحة وكل معلم جمالي كانت الغصة حاضرة فالحرب كانت تعمد كل شبر من ارض الوطن .. ولم تكن ثمة ابجدية صالحة للكتابة .. لست يائسة .. لكني سئمت رائحة الدماء التي كانت تطاردني في كل خطوة .. على الجانب الايسر كان مدخل لضيعة (البربارة) اما في الجانب الايمن فقد شاهدنا ضريح القديسة رفقة ... استمرت السيارة بنا في طريق مستقيم حتى وصلنا الى منطقة ( كفر عبدا ) حيث تقل البيوت فيها بشكل لافت .. لتعود بعد ذلك لتصطف أمامنا بشكل هندسي منتظم ... -القديسة رفقة- كان الطريق يحمل لنا الكثير من المشاهد الطبيعية لذلك لم اكن اعرف كم الوقت الذي قضيناه .. وكم الوقت المتبقي لدينا ... ولم اكن ارغب بسؤال أبي طوني عن ذلك لكي لايسلب مني متعة الاكتشاف .. خصوصا وانه اغلق مذياع السيارة فقد ارتفعت حرارتها .. وعوضا عن ذلك راح يغني باحتراف اغاني ام كلثوم .. كانت اللافتات المرورية تشير الى ان جبال الأرز هي المنطقة التالية ... كدت انسى سبب هذه الرحلة .. لأني في طريقي لاكتشاف جبران بعيدا عن الورق .. كنت اكتشف وجه لبنان الحقيقي .. بلا مساحيق ... روح البلاد التي لانجدها الا في القرى البعيدة عن ضجيج المدن وزيفها ولهاثها بعقارب وقت يحسب بمنطق الربح والخسارة .. على الجهة اليسرى كان لون الجبال وشكلها يبدو مغايرا عما رايته سابقا فقد كانت مجرفة .. وهذا يفسر لي التماثيل التي عبرناها وكانت معروضة على جانب الطريق فقد كانت بلون هذه الجبال .. اما الجبال التي كانت على الجهة اليمنى فقد احتفظت بغطائها الأخضر لان الجرافات لم تطأها .. كنا نسير بين مشهدين الأول رسمته يد الخالق وبنت جباله ولونتها بالخضرة الداكنة والثاني ليد الانسان التي جرفت الصخور لتصنع منها تماثيل ! هل هي ذاتها الروح الجاهلية التي تحرك فينا النسغ لإعادة بناء التماثيل .. وعبادتها لاحقا ! لم يمض وقت طويل حتى وجدنا أنفسنا محاطين بأشجار الأرز التي انتشرت في صفوف هندسية رائعة يغطيها الثلج ويثقل أغصانها ... نزلت وتمشيت في الشارع الذي يخترق جسد الثلج .. صعدت الى الثلج ... كان البرد قارسا لدرجة انه كبلني .. ومنعني من بناء رجل الثلج كما حلمت ! لكني عوضا عن ذلك عملت كراة ثلجية ورحت اضرب بها الشارع ... تجولت في المحال القريبة التي كانت تبيع التذكارات الصغيرة من تحف خشبية مصنوعة من خشب الأرز .. والأعلام .. وكارتات الأعياد .. وفي مطعم الارزة .. كان غداؤنا .. ومن النافذة كان الثلج يطل علينا ببياضه المترف .. ازحت الستائر لأختزن مشهد بياضه في ذاكرتي المعبأة بالرماد .. انا التي كانت تدعي انها كائن شتوي لايخرج الا في الشتاء ويسبت في الصيف .. اكتشفت حينها انني كائن ثلجي لايجيد تنفس الحياة الا على وقع ذلك البياض وهو يفرش لطفولتي سجادته البيضاء .. مغريا اياي وايها .. بأجمل الحماقات ... كنت (الِس) في بلاد العجائب .. (الِس) التي كانت تزفر الحروب بملء رغبتها بالحياة .. وتتنفس الخضرة ورائحة الأشجار والبرد والثلج والطبيعة التي استعظت بها عن ذلك البخاخ الصغير الذي احمله في جيبي حيثما كنت ليحميني من نوبات الربو المزمنة التي تلاحقني دوما .. كان الهواء كله قد تحول الى أوكسجين صالح لرئتي .. وشعرت للحظات .. اني كائن طبيعي لايحتاج للهواء المصنع لكي يعيش .. وتذكرت تلك القصة التي كتبتها يوما وانا على ممددة في غرفتي المطلة على نهر دجلة في ابي نؤاس .. من النافذة الزجاجية الكبيرة كنت اطل على دجلة واشتهي عناقه .. غير ان قصباتي الهوائية خذلتني فبقيت حبيسة الهواء المصنع ذلك الهواء الذي فكرت بطلتي بتنشقه فكسرت الزجاج وهربت الى الشاطيء لتعانق موتها هناك .. وها انا اكسر الزجاج واعانق الجبال والهواء والبحر .. واشتبك مع الحياة بتفاصيلها وحيواتها وكائناتها الدقيقة .. واتشابك مع الهواء كعاشقين بعد غياب طويل .. كان البرد يزداد في صعودنا للجبل خصوصا حين دخلنا (كوسبا) وتسمى ايضا ( البورا الخضراء ) بحسب ابو طوني الذي انهكته باسئلتي عن أسماء الأماكن وطبيعها وسكانها .. كانت السيارة ترتقي بنا الجبل .. وكنا نعانق الغيم ..ونتداخل معه .. من يصدق انه يعانق غيمة دون ان يكون في دربه الى الآخرة ! لقد فعلتها .. وعانقت الغيم .. وهذا ليس حلما .. او ادعاءا شعريا .. او خرفا باكرا كما أتوقع ان يحدث لي .. بل حقيقة عشتها عناقا ابيضا غار في سوادي .. ربما .. لهذا كتب جبران: ( بعضنا كالحبر وبعضنا كالورق فلولا سواد بعضنا لكان البياض أصم ولولا بياض بعضنا لكان السواد أعمى ) على ارتفاع 1500 م فوق سطح الحزن .. صعودا ثم صعودا ..كان ضغطي بدأ ينخفض ونحن نرتقي الطريق الذي كان يزداد التواء وصولا نحو قرص الشمس كما تخيلت .. وتذكرت حبة الفاصولياء العجيبة التي كنت أشاهدها في صغري .. كيف كبرت بسرعة مدهشة وكيف صعدوا عليها الى ذلك العالم الساحر في الأعالي ... الشعور ذاته ينتابني .. كنت اقتل تلك الحسرة الطفولية التي كانت تحلم بحبة فاصولياء تصعد بها نحو الغيم ... لا ادري ان كان سبب سعادتي تلك اللحظة هو الإمساك بحلم الطفولة بعد ان أفلست من الأحلام الكبيرة ... كنا نصعد ... وكان الصداع يزداد في رأسي بسبب تخلخل الضغط .. لكني نسيت الصداع .. نسيت كل شيء وأنا أجوب بدهشتي الطريق وما يحيط به من قطع ثلج متناثرة هنا وهناك ... استوقفت أبو طوني لألتقط بعض الصور فقال لي ضاحكا ( لهلا ماشفتي ثلج .. انطري شوي لنصعد الجبل ) ولم أكن اصدق اني سأرى ثلجا أكثر من الذي رأيته ... لذا نزلت من السيارة والتقطت بعض الصور .. ورجعت أخبئها كمن يخبئ كنزا .. اجتزنا منطقة حصرون التي كانت امتدادا لالتواء الجبل وبعد مسافة قصيرة انتصبت أمامنا لافتة كتب عليها : ( بشرّي مدينة جبران ترحب بكم ) ها قد اسموا أخيرا مدينة باسم فنان وشاعر .. نحن الذين لا نحتفي الا بأسماء القادة وصناع الحروب .. كانت بشري الصغيرة المعلقة فوق أهداب الجبل تعطينا درسا في الحضارة والإبداع والجمال وهي تختم اسم جبران في هويتها الرسمية .. ولا عجب ان يكون الطريق عار من الاسيجة تغطيه أشجار التفاح العارية ... فطالما نادى جبران بحرية الإنسان حياة وعبادة وسلوكا ينتمي بحريته الى ناموس الطبيعة والكون بلا وساطات وبلا قيود .. نحن في بشرّي إذن .. في المكان الذي لفظ فيه جبران أول أنفاسه وعاد ليغرس فيه .. كان الثلج يغطي القرميد الأحمر للبيوت ويدفنها حتى لايكاد يظهر منها الا الأبواب والجدران .. البرد قارس .. ولهفتي تلهب خطواتي التي تسابق السيارة وهي تتوقف في ساحة عريضة ليعلن أبو طوني إننا الآن قرب المتحف وغير مسموح لنا ان ندخل السيارة أكثر .. تركنا السيارة في الساحة المخصصة لوقوف السيارات ودخلنا الى ذلك الممر الطويل .. كنت اتعثر بلهفتي للدخول الى عالم جبران .. الى كتبه .. ولوحاته ..وأثاثه ... و..ولا اعرف مالذي كنت أتخيله آنذاك ! وجدنا أنفسنا أمام سلم حجري طويل ينتصب في بدايته تمثال نصفي .. اقتربت من التمثال وتأملته .. كان لجبران .. صعدت إليه وتلمست حجره الأسود .. استمر أبو طوني في صعوده للمتحف .. تبعته .. وصعدت ... ذلك السلم الحجري العريض المغطى بأوراق الأشجار المتساقطة .. ومضيت خلفه .. حتى وصلنا الى المتحف الذي لم يكن متحفا بقدر ما كان شاخصا حضاريا منقوشا في قلب الجبل .. كأنه بوجوده هنا في قلب الحجر يواصل رواية سيرة جبران للأجيال فالإبداع ليس إلا نقش على الحجر والعقول الصلدة .. والصدئة .. التقيت بمدير المتحف ورحب كثيرا بوجودنا وبدأ يعطينا فكرة عامة عن المتحف وأقسامه ومحتوياته .. حيث عرفنا أن المتحف يتكون من ثلاثة طوابق وقد كان بالأصل ديرا للآباء الكرمليين يدعى دير مار سركيس ويقع على جبل مطل على وادي قاديشا او الوادي المقدس الذي اشتهر بالأديرة والكنائس وصوامع النساك وكهوف المستوحدين وفيه بني أول دير للعبادة في لبنان وقد أوصى جبران شقيقته مريانا بشراء الدير عام 1926 بأمل ان يقضي آخر أيامه فيه لكن القدر شاء بأن يكون متحفه وملاذا لجثمانه الذي وصل من أمريكا سنة 1931 ، اما تحويل الدير الى متحف فلم يتحقق الا عام 1975 بعد ان اكتشفت في وثائق المتحف رغبة جبران ، يومها تخلت ( لجنة جبران الوطنية ) عن المخططات الموضوعة لبناء متحف لجبران . واقتضى التحويل توسيع الجهة الشرقية من الدير ووصل طابقي ّ الدير ببعضهما . يتكون الدير من ستة عشر غرفة جمعت مقتنيات جبران وأعماله ومخطوطاته ولوحاته ... تحتوي الغرفة الأولى على كتب جبران وماكتب عنه. والكتب باللغة العربية والانكليزية .. تلي ذلك الغرفة الثانية التي تعتليها لوحة مشتركة بريشة الفنان فروخ والفنان الحويك ثم يطالعنا في الغرفة ذاتها ينبوع صغير مكتوب بقربه على قطعة صغيرة ( ينبوع النبي ) حيث تنبع مياهه من قلب الصخر اعبر الى الغرفة الثالثة وتضم أغراضا شخصية لجبران .... صندوق خشبي .. ، كرسيين خشبيين صغيرين بطراز قديم ..، سجادة قديمة ..مع إبريق شاي ولوحة لامرأة وصورة لجبران وهو شاب .. بالإضافة الى لوحة للنحات الفرنسي رودن بريشة جبران وقد كان رودن مشهورا جدا بباريس وصادف وجود جبران آنذاك فرسمه .. وفي الغرفة أيضا تمثال صغير للسيد المسيح عليه السلام وأواني زجاجية وبعض التحف القديمة من مقتنيات جبران في نيويورك حيث قضى آخر عشرين عاما من حياته هناك كانت قدماي تقوداني الى الغرف مأخوذة بملامسة مقتنيات جبران .. تلك الأشياء الجامدة التي نحسدها لانها واكبت اشخاصا لم يسمح لنا الزمن بلقائهم الا على الورق ... تماما كما نحسد الاشياء التي تكون على تماس مع نحب دون ان تأبه بهذه النعمة العظيمة .. فيما نبقى نحن اسارى البعد والحواجز الكونكريتية التي لاتنسفها الأمنيات .. وداهمتني للحظة صورة تلك الصديقة التي اجهشت بشوقها الى حبيبها ذات يوم وأشهدتني على هذا الاشتياق حيث قالت لي بصوت مهزوم ( أتمنى لو اني حذائه الذ ي يسير به ويقطع الشوارع والمسافات .. كنت سأرافقه حيثما كان ..)! كنت قد أضعت أرقام الغرف خصوصا انها كانت بالأرقام الرومانية ... تناهى الى سمعي فجأة صوت احد الزوار وهو يتحدث مع رفيقته بالانكليزية فتوجهت نحوه وسألته عن ارقام الغرف فبدا يدلني عليها .. رحب بي وبدأنا نجوب غرف المتحف معا فهدفنا واحد .. الوصول الى جبران في المحبسة في الأسفل حيث دفن .. في إحدى الغرف رأينا الرسائل التي كتبها جبران بخط يده بالعربي وكنت اقرأها بصعوبة بالغة لان خطه لم يكن واضحا بالإضافة الى ان لغته العربية كانت ضعيفة من خلال ماقرأناه من مخطوطات ورسائل وهذا طبيعي بالنسبة لصبي ترك البلاد منذ سن مبكرة وبدأ يخوض في لغة اخرى رافقته حتى لحظاته الاخيرة .. فيما كنت اترجم لتشارلي ما اقرأه بالعربي حاولنا معا ان نقرأ ماكتبه بالانكليزي وقد كانت بعض الكلمات غير واضحة..ربما لأنه لم يكن مهتما بالكتابة بخط واضح فقد كان يكتب لنفسه ولم يتصور ان يأتي فضوليان ليفكا رموز ماكتب بعد عشرات السنين من رحيله !... تصورنا للمرة الاولى ان الرسائل التي كانت بالانكليزي هي ترجمة للتي كتبها بالعربي واكتشفنا ونحن نترجمها انها تختلف ... شارلي كان طالبا في إحدى الجامعات البريطانية .. سألته من اين عرف بجبران فتفاجأ وأجابني إنهم يدرسونه في بريطانيا واندهشت ! وبدأ يعدد لي كتبه التي قرأها له .. وشعرت بخجل وهو يقرأ أمامي عناوين لبعض كتب جبران التي لم تتح لي فرصة قراءتها ! في إحدى الغرف كانت هنالك مكتبة ضمت الكتب التي كان يقرأها جبران وبينها كانت كتبا لغوته وبلزاك وفاوست والبؤساء لفيكتور هيكو ..وآخرين .. وفي الغرفة السابعة وجدنا بعض اللوحات لجبران ورسالة بالعربية والانكليزية وتقول الرسالة .. (أحب من الناس المتطرفين) .. ولم نتمكن من قراءة الرسالتين لعدم وضوح الخط وفي الغرفة العاشرة بدت اللوحات متشابهة من حيث التخطيطات والألوان المستخدمة فكلها تحاكي الجسد البشري بصفته امتداد للطبيعة وجزء منها متداخل فيها يتطور ويكبر معها ويعيش فصولها .. كان تشارلي ينتظرني في الغرفة الأخرى فاعتذرت منه لاني أضيع وقته لكنه اكد لي انه سعيد بذلك لانه يحب جبران فقد درسه في المدرسة الثانوية وأكد لي إنهم يدرسونه في لبنان أيضا اما بقية الدول العربية فبقينا نتبادل علامات الاستفهام ! ... وجدنا في إحدى الغرف رسالة عنوانها ( النور في نهاية الظلمة ) مكتوبة بالعربية بخط جبران لكنني لم أتمكن من إكمالها لعدم وضوح الخط ...ووجدنا رسائل أخرى بالانكليزية كنا نحاول قراءتها أنا وتشارلي ولم تكن ايضا ترجمة لرسائله بالعربية .. احتوت الغرف الحادية عشرة على لوحات لجبران وفي الحقيقة يسلط المتحف الضوء بشكل خاص على جبران الفنان من خلال ما احتواه من لوحات مثلت تجربة جبران الفلسفية والأدبية معا فهو يرسم وكأنه يكتب وقد بدا ذلك واضحا من خلال البورتريهات التي كان يرسمها بالرصاص وحينا وبالألوان الزيتية والمائية والطبشورية أحيانا أخرى .. ركز جبران في رسومه كثيرا على الجسد وتحديدا الأجساد العارية المتصلة اتصالا حرا وعميقا بالطبيعة والروح كانهم أي الروح والطبيعة والجسد يمثلون ثالوثا مقدسا آخر لدى جبران وقد تداخل هذا الثالوث حتى في كتاباته الفلسفية وغيرها وقد اتضحت هذه العلاقة الجدلية في عناوين لوحاته فقد حملت احدى اللوحات عنوان النبي وكان فيها وجه جبران بريشته وأخرى ( التصاعدية ) وهي رجل له أعضاء عديدة ولوحة أخرى لامرأة عنوانها ( الصمت ) ، و( الثلاثية الموحدة ) وهي لوحة لثلاثة رجال عارين يضعون أيديهم على الأرض على نقطة واحدة مشتركة وهي مرسومة بالرصاص ... ولوحة أخرى ( تقدمت الذات الى الثلاثية ) وفيها ثلاثة نساء يحملن طفلا ورسمت بالرصاص أيضا .. لم يسمح لنا بالتقاط صور للوحات لذا اكتفيت بتدوينها على الورق .. ذاكرتي التي لم تخيبني يوما .. توجهنا بعد تجوالنا في غرف المتحف الى مبتغانا الأخير الذي كنا نزداد لهفة اليه بعد كل غرفة تمنحنا فرصة اكتشاف جبران عن كثب .. فكانت المحبسة في أسفل الدير حيث قبر جبران ... وجهتنا الأخيرة .. في قلب الجبل .. بين قبر جبران .. وسريره أفضت بنا إحدى الغرف الى درج لولبي حفرت أدراجه الحجرية في قلب صخور الدير ... نزلت الدرجات برهبة كبيرة وكانت الرطوبة عالية حين نزلت ... والمدفن أيضا لأنه أسفل الدير كان المدفن عبارة عن غرفة حجرية جمعت أثاث جبران من سرير منضدة وكرسي -سرير جبران خليل جبران في مدفنه- ولوحة معلقة على المرسم .. وبعض الأدوات الأخرى ... والى الشمال من الغرفة .. طالعتني حفرة في الحائط مغطاة بجذع أرز كبير .. اقتربت منها انا وتشارلي .. قال لي هذا قبر جبران .. وذهلت ! هوليس مدفونا إذن ! وعرفت انه أوصى بدفنه تحت جذع شجرة أرز .. تطلعت بفضولي من فتحات جذع الأرز فرأيت التابوت الذي يرقد فيه جثمان جبران مقيدا بالسلاسل .. التابوت الخشبي الذي رحت أتأمله وانا أتصور جبران يرقد فيه بطمأنينة العودة الى الرحم .. لكني صعقت فيما بعد حين عرفت انهم حنطو جثمان جبران قبل عشرات السنين ! لقد حرموه من العودة لرحم الأرض والانغراس في رحمها من جديد .. وعوضا عن ذلك .. حنطوه وجعلوه حجرا .. في قلب حجر آخر ... لا ادري ان كانت المحبة شفيعا لذلك .. فمن الصعب ان ندفن أساطيرنا في التراب .. ربما من هنا كانت فكرة الاحتفاظ بجسده محنطا تحت جذع شجرة الأرز التي حلم جبران بأن يتنفس من رأسها يوما حين يوارى التراب .. وكأنه استمع لمناظرتي الصامتة لذا وجدتني اقرأ كلماته التي أرادها ان تكتب على قبره ( انا حي مثلك .. وانا واقف الان الى جانبك .. فأغمض عينيك .. والتفت .. تراني أمامك ) أغمضت عيني وتطلعت بقلبي .. فوجدته أمامي خارجا عن التابوت والسلاسل والصخور ..متداخلا مع أشجار الأرز التي رأيناها في طريقنا اليه ومرتديا عراء أوراق أشجار التفاح التي غطت الأرض ...عند الخروج شاهدت صورته على الحائط محاطة بشمعدانين .. علق عليهما ملامحه الأخيرة قبل ان يبتلعها ثقب الغياب ... خرجنا من المتحف .. تأملت وادي قاديشا.. كان يبعث على الراحة والشعور بحيوات شتى... ولاعجب ان يكون المكان محط اختيار النساك والزاهدين ... فمن يحظى بهذه الجنة الأرضية تصغر في عينيه المباهج العابرة ... كان الثلج بدأ بالذوبان .. ليملأ الشارع بجداول مياه صغيرة ... رسمت لنا طريق العودة ..من أعالي الغيوم ... الى أقاصي الأرض .