شهادات صادمة لمجندين أطفال أصبحوا شيوخا محند لمرابطي، محمد عبد السلام منواش، مصطفى البوجادكي، علي الحيت، محمد العياشي، حمادي اقوضاض، حسن غوردن، مرزوق بوزامبو، التهامي بن بوعزة، أسماء قليلة ضمن قوائم من آلاف الأطفال والقاصرين المغاربة ساقتهم آلة الحرب الأهلية الاسبانية إلى ساحات الموت بالجبال والمرتفعات والحقول المحيطة بمدريد بحثا عن رؤوس “الروخوس”، أكبرهم سنا لم يكن يتجاوز 16 سنة أطلق عليهم “طابور لالايما”، وسارعوا إلى حمل سلاح أثقل من أجسادهم وغاصوا في دماء الآخرين، هربا من هلاك محقق بسبب الجوع. تحقيق: يوسف الساكت (الريف) تصوير: أحمد جرفي الوصول إلى الريف، شتاء، أشبه بقطعة جحيم.. لم يكن سهلا الدخول إلى مدن محمد عبد الكريم الخطابي من أبوابها المعتادة التي كانت مقطوعة بالوحل ومخلفات الفيضانات الطوفانية التي ضربت المنطقة بداية الشهر الماضي وفضحت هشاشة مسالكها المعبدة. على طول الطريق الرابطة بين مكناسوتازة، ظل رجال الأمن والدرك الملكي ومواطنون يحذروننا من مغبة “الغرق” في المياه الآسنة التي غمرت الطريق الوطنية التي تصل إلى الناظور عبر “كاسيطا” و”صاكا”، وينصحوننا بالتوجه عبر طريق تاوريرت الأكثر سلامة، بمعنى أنهم كانوا يطلبون منا إنجاز نصف دورة كاملة، والمغامرة بإضافة أكثر من 40 كيلومترا جديدة في خلاء بارد وتحت سماء ملبدة بغيوم سوداء تهدد بهطول مطر غزير في كل حين. فيضانات وذاكرة لم يكف مرافقي، على امتداد أربع ساعات، عن استعادة شريط الرعب “الفيضاني” الذي كانت تفاصيله المخيفة تصل تباعا من هذه المناطق، ظل يزجي الوقت بحديث طويل عن عدد الجثث التي طفت فوق المياه بأحياء الدريوش والناظور والحسمية وطنجة، وعن قطعان الماشية الذي جرفتها السيول والأوحال وآلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية التي تحولت إلى برك آسنة تصلح لزراعة “الأرز” أكثر من أي زرع آخر. كلما تمادى مرافقي في الحكي، تطلعت إلى السماء التي مازالت تكنز غيومها الداكنة وتهدد بمطر غزير بدأ فعلا، بعد دقائق قليلة، حين تجاوزنا واد أمليل على بعد 20 كيلومترا من تازة. عشرون دقيقة من الأمطار القوية كانت تسقط على الواجهة الأمامية للسيارة، خيوطها مثل قضبان حديدية صغيرة قاومتها ماسحات الزجاج بصعوبة، وقد فكرنا أكثر من مرة في التوقف والانزواء في مكان آمن إلى حين مرور العاصفة، ولم تعد السماء إلى صفائها إلا عند مدخل مدينة كرسيف التي انطلقنا منها بسرعة إلى تاوريرت، وأعيننا على الطريق الساحلي الرابط بين الناظوروالحسيمة الذي لا يخلو من مخاطر هو الآخر، أقواها رعبا حين سقطت صخرة كبيرة من أعلى الجبل على بعد أمتار قليلة من السيارة، وما “أثلج” صدورنا أن بعض مستعملي هذه الطريق يتحدثون عن هذه الانهيارات الجبلية المتتالية مثل “قدر محتوم”، بعد أن رحلت الشركة الأجنبية التي تكلفت بإنجاز هذا المحور الساحلي بدون وضع سياجات حديدية على واجهات تحمي الناس من الموت، خصوصا في فصل الشتاء. دخلنا إلى الحسيمة في حدود الساعة السادسة والنصف مساء، كان الظلام يرخي خيوطه الأولى على المدينة ببطء، وكانت الشوارع والأزقة تكنس ما تبقى من مارة، وترمي بهم في المقاهي وبعض الفنادق الصغيرة لمتابعة مباراة في دوري اسباني يعشقون فرقه حد الجنون، وهو حال جميع سكان الشمال الذين يحفظون ملامح لاعبي ريال مدريد وبرشلونة وديبورتيفو وفلادوليد وأوساسونا وأتليتيكو مدريد..أكثر مما يعرفون أصابع أيديهم. ولم نكد نستقر حتى حركنا بعض الهواتف التي حملناها معنا من مكناس، هناك بعروس الزيتون حيث مارسنا لعبة تذكر ممتعة مع عبد السلام بوطيب رئيس مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل، كان الغرض، في البداية، أن نصل إلى أحد المشاركين المغاربة الأوائل في الحرب الأهلية قيل لنا إنه يقطن مع أبنائه من زوجته الثانية، بمكان قريب من المدينة، ولم ننتظر طويلا، حتى جاءنا الرد من إحدى حفيداته التي تشغتل إطارا بشبكة أمل (هيأة مدنية تشكلت بعد زلزال الحسيمة) والتي قادتنا إلى مدينة إمزورن، بالضبط إلى شارع الرباط. مآس بالجملة منذ أن شق زلزال 2004 دعامات منزله بشارع الرباط بإمزورن (16 كيلومترا من الحسيمة)، يعيش عمر البوشعيبي، شبه وحيد، بالطابق العلوي بمنزل ابنته من زوجته السابقة، إذ وضعته رهن إشارته، قبل رحيلها إلى ألمانيا، حيث تقيم وتشتغل منذ سنوات. يقضى البوشعيبي بقية سنواته بهذا الركن موزعا بين رغبة في البكاء ورغبات في صراخ قوي يسكن حنجرته، وإصرار على إخبار الجميع بأنه لا يستحق نهاية مأساوية مثل هذه، بعد أن فقد “تحويشة العمر”، ذات هزة أرضية قاتلة، أجبرته على حزم متاعه والرحيل إلى مكان مهدد، هو الآخر، بفيضان مجرى الواد القريب. ولد البوشعيبي سنة 1921 بضواحي إمزورن، حسب ما هو مدون في بطاقته الوطنية، وكل ما يتذكره أنه عاش طفولة صعبة وسط أسرة صغيرة، كان الوالد يجهد نفسه كثيرا في الحصول على كسرة خبز سوداء، “كنا نسمع ونحن صغار أن الإسبان كانوا يخلطون نجارة الخشب بمواد أخرى يبيعونها للأسر الريفية على أنها مسحوق دقيق، أما السكر فكان عبارة عن قطع سوداء بلا حلاوة أو طعم، كنا نرغم على استهلاكه خوفا من الموت جوعا”، يحكي هذا الجندي النظامي في جيش فرانكو الذي أضاف أن عمله المضني في ضيعة يملكها أحد المعمرين الاسبان لم يزد وضعه الاجتماعي إلا تأزيما، بسبب دورات الجفاف المزمن الذي كان يضرب المنطقة وقتذاك. ودعنا أمزورن في اتجاه الحسيمة التي بدأت تغرق في سبات عميق منذ الساعات الأولى من المساء، عدا فضاءات بعض المقاهي التي مازالت تعج بعشاق “لاليغا” الاسبانية ويقلبون سافلها عاليها، كلما هزت الكرة الشباك أو اقترب مدافع من الهدف، وحده الصديق “منصف” كان يجارينا في بحثنا الدؤوب عن بقايا جنود ومقاتلين يحصدهم الموت تباعا، مثل سنابل جافة يجزها منجل حاد. في اليوم الموالي، كان الحبيب الإدريسي، نجل المقاتل حمد شعيب محمد، في الموعد، تأسف لنا بحرارة، لأن والده لا يستطيع أن يبرح فراشه بمنزله بالفنيدق، ودعانا إلى تأمل عدد من الأحداث والصور والوثائق التاريخية تثبت جميعها بأن والده حارب إلى جانب فرانكو في سن مبكرة كغيره من المقاتلين المغاربة الذين دفعهم الجوع إلى ركوب الخيار الصعب، وكثيرا ما حكى هذا المقاتل لأبنائه أنه كان من المرافقين للماريشال أمزيان الذي كان يعشق الصيد ويخرج إليه في كتيبة من الفرسان تتقدمهم كلاب سلوقية. لفافات تبغ ومجزرة بالمكان نفسه (مقهى أبو ظبي) الكائن بزقاق متفرع عن شارع محمد عبد الكريم الخطابي، ظل حفيظ بنتهامي وعبد الإله الحتاش، فاعلين مدنيين مهتمين بترميم الذاكرة المغربية الاسبانية، يسترسلان في حكي طويل وشيق في خبايا مرحلة دقيقة من التاريخ المشترك لدولتين جارتين ما زالت مسيجة بأسلاك شائكة من الأسرار والمخاوف. يذكر بنتهامي كيف كان أحد أعمامه، مشارك في الحرب، يخبر كل الفضوليين الذين ينتبهون إلى بذلته العسكرية الكاكية بأنه “غادي يضرب شوية ديال القرطاس وغادي يرجع”، أما أحد أقاربه الآخرين، فقد اختار الانضمام، منذ وصوله إلى اسبانيا، إلى ميليشيات الجمهوريين والشيوعيين، إذ التحق مباشرة بإذاعة مدريد التي كانت تبث أخبارا وأناشيد حماسية تفضح مؤامرات جيش فرانكو وتحالفه غير المقدس مع “المورو”، وهو الاسم الذي يطلقه الاسبان على المقاتلين المغاربة الذين حاربوهم بوحشية على مشارف المدن والقرى. وهنا يروي الحتاش رواية حقيقية على لسان بعض المجندين المغاربة الذين كلفوه، قبل أيام من نهاية الحرب، بحراسة عشرة أسرى إسبان رُبطوا إلى بعضهم بحبال غليظة. ولأن الطقس كان قارسا في منبسط عار تحت الجبل، ولأنه لم يتلق تعليمات منذ أيام، قام هذا المجند من مكانه وأمر الأسرى بالوقوف ووزع عليهم لفافات تبغ وساعدهم في إشعالها، قبل أن يسحب بندقيته ويغرقهم في وابل من الرصاص وينسحب من المكان. قانون الصمت البحث عن أطفال “طابور لالايما” أو طابور أمي العزيزة، مثل مغامرة بإيجاد إبرة في كوم تبن، ليس لأن أغلبهم غادروا الحياة بعد شقاء طويل مع أمراض مزمنة وكوابيس مزعجة في الليل، بل لأن “قانونا للصمت” غير معلن يفرض على عدد من سكان الريف، تحفظا من الخوض في موضوع يعتبره بعضهم من “المحرمات” أو خطا أحمر لا ينبغي تجاوزه، أو على الأقل لا يحظى بالأهمية نفسها التي تحظى بها ملفات أخرى مثل الغازات السامة وأحداث 1958 والدين التاريخي الاستعماري ومستقبل المدينتين المحتلتين. ومن أجل ذلك، كان علينا، مرة أخرى، أن نشد الرحال إلى الناظور ومنها إلى بني نصار وفرخانة وبني شيكر وازغانغن والعروي ودوار سيدي سليمان وأفسو لاقتفاء أثر بعض هؤلاء الأطفال، “مرشدنا” الوحيد في ذلك أرقام هاتفية ووثائق قديمة جدا وصلنا إليها بمشقة الأنفس، فكانت هذه الحصيلة. ذكريات وكوابيس..وجوع عكازات خشبية ونظارات من الحجم الكبير، وأمراض مزمنة بلا حصر وحزمة ذكريات ووثائق بالية تحمل جلها طوابع إدارات اسبانية رسمية، هي كل ما تبقى لهؤلاء “ريكالاريس” الذين قضوا سنوات الحرب الأهلية الاسبانية متنقلين بين السهوب والوديان والجبال والحقول والمنعرجات الوعرة بحثا عن رؤوس “فوضويين يحملون اسم الروخوس (الحمر)، يريدون نشر الرذيلة والكفر والفساد في بلاد المسلمين بالأندلس”، أو هكذا تم إقناعهم في من طرف متعاونين مع الحاكم المحلي الاسباني بإمزورن منذ الشهور الأولى لبداية الحرب، قبل شحنهم في شاحنات عسكرية مكشوفة والعبور بهم إلى المجهول. كان هؤلاء المجندون يعرفون أن حربا ضروسا تستعر في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط وأن دخانا كثيفا يعلو سماء البلد الشمالي، دون أن يُتعبوا أنفسهم، كثيرا، في البحث عن أسباب اندلاع هذه الحرب أو طلب معلومات عن الأطراف المتحاربة، “كل ما كان يثير انتباهنا في هذه السنوات تلك الحظوة التي كان يتمتع بها المقاتلون المغاربة، الذين يعودون في بداية عطلهم العسكرية محملين برواتب شهرية مغرية وأكياس من الخبز الأبيض وقطع الشوكولاته وعلب السكر والدقيق والزيت التي يوزعونها بسخاء على أفراد أسرهم”، يحكي أحدهم ل”مجلة الصباح”. يتذكر أطفال “طابور لالايما” بصعوبة كيف بدأت تتشكل لديهم قناعة الذهاب إلى الحرب، وهي قناعة لم يكن محركها، كما فهمنا، غير الجوع المدقع الذي كان “يرفل” فيه السواد الأعظم من سكان المحلات الخليفية أو منطقة الشمال الشرقي المغربي الواقع، آنذاك، تحت الحماية الاسبانية بسبب تداعيات “العقاب الجماعي” الذي فرضته الحكومات الاسبانية على هذه المناطق بعد الهزيمة النكراء للجيش الإيبيري في حرب “أنوال” بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي. حرائق وأحلام وربما من أجل ذلك، كانت ألسنة الحرائق الكثيفة المنبعثة من سماء اسبانيا تتراءى لهؤلاء الأطفال اليافعين مثل “حلم” أو مشروع لترميم حياة تقترب من العبث، “لم يكرهنا أي أحد على الذهاب إلى الحرب، عكس ذلك كان مجرد اختيار فرد من أفراد القبيلة أو الدوار لهذه المهمة بمثابة امتياز، كنا نحسد صاحبه عليه”، يقول مقاتل بإمزورن بكلمات واثقة، ويسترسل “أذكر أني كنت منهمكا في عملي المضني بالضيعة الفلاحية، كان ذلك في شهر مارس 1937، حين اقترب مني عسكري معروف آنذاك باسم محمد بورجيلة، وهو من المتعاونين مع الجنرال فرانكو، وطلب مني الموافقة على التسجيل في لوائح المحاربين والقوات النظامية والسفر إلى اسبانيا، كنت أعرف أن مجرد وضع اسمي على الورقة يعني التوصل بمبلغ مالي قدره 20 درهما وعدد من المواد الغذائية بحسب أفراد الأسرة، فلم أتردد في ذلك، إذ احتفظت لنفسي بنصف المبلغ، فيما سلمت النصف الباقي إلى أسرتي”. “الروخو” هو الاسم الذي كان يطلقه المحاربون المغاربة على ميليشيات الفلاحين والعمال المساندين للحكومة الجمهورية ذات التوجه الشيوعي، والروخو، الذي يعني اللون الأحمر باللغة الاسبانية، هم قوم أشرار، حسب هؤلاء، ينبغي منازلتهم وقتالهم في عقر دارهم والاستيلاء على ممتلكاتهم ونسائهم واستباحة ضيعاتهم وأشيائهم الخاصة، لذلك كان على زملاء البوشعيبي ومنواش وبوطاهر وصفوط أن يتقدموا الصفوف الأمامية للفتك بالجمهوريين في الجبال والأودية والسهوب والضيعات والقرى والمراكز الصغيرة (الفيلاجات) وتمهيد الطريق للدخول إلى العاصمة مدريد. “الحرب كانت واعرة” يقول المقاتل نفسه، “كل واحد كان يضرب على راسو، كان يطلب منا التقدم إلى الأمام وكسب مناطق جديدة والاستيلاء على أخرى”، ومازال يتذكر، بكثير من التفاصيل، كيف خاضوا ذات يوم من سنة 1938 معركة ضارية مع فيلق من الميليشيات الشيوعية في جبل وعر، انطلقت من السادسة مساء وشارك فيها حوالي 500 “ريكالاريس” لم يتبق منهم عند انتهاء المعركة في حدود الخامسة صباحا سوى 25 جنديا، كان هو واحدا منهم وغادر ساحة القتال برصاصة اخترقت الجهة اليمنى من عنقه وتسببت له في شلل مؤقت في ذراعه لمدة خمسة أيام كاملة قضاها مختبئا وسط ضيعة للعنب متأبطا رشاشه الذي يحضنه مثل طفل صغير، “حين كنت أحس بالجوع، كنت أمد فمي إلى عناقيد العنب واقضم حباتها حتى أشبع، ثم أسترخي نائما دون أن يفارق أصبعي زناد الرشاش”، يضحك كثيرا، ثم يواصل “لقد بقيت على هذا الحال إلى أن تم العثور علي من طرف إحدى الفرق العسكرية المتجولة، حملتني إلى المستشفى بالمركز العسكري بمنطقة قاديس”. —- المشاركة الكريهة كانت لمشاركة المغاربة غير المرغوب فيها خلال الحرب الأهلية (1936- 1939) مخلفات سيئة وخطيرة على صورة المغرب والإنسان المغربي في الذاكرة الإسبانية، إذ ترسبت لدى الجانبين المتحاربين صورة كريهة عن المغاربة الذين شاركوا في تلك الحرب، لذا من المفيد التعرف على تصور ومشاعر جيراننا الشماليين إزاء هذا الموضوع بالذات، مهما كانت تلك المشاركة مشينة وباعثة على التقزز، ثم إن تلك المشاركة القسرية لا يجب أن تحمل مسؤوليتها للمغاربة، بل لمن ألقى بهم في أتون تلك الحرب. فحين دبر الانقلابيون تمردهم على النظام الجمهوري، كان سجلهم العسكري قد تكون في المغرب، وفي غالب الأحيان في الريف، وهناك اكتسبوا خبرة في التعامل مع المقاتلين المغاربة خصوما وأيضا مرؤوسين، إذ تم استخدام مجندين مغاربة في حرب التهدئة التي قادها الضباط الاسبان مثل نظرائهم الفرنسيين في المناطق التي آلت إليهم، وحين اندلعت ثورة عمال المناجم في استورياس في شمال اسبانيا استخدم المجندون المغاربة في قمع تلك الثورة سنة 1934، واقترن تدخلهم بمظاهر قسوة بالغة. وفي ما بعد نقلت معارك المغاربة في حرب التهدئة بحذافيرها إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، ثم طبقت لمدة أطول في الحرب الأهلية، وهكذا فإن كل الفظائع التي ارتكبت هناك سواء على يد المغاربة أو رؤسائهم الاسبان كانت مورست قبل ذلك في الأراضي المغربية. * محمد العربي المساري في تقديمه للترجمة العربية لكتاب مغاربة في خدمة فرانكو لكاتبته الاسبانية الباحثة ماريا روسا دي مادارياغا. —- عمر البوشعيبي..رصاصة في العنق منذ الأيام الأولى لوصوله إلى المركز العسكري بتطوان، عرف عمر البوشعيبي، المزداد سنة 1921، أنه أصبح ينتمي إلى فرقة تسمى المحلة الخليفية رقم 1 وطابور عسكري يحمل رقم 3 ضمن الطوابير المكونة للمجموعة 109، كان هذا التقسيم ضروريا لخوض سلسلة من التداريب القاسية لاختبار قدرة الجنود، وأغلبهم من الأطفال اليافعين، على تحمل صعاب الحرب، ومن هذه التداريب التي مازال يتذكرها هذا المحارب، ملء كيس كبير بالرمال ووضعه على الكتف والركض به لمسافات طويلة، ثم البقاء لمدة طويلة في الخلاء وقوفا. بعد ثلاثة أشهر على هذه التداريب القاسية، توصل القادة العسكريون بأمر ترحيل الدفعة المدربة، وضمنهم الطفل اليافع البوشعيبي، إلى اسبانيا عن طريق الباخرة إلى حدود الموانئ الجنوبية، ثم عبر القطار إلى منطقة قاديس بإقليم الأندلس، وهنا يتذكر البوشعيبي كيف قضى الجنود المغاربة زهاء يوم كامل بهذا المكان، قبل أن تتم المناداة عليهم وتسليمهم أسلحة خفيفة ورشاشات من نوع موشكيتون وأحزمة معبأة بالرصاص وقنابل يدوية، ويزج بهم في أتون حرب ضارية ومعارك دامية لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد. يصمت البوشعيبي بين الحين والآخر ويغرس بصره في الفراغ، كأنما يتحسر على ذاكرة لم تعد تسعفه كثيرا، قبل أن يمد يده إلى ياقة سترته كاشفا بأنامل مرتعشة عن مكان الجرح الذي خلفته رصاصة في عنقه، “شوف في هاد لبلاصة دازت القرطاسة، شوف مزيان باقي العلامة ديالها”، وحتى قبل أن يعدل ملابسه، ضحك ملء فمه متذكرا حكايات بعض المقاتلين المغاربة الذين كانوا يعمدون إلى إحداث جروح خفيفة في أنحاء من أجسادهم للاستفادة من عطل طويلة في عدد من المستشفيات التي كانت تحت إشراف جيش فرانكو “الماكلة والشراب والراحة بزاف في سبيطارات، حتى الممرضات ديال السبليون كانو كيتهلاو فينا بزاف”. بعد إصابته من جديد في إحدى المعارك على مشارف مدينة طوليدو، عاد البوشعيبي إلى إمزورن مع الأفواج الأولى المستفيدة من عطلة عسكرية محدودة، بهذه المدينة مكث زهاء شهر ونصف، قبل أن يعود، من جديد، بإلحاح من عناصر من الدرك العسكري الذين صحبوه إلى أجدير، ومن هناك إلى المركز العسكري بسراغوستا بشمال شرق مدريد، حيث سيحتفظ به هناك لمساعدة القادة العسكريين في تنظيم الجنود وإعداد وجبات الأكل وتقديم كشوفات يومية بسير العمل في المعسكر، وظل على هذا الحال إلى حين انتهاء الحرب في يوليوز 1939 والعودة إلى تطوان. —- بوطاهر..ذاكرة حرب يدنو الصديق محمد بوطاهر دويدا من عقده التاسع، ورغم ذلك يحتفظ بذاكرة متقدة، ينضح بتفاصيل في مهنته الدقة وروح دعابة عالية، وتمكنا غزيرا من التاريخ المشترك الاسباني المغربي الذي غرفه من أمهات الكتب والمراجع التاريخية باللغتين. لم يخطر ببالنا أن هذا “ريكالاريس”، الذي حارب بشراسة من ما زال يطلق عليهم العدو بhgجبال والمنخفضات والوديان والضيعات المحيطة بمدريد، يمكن أن يقودنا إلى مناطق معتمة في مشاركة المغاربة إلى جانب فرانكو في الحرب الأهلية، أهمها أن جينرالات فرانكو احتفلوا يوم الأحد 17 يوليوز 1936 بإساغن (المنبسط الأصفر) بكتامة بقرار الانقلاب على الجمهوريين، ومن هذا المكان انطلقت العمليات الأولى لتجنيد المزارعين والرعاة والتجار وأطفال الشمال الشرقي والزج بهم في هذه الحرب القذرة، “كنا قد انتهينا للتو من عملية الحصاد، كان يوم أحد حين اجتمع فرانكو بجنرالاته بإساغن، ومن هنا انطلقوا”. مازال بوطاهر، المزداد سنة 1920 قبل سنة واحدة من قتل والده في معركة أنوال، يتذكر ذلك اليوم الذي طلب منه فيه عمه مرافقته عند الحاكم العسكري لوضع اسمه ضمن المجندين في الحرب، بتوصية من قائد كان يطلق عليه موحا ولد سعيد، “وقد فهمت ساعتها أننا سنحارب الأعداء الذين قاموا بانقلاب على ملك اسبانيا، وهم الأعداء الذين كانوا يجوبون مناطق الريف بشاحناتهم التي تعلوها رايات سوداء، ومرة قمت برمي إحداها بالحجارة وكسرت واجهتها الأمامية”. لم يتردد بوطاهر، الذي كان عمره لا يزيد عن 16 سنة، في تلبية نداء الحرب، “فقت فصباح بكري ولبست جلابتي ودرت خبزة في قبي ومشيت مع عمي باش نشوفو الحاكم في بني حذيفة”. ويذكر بوطاهر أن القائد العسكري خرج على جموع المحتشدين وألقى نظرة متفحصة عليهم، قبل أن يأمر مساعديه بتقسيمهم إلى مجموعات صغيرة من سبعة أفراد، قبل أن يحملوا في شاحنات عسكرية والتوجه بهم إلى منطقة تامودا بضاحية الشاون، ومنها إلى المركز العسكري بتطوان، “هناك، أجرينا الفحوصات الطبية ودخلنا في دورة شاقة من التداريب على حمل السلاح واستعماله وتداريب أخرى في فنون الحرب استغرقت شهرا كاملا، كانت لنا فيه فرصة متابعة الاستعراض العسكري لعدد من الجنود يقبضون على الأعلام الاسبانية ويحيون فرانكو بصوت جهوري”. كان بوطاهر ينتمي إلى فريق الرماة بالجيش النظامي رقم 1 بتطوان، وهو الفريق الأول الذي وصل إلى اسبانيا محملا على طائرات ألمانية، حطت بهم بخيريس لافرونتيرا قرب كاديس، “بقينا هناك عدة أيام، قبل ترحيلنا عبر الشاحنات إلى أشبيلية التي كانت تشتعل معارك ضارية انخرطنا فيها مباشرة”. —– حمد شعيب محمد مرافق المارشال أمزيان اكتشف أحمد الإدريسي أو حمد شعيب محمد، حسب الوثائق الاسبانية، بالصدفة، أنه مازال يحمل تحت جلده رصاصة نحاسية من صنع انجليزي دون أن ينتبه إليها، رغم مرور أكثر من 70 سنة على انتهاء الحرب التي دخلها شابا يافعا في يوليوز 1937 وخرج منها بمعاش “مذل” لا يتجاوز 1400 درهم في الشهر. كان ذلك في أحد أيام 2005، حين زار الإدريسي، الذي يقترب من قرنه الأول، طبيبا بمدينة الفنيدق لإجراء فحوصات طبية حول مرض ألم به، فكانت مفاجأته كبيرة، حين أخبره الأخير بوجود جسم غريب يستقر في مكان ما منه، ما استدعى عرضه على جهاز دقيق للأشعة سرعان ما أظهرت صوره ما تحت الحمراء أن الأمر يتعلق ب”قرطاسة” قديمة يحملها هذا المقاتل. لكن ما أثلج صدر هذا الشيخ تطمين الفريق الطبي الذي نفى وجود أية مضاعفات لهذه الرصاصة التي “تنام” في هدوء داخل كتلة من اللحم تشكلت حولها مع مرور السنوات. كان حمد شعيب محمد، الذي خرج إلى الحياة ذات يوم من سنة 1915، يزجي وقته في نشاط فلاحي بلا مردود، بدوار بوهم بجماعة أيت قمرة القريبة من الحسيمة بداية 1937، حين أصدر فرانكو أوامره بملء مراكز التدريب بكتامة وتطوانوسبتةالمحتلة بمزيد من المقاتلين المغاربة، دون تمييز في أعمارهم، المهم أن يتوفروا على بنيات قوية ويستطيعوا حمل السلاح والانخراط في ساحات المعارك. الحبيب الإدريسي، أحد أبناء حمد شعيب محمد، قال ل”مجلة الصباح”، إن والده ما عاد يذكر تفاصيل كثيرة تتعلق بظروف تجنيده والمدن والمناطق والقرى الاسبانية التي قاتل فيها الاسبان، وقديما حكى له أنه كان من المقربين والمرافقين للماريشال أمزيان، المغربي الوحيد الذي ترقى في صفوف الجيش الاسباني وحصل على رتبة جنرال، وأكثر ما يتذكره عشق الأخير للصيد الذي كان يخرج إليه في كتيبة من الفرسان تتقدمهم كلاب سلوقية. —– شريط حرب قذرة قامت الحرب الأهلية الإسبانية نتيجة الانقلاب على الشرعية الجمهورية الإسبانية في مدريد، وقادته مجموعة من العسكريين بقيادة الجنرال “مولا” في الشمال، والجنرال فرانشيسكو فرانكو في المغرب والجنرال “كييبو دي يانو” في الأندلس وجنرالات آخرين أمثال “أستراي” و”سان خورخو”. و إثر هذا الانقلاب انقسمت إسبانيا إلى قومية بقيادة الانقلابيين الفاشيين إضافة إلى الفلانخي والريكيتيس، وإسبانيا الجمهورية بقيادة الجبهة الشعبية التي كانت تضم الفوضويين والاشتراكيين والجمهوريين والشيوعيين. امتدت هذه الحرب من 17 يوليو 1936 حتى 1 أبريل 1939، وخلفت زهاء 600 ألف قتيل، وفي ما يلي أهم أحداثها: 1931: إعلان الجمهورية الإسبانية الثانية وتنازل ألفونسو الثامن عن العرش. فبراير 1936: تحالف الأحزاب اليسارية يتسلم السلطة من اليمين في الانتخابات. 17-18 يوليوز: ثورة الجيش، المتمردون يستولون على حوالي ثلث إسبانيا. 28 يوليوز: الطائرات الإيطالية والألمانية تنقل جيش فرانكو من المغرب الإسباني إلى إسبانيا في أول عملية نقل جوي لجيش في التاريخ. نونبر: القوات الجمهورية تصد هجوماً كبيراً للوطنيين على مدريد بعد وصول مدد من الاتحاد السوفييتي والفرق الدولية. يناير ومارس 1937: فرانكو يفشل في الاستيلاء على مدريد في هجومين منفصلين، رغم دعم القوات الإيطالية. أبريل: تدمير مدينة جيرنيكا بالطائرات الألمانية والنتيجة مجزرة كبرى خلدها عدد من الفنانين في أشعارهم ولوحاتهم. ماي: نشوب القتال بين قوات الجمهوريين يضعف برشلونة. يونيو: سقوط بلباو في يد الوطنيين. يوليوز: الوطنيون يحبطون هجوماً معاكساً للجمهوريين في برونيت. أكتوبر: سقوط خيخون وانتهاء الحرب في الشمال. فبراير وأبريل 1938: بعد معركة للاستيلاء على تورويل القوات الوطنية تصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وتقسم المنطقة التي يسيطر عليها الجمهوريون إلى شطرين. يوليوز ونونبر: معركة إبرو، إذ شنت قوات الجمهوريين حملة ناجحة لإعادة توحيد المنطقة. يناير وفبراير 1939: الوطنيون يستولون على كاتالونيا بهجوم كاسح. 27 مارس: مدريد تسقط في أيدي الوطنيين. الأول من أبريل: انتهاء الحرب وتنظيم احتفالات عارمة بأرجاء العاصمة. —- محند لمرابطي..طفل ذهب للحرب بإغراء شوكولاته لم يكتم “الطفل” محند لمرابطي فرحه، حين مده المجند الاسباني بطبق معدني به قطعة شوكولاتة وكوب شاي ساخن وتين مجفف وخبزة صغيرة، تبادل ابتسامة صغيرة مع أخواله، قبل أن يلتهم محتويات الطبق، منتقما من أيام وليال طويلة من الجوع ببلدته بآيت ورياغل بقبيلة بني عياش بأجدير. كانت الشاحنة المكشوفة، التي أقلتهم ذات صباح من غشت 1936، تمخر عباب طرق جبلية وعرة وغير معبدة تفصل بين دوار إيزاكيرن ومركز التدريب العسكري بمليلية، لم ينتبه الطفل الصغير، الذي كان عمره لا يتجاوز 14 سنة، إلى مشاق الطريق ورحلة تقطع الأنفاس تتواصل إلى ما بعد منصف الليل، أكثر من تركيزه على عازفي الآلات الموسيقية الذين كانوا يرافقون المقاتلين المغاربة على متن الشاحنات، ويرددون مقاطع عسكرية حماسية شدت انتباه الصغير الذي كاد يطير فرحا محدثا جلبة وسط الأجساد المتعبة، قبل أن ينهره أحد أخواله ويأمره بالتزام الصمت. يحكي الباحث محمد لمرابطي، ابنه، كيف سيق والده إلى الحرب في ظروف غريبة، وكيف قبلت القيادة العسكرية الاسبانية بالحسيمة تسجيل طفل صغير تجاوز بالكاد عقده الأول تحت إلحاح أخواله الذين أقنعوا القبطان المكلف بالتسجيل بإضافة اسم ابن شقيقتهم المتوفية حديثا إنقاذا له من اليتم والجوع وتسلط زوجة الأب. كان الطفل يرعى نعاجا وعنزات ضامرة بالجبال المطلة على دوار إيزاكيرن، ولم يخطر بباله أن يتخلى، يوما، عن ملابسه الرثة ويرتدي زيا كاكيا مميزا، ويشد وسطه بحزام من رصاص، ويحمل رشاشا اعتقد للوهلة الأولى أنه مجرد لعبة، قبل أن يدرك في ما بعد أنه “لعب مع الكبار” من النوع الذي يقتل. كان أخواله يتفاوضون من أجل حمله معهم إلى الحرب، وكان هو يستمتع بلحظات “جميلة” خارج الدوار، زاد من حماسها ركوبه في شاحنة وقطعه مسافات وسط الجبال والمسالك الوعرة، وبين الحين والآخر كان يتسلم طبقه المعدني الذي يحوي قطعة شوكولاتة وكوب شاي ساخنا وتينا مجفف وخبزة صغيرة. لم تمر إلا أيام حتى أقل الطفل رفقة أخواله الباخرة في اتجاه جبهة طيرويل، حيث تم الاحتفاظ به عدة أشهر لمساعدة العسكريين الإسبان في أعمال التنظيف والتصبين، وتقديم بعض الإسعافات الأولية للجرحى، وما إن اشتد عوده، حتى زج به في رحى معارك ملتهبة أصيب في واحدة منها برصاصة في ساقه ألزمته الفراش سنة كاملة، قبل أن يعود إلى سبتة سنة 1938. —– منواش..أصغر مجند مغربي في الحرب الاسبانية اسمه الحقيقي عبد السلام ولقاضي، ويحمل في الوثائق الرسمية الاسبانية لقب محمد شهبون، بينما اسمه في بطاقة التعريف الوطنية محمد منواش، أسماء ثلاثة لشيخ واحد تجاوز بسنة عقوده الثمانية، يعيش معدما في “عشة” حقيرة بدوار ولاد سليمان بأفسو (على بعد32 كيلومترا من العروي بالناظور) بلا ماء أو كهرباء أو تعويض، مهما كان هزيلا، عن سنوات حرب طويلة بلا معنى زج فيها في بداية 1937 بدافع الجوع والحرمان واليتم وعمره لا يزيد عن 10 سنوات. رحلة البحث عن أصغر مجند مغربي شارك في الحرب الأهلية الاسبانية، بدأت بوثيقة بالية عثرت عليها “مجلة الصباح” بالصدفة وسط أكوام من الوثائق الرسمية القديمة، كان المقاتلون المغاربة في صفوف الجيش الفرانكاوي يحصلون عليها من إدارات سبتة ومليلية وتطوان مباشرة بعد انتهاء الحرب. الوثيقة عبارة عن إشهاد ممهور بطابع القيادة الخامسة للجيش النظامي، تخبر أن الجندي رقم 851 المسمى محمد شهبون التحق بالجيش النظامي المحارب في الحرب الأهلية الاسبانية في فاتح مارس 1937، مؤكدة أن هذا المقاتل قد يكون حارب في شروط منافية لقانون 24 شتنبر 1941 المصادق عليه بعد سنتين من إعلان فرانكو رابحا أكبر في حرب أهلية قذرة، وما يبدد هذا الشك أن الوثائق الرسمية للأخير ترجع تاريخ ازدياده سنة 1927 بدوار ولاد سليمان بقيادة أفسو بالطريق المؤدية إلى تاوريرت. شرع منواش في حكي متقطع عن السنوات الأولى لتجنيد شبه إجباري لحرب كانت تمثل بالنسبة إلى أقرانه، آنذاك، هروبا من جحيم مجاعة مزمنة أكثر من شيء آخر “كان الجوع بزاف، وماكلة قليلة، كانو الناس كيموتو من لجوع، وملي بداو سبليون كيسجلو مشيت معاهم”. يتحرك منواش بصعوبة متكئا على عكازة من صنعه، كما فقد جزءا من بصره ولا يسمع إلا حين تصرخ زوجته العجوز بقوة في أذنه اليسرى، ورغم ذلك مازالت ذاكرته تحفظ عن ظهر قلب ذاك اليوم الذي توجه فيه إلى الثكنة العسكرية الخامسة بازغنغن بتوصية من أحد قياد المنطقة المتعاونين مع جيش فرانكو، وطلب التسجيل ضمن قوائم المجندين المتوجهين إلى الحرب تحت إغراء راتب شهري لم يكن يتجاوز 20 درهما، وأكياس صغيرة من الشاي وقطع من الخبز ومصبرات. يذكر منواش أن الطبيب الاسباني المكلف بالفحوصات الأولية انتبه إلى سنه الصغير الذي لا يؤهله لخوض حرب قاسية في الجبال وعلى جنبات المدن، ورغم ذلك كان هناك من أقنع الطفل الفاره الطول بارتداء البذلة العسكرية الرمادية وحمل رشاش، والالتحاق بأول شاحنة تضعه في ميناء سبتة، ومن تم إلى ضاحية مالاغا وسباستيان على متن القطار الذي كان يرمي المجندين الجدد في مراكز عسكرية صغيرة يمكثون فيها ساعات قليلة، قبل أن يزج بهم في ساحات معارك ضارية خرج منها منواش خاوي الوفاض، إلا من ثلاث رصاصات، واحدة جرحته في رأسه وثانية وثالثة اخترقتا ذراعه اليسرى وساقه اليمنى. —– بوطيب: تجنيد الأطفال جريمة ضد الإنسانية كيف يمكن إثبات مشاركة أزيد من 9 آلاف طفل مغربي في الحرب الأهلية الاسبانية؟ هناك وثائق بحوزتنا تدل على مشاركة أطفال في هذه الحرب، ومشاركة الأطفال ليست وحدها هي المهمة في هذا الملف، بل هناك، أيضا، طبيعة المشاركين المغاربة وعددهم المهول ومن وقف وراء تجييشهم.. كل هذا يشكل بالنسبة إلينا، نقط استفهام كبيرة تجب الإجابة عليها، والأهم هو كيف يمكن لنا معالجة هذا الملف معالجة حقوقية وسياسية في خدمة البناء الديمقراطي في المغرب وتوطيده في الجارة اسبانيا. هناك تضارب كبير في أرقام المجندين المغاربة؟ صحيح، وهذا التضارب الواضح في الأرقام بين المؤرخين (يتراوح ما بين 800 ألف و900 ألف)، ينم على أن العدد كان كبيرا وما زالت تسيجه مناطق من الغموض ويحتاج إلى الدراسة والتدقيق، نحن هنا لا نتحدث عن أفراد الجيش النظامي فقط، بل كل من تم الزج به في هذه الحرب من فلاحين ومواطنين بسطاء قهرهم الجوع وتوالي الجفاف وآثار الأزمة الاقتصادية التي عرفها العالم آنذاك، والتجار الصغار الذين تركوا أبواب محلاتهم التجارية الكئيبة مشرعة ورحلوا إلى اسبانيا لخوض حرب لم تكن تعني لهم أي شيء، سوى ما كانت تردده أبواق العسكر المتمردين. أما حكاية الأطفال، كما يرويها بعض الذين شاركوا في الحرب، فهي حكاية أطفال “طابور لالايما” الذي كان يتكون من أكثر من 10 آلاف طفل تقل أعمارهم عن 12 سنة، خاصة من مناطق فرخانة وبني نصار وبني شيكر، وهذه وحدها تشكل جريمة ضد الإنسانية غير قابلة للتقادم، نظرا إلى آثارها الخطيرة على الاجتثاث الديمغرافي في شمال المغرب، ما يستدعي التوقف عندها بعيدا عن أي مزايدات أو استغلال سياسوي يمكن أن تتعرض له هذه الرواية التاريخية التي يؤكدها أكثر من مشارك. ماذا تفعلون الآن للدفاع عن هذه الرواية؟ سنستمع في ندوة دولية مقبلة حول الموضوع نفسه إلى وجهة نظر الخبراء في الجغرافية الاقتصادية والبشرية، لنحدد آثار هذه المشاركة على مستقبل اقتصاد المنطقة، ونحن بصدد التهييء لعقد هذه الندوة شتاء السنة المقبلة، ونتائجها هي التي ستملي علينا خطط العمل المستقبلية. * عبد السلام بوطيب: رئيس مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل — المحلات الخليفية بأزياء خاصة قررت السلطات، فترة قصيرة بعد استتاب الحماية سنة 1912، إنشاء وحدات مغربية أطلق عليها اسم “المحلة”، الاسم الذي كان يطلق في الماضي على “قوات جيش السلطان”، مهمتها حماية الخليفية والوقوف كقوة تشريفات خلال المناسبات الرسمية، وتساعد الجيش الاسباني في عملياته العسكرية، إضافة إلى قيامها بدور الشرطة أيضا. كل وحدة كانت تتفرع بدورها إلى طابورين أو ثلاثة، للمشاة والخيالة، يتجزؤون بدورهم إلى جماعات أو فرق. أنشئت المجموعة الأولى للمشاة بتطوان سنة 1913 لتحدث بعدها مجموعات أخرى من النوع نفسه. كان للمحلات زي خاص بها شأن الجيش النظامي وكان شعارها على شكل “خاتم سليمان” يتوسطه حرفا الميم والخاء وفي أسفل المثلث رقم كل محلة. وكان زي المشاة يتكون من سروال ثوب كاكي أو رمادي يميل إلى الأخضر، عليه شعار المحلة، وعصابة من قماش كستنائي وحذاء مرتفع يصل إلى الركبة، لونه رمادي أو حذاء عادي. فوق الرأس كانوا يضعون طربوشا أحمر ذا طرة زرقاء، يتوسط الشعار مقدمته. وفوق البذلة كانوا يرتدون جلبابا من رقعة كستنائية مخططة، مخيطة تحيطها حاشية خضراء، أما بالنسبة إلى الفرسان فقد كان زيهم يتكون من بذلة وسروال لون ثوبهما رمادي يميل للخضرة، وبدل الطربوش كانوا يضعون فوق رؤوسهم عمامة بيضاء من الخيط أو القطن بلون السلهام الذي كان لونه أيضا رماديا يميل إلى الاخضرار، وكانت الحاشية التي تلفه ناحية الصدر خضراء، وينتعلون أحذية عالية من جلود البقر، وكان الفرسان يتميزون عن المشاة بارتدائهم السلهام الأبيض المزكرش والمطرز بالحرير الأبيض. يتميز الأهالي عن الأوربيين بارتدائهم السروال الطويل بدل السراويل القصيرة، والطربوش بدل القبعة الصحنية، وكان الجلباب والسلهام على النمط نفسه، ولا يختلفان إلا من حيث الزركشة والدرجة الرفيعة. —- عبد القادر صفوط..السائق الصغير لم يعد يقوى على المشي منذ سنوات، هدته أمراض الروماتيزم التي سكنت مفاصله وعظام ساقيه وألزمته سريرا بلا حراك، ما اضطر ابنه البكر إلى الاستعانة بأكياس من الحفاظات من الحجم الكبير التي يلف بها خصر والده، كلما قرر الخلود إلى النوم. الوثائق الرسمية التي حصل عليها صفوط من الإدارة الاسبانية، تؤكد أنه من مواليد 1924، وتم تجنيده في السنة الثانية من الحرب الأهلية (1937) ولم يتجاوز سنه آنذاك 13 سنة. كان صفوط صبيا متعلما في محل للميكانيك، حين خطرت بباله فكرة الدخول إلى مليلية والتوجه إلى المركز العسكري لوضع اسمه في لوائح المجندين، كان يعلم أنه ذاهب إلى حرب ضروس الداخل إليها مفقود لا محالة، لكنه الجوع واليتم اللذان لم يتركا له أي خيار..فرحل. يذكر صفوط، الذي ماينفك يمسح عينيه الخضراوتان الملتهبتين بقطعة ثوب، أنه سجل ضمن مجموعة يطلق عليها “انفنتريا” وانتظر حوالي 11 شهرا، قبل تنقيله إلى مدريد، ثم إلى ساراغوستا، حيث انضم إلى الجنود المكلفين بقيادة الشاحنات العسكرية الضخمة، ما أنقذه من الانخراط المباشر في الحرب، ويقول بصوت متقطع إنه كان بارعا في السياقة بشهادة الاسبان، كما كان بارعا في استعمال البنادق والرشاشات، رغم صغر سنه، ما أهله للحصول على ثلاث ميداليات حرب، ضاعت كلها في زحمة العمر. بعد انتهاء الحرب، التحق صفوط بالتشكيلات العسكرية الاسبانية بالمغرب بمليلية، حيث انضم إلى فرقة الدراجين، ومرة رافق جنرالا اسبانيا إلى مطار الناظور لاستقبال شخصية رسمية، وما إن نزل الأخير من الطائرة، حتى تقدم الجنرال للسلام عليه باحترام كبير، “آنذاك تقدمت من المسؤول العسكري عن هذا الشخص، فقال لي إنه محمد الخامس ملك المغرب”.