للعب تعريفات عديدة, على الرغم من تعدد هذه التعريفات في الصياغة والمفهوم فان جل هذه التعريفات يربطها خيط مشترك من الصفات وهي: الحركة, النشاط والواقعية. لقد عرف إبن منظور في لسان العرب اللعب على انه فعل يرتبط بعمل لا يجدي نفعا، ونفس التعريف وجدته في الصحاح ولدى الفيروزأبادي، بل هناك من المعاجم العربية من تعرف اللعب بالميل الى السخرية, والهزل وتضعه في طرف نقيض مع الجد والكد والصدق كنشاط ضد الجد ، وهو التعريف الذي ذأب عليه اللغويون وسار في منهجهم بعض كبارالأدباء، في المغرب والمشرق، أمثال العلامة عبد الله كنون والفاروقي الرحالي والعقاد والتودي بنسودة، والمازني ولويس عوض وعلال الفاسي وطه حسين وسي عبد السلام جبران المسفيوي ويحي حقي. أما حسب قاموس علم النفس فإنه يعرف اللعب على انه نشاط يقوم به البشر بصورة فردية او جماعية لغرض الاستمتاع دون اي دافع آخر. في حين تؤكد النظرية المعرفية ان اللعب هو النشاط الحركي الذي يعمل على نمو الفرد العقلي, فاللعب والنشاط الذي يقوم على الحركة والتمثيل الرمزي والتمثيل الخيالي والتصور الذهني والرسم يعتبر عملية اساسية لانماء العقل والذكاء لدى الناشئة .حيث أصبح من المتفق عليه حاليا بين كل المختصين والمهتمين من شتى الأطياف العلمية ومناهج ومدارس البحث ان اللعب نشاط حر موجه او غير موجه, يكون على شكل حركة او عمل يمارس فرديا او جماعيا ويستغل طاقة الجسم الحركية والذهنية. وهو نشاط تعليمي وتلقيني ووسيط فعال يكسب الاطفال الذين يمارسونه ويتفاعلون مع انواعه المختلفة دلالات تربوية انمائية لابعاد شخصيتهم العقلية والوجدانية والحركية. ويظهراللعب باشكال مختلفة ومتنوعة, كما أن نتائجه غير ظاهرة للعيان ولا يمكن حصرها,أو تعداد مزاياها، كما تمت المواضعة حول عناصره العامة: كنشاط إنساني له دوافع داخلية, فالاطفال يلعبون نتيجة دافع داخلي وليس نتيجة ضغط خارجي. في نفس السياق يعتبر اللعب متعة للكبار والصغار، وخصوصا حيث يسعد الاطفال بنشاطاته وعوالمه وآفاقه المختلفة، كما يعتبر اللعب فضاء مرن ومحرر من اي قواعد او قوانين تفرض عليه من الخارج, ويختلف في وقعه ودرجة إيحاءاته وتداعياته الإيجابية والسلبية من شخص لآخر. فلنترك هذه التعريفات جانبا، فهي كثيرة ومتشعبة تدفع للجدل، الذي قد لايتماشى مع طراوة صهد هذه الصبحيات الخريفية،فأنا شخصيا،في طفولتي ب “أسوال”، وديور الصابون الحي الشعبي المراكشي الذي ولدت فيه، وترعرعت بين أحضانه كنت دائما مسكونا بنار اللعب الأبدية، ونزقها الشيطاني، على حد تعبير أمي وجاراتنا ، أعشق كل اللعب الفردية والجماعية، عشقي المسترسل للعب لايضاهيه إلا كراهيتي للمدرسة وما يصاحبها من التوجس من حجرات الدرس،ونظرات ذاك المعلم الضخم،ذو الشوارب العريضة، قبل أن يرحمنا الخالق جل جلاله، بتغييره من طرف الإدارة ، وقدوم لالا عيشة المعلمة الودودة في حذر، الرحيمة بقسطاس. ورغم أن معظم هذه الألعاب كانت بدائية، مقارنة باللعب العصرية الحالية، حيث لم نعش نحن مواليد أواسط الستينات، ولا الجيل الذي كان قبلنا، كل هذا الدفق الترفيهي المرفوق بالتألق الإليكتروني وانتشار المعلوميات، فإنها كانت لذيذة ورائعة تشعر من خلالها بالدفء والحب،وتدفع للخيال والإبداع وتكريس الذات ولا شك أن ثقافة اللعب المتعلقة بالأطفال، إناثا وذكورا، تغيرت بتغير الزمان، وتطورت مع تطور الصناعات التكنولوجيا والإنفتاح الذي عرفته الأسواق المغربية في ظل أمواج العولمة، حيث باتت تتدفق على المحلات المختصة ببيع لعب الأطفال الكثير من أصناف اللعب الذكية، والأخرى الإستهلاكية التي تعتمد على الشحنات الكهربائية ببطاريات مزدوجة أو رباعية، أو على البرمجة الإلكترونية انطلاقا من إدماجها في الحاسوب، أو على جهاز التلفزيون. وظللت لمدة غير قصيرة أعتقد أن ألعاب الطفولة، وذكريات الطفولة وشغب الطفولة وأسئلة الطفولة دائما تمر بالخاطر،ولا تعلف به، تمر مثل تلك النجوم السريعة التي تتوهج في ليالي الصيف المراكشية، ساعة الأصيل غير أنها سرعان ما تختفي بمجرد عودة القيظ الليلي، إلا أنني إكتشفت أن ذكريات ألعاب الطفولة تظل مضارعة ومصاحبة لرؤية المناظر الجميلة الخلابة، التي تريح الأعصاب وتدفق الحيوية في النفس المثقلة بهموم الحياة . لذلك فكرت أن أقترب قليلاً من نافذة الطفولة التي تقع في أقصى الممر الحياتي لكل فرد منا، لعل قلمي يقع على منظر تأنس به نفسي ، كانت النافذة كبيرة جداً ولم تكسوها أية ستائر نفعية أو عقد، فنظرت عبرها فرأيت أحياء مراكش العتيقة، سوق السمارين والصوافين وساحة جامع بن يوسف، وأزقة قاعة بن ناهيض الملتوية والأخرى المظلمة، والأطلال الشاهقة الارتفاع التي تعود إلى عصر الموحدين في منطقة أمصفح وأسوال، والتي يعشش فيها الحمام وتحتل قممها من جهات زاوية لحضر عائلات محترمة من اللاقاليق، والتي تطل بكل اعتداد وإجلال على الزقاق التحتية المرصوفة بالدفء والحميمية والتألق الشعبي والحضاري،وعبق التوابل والحكايات، وبوهج القباب الخضراء المشيدة باتقان عجيب، فعلى سبيل الذكر قبة الولي سيدي عبد العزيز التباع دائما هي الأقرب، والأخريتان البعيدتان نسبيا، قبة أبي العباس السبتي، وقبة صاحب “دلائل الخيرات” محمد بن سليمان الجزولي السوسي، وهما قطبان صوفيان لهما مزارين معروفان لدى المغاربة وعموم المسلمين، خاصة في المغرب العربي وإفريقيا بحوض السينغالي وبلاد السودان. الشوارع المفعمة بصياح باعة الخضر ومروجي النعناع تزيد من نوتات الصباح المتأخر، وتحذيرات الحمالين من أصحاب الكراريس، والعربات التي تجرها الذواب، حتى أنك في وسط هذا الخضم من الكلمات والحركات والشخوص قد تعثر على ورقة نبات تهدهدها النسائم لتطير من مكانها الأصلي داخل باحة رياض أو حديقة منزلية، لتصير تحت رحمة الأقدام وحوافر الدواب المتسابقة نحو الأسواق والحوانيت . هذا الكون الفسيح ، العجائبي والثري بمعانيه الخلابة ، كانت “الحاجة” يرحمها الله تقول لنا وهي تنظر من تحت برج الحمام الشاهق والمخيف البناء، والمطل على قوس سقاية “إشرب وشوف” : مراكش “كل قدم بصالح” حتى لو كانت صحراء قاحلة ستعطي للنفس إشراقة أمل لاتضاهى، جذابة وقوية ولسان صادق،وجسد تواق للحبوروالسرور”، وكأنها توحي من قرارة قلبها الأمومي الكبير،إلى ماتدعو إليه هذه العروس الحمراء من مباهج اللعب والتسكعات البريئة، والجري الجميل إلى حدود العشق والتعب،خارج من بركات الرجال السبع الذين يحرسونها، فلا مدينة تنافسها في العالم غير فاس حاضرة سيدي مولاي إدريس. لقد كانت ألعاب زمان، ذات الصبغة الجماعية الذكورية والإناثية، يعني “البناتية” والعضلية مجرد ذكرى من الذكريات الرفيعة والجميلة،التي تدغدغ مشاعر الصبا، وتسترجع حميمية “الحومة” على غرار: “عرام الدشيش” و “طاب الفول” و “المالا” والفيليلات” و “البينو” و”فريع الشبكة” و”الطائرات الورقية” المصنوعة من ورق الدفاتر المنسية، والكراسات القديمة مجرد نجمة جميلة تذكر بزمن فائت. كما كانت الساحات الشاسعة داخل المدينة العتيقة، والدروب الطويلة والملاعب الترابية فيما وراء السور في مناطق “قشيش”و”باب أيلان” وباب الجديد، مراتع مفضلة لألعاب الطفولة، أيام زمان، إذ ظل كل حي من أحياء مراكش العتيقة يتوفر على ساحة داخلية أو خارجية وراء الأسوار، توفر لصغاره فسحة ل “اللعب المستديم”، هذا طبعا قبل فتوحات غابات الإسمنت التي لاتقهر . وكان من أبرز الألعاب الجماعية التي يتبارى فيها الصغار “طاب الفول” وهو سباق تفاضلي، يفوز فيه من يستطيع الإختباء لأطول وقت ممكن، أنا شخصيا كنت آخر المعتقلين دائما و “عرام الدشيش” وهو إختلاط وإرتماء توحدي بين الأجساد الطرية،يتبارى من خلاله الأطفال في من يستطيع أن يخرج من الزحام المفتعل بسبب الإرتماء العفوي، و “فريع الشبكة” حيث يتحول الصغار إلى كرات تتنافس في من يخترق باب الدرب،على أساس أن هذا الأخير هو الشبكة،التي يحرسها أحدنا تتوجب فيه القوة والصلابة ومجابهة العدائين الصغار وعادة ما كنا نلعب هذه اللعبة،في غياب الكرات البلاستيكية التي لانستطيع شراءها،بعد أن تكون الكرة السابقة، قد تم تمزيقها بسكين رجل متسلط ديكتاتور، من المحترمين في الحي، إنتقاما مما سببناه له من إزعاج أمام بيته.... كلها في الواقع ألعاب كانت تعتمد على الجهد العضلي، إضافة إلى شيء من الذكاء الثعلبي الذي يمكن صاحبه من الإفلات في السقوط بالشرك، كما في “حريقو” و”طاب الفول”حيث تتحول أيادي الصغار بهذه اللعب إلى “قوانين فَيتو” تطرد كل من لامست رأسه خارج دائرة اللعبة . والواقع ،أن فنون اللعب زمان، كانت مواسم ،لاتختلف عن مواسم الحصاد وجني الثمار وعمليات التويزة، كان من أبرز سمات ألعاب أيام زمان أنها تنتظم في مراحل زمنية، يطلق عليها في صفوف الصغار “الأعوام”، رغم أن العام في عرفهم هو مجرد أسبوعين أو أكثر.فيقولون على سبيل المثال: “عام البلي” و”عام الطرونبية” وعام “الطيارات الورقية” و”بوفرواضي” وهي مروحيات ورقية، مشدودة إلى قصبة، تدور تحت قوة الريح، وبثأثير الطاقة الحرارية المتولدة من جري الصغار بناتا وأولادا، نماذج ورقية صغيرة جدا لطواحين الهواء العملاقة التي كان يصارعها “دون كيشوت دو لا مانتشا” ويظنها الأعداء . لقد كان “العياشي” من أشهر باعة بوفرواضي وهو الإسم المراكشي للمروحية الورقية المعنية، حيث كان يتجول ضمن مثلثات شاسعة في المدينة، ويتمركز حسب كل ساعة من ساعات النهار بحي من الأحياء، ففي الصباح يضع سلته الكبيرة المملوءة ب ”بوفرواضي” الزاهية الألوان في منطقة ثلاث فحول بحي سيدي عبد العزيز، لينتقل وسط الزوال إلى درب ضبشي، ثم في المساء إلى ساحة باب تاغزوت، قبل أن يختتم يومه بجولة عبر الرميلة، وصولا إلى جامع الفنا وعودة من داخل أسواق السمارين، وكنا نحن الصغار نعرف خريطة تحركات العياشي اليومية، ونحفظها عن ظهر قلب. في حين كانت البنات الصغيرات والفتيات اليافعات، يلعبن “المالة”وهي قريبة من لعبة الدومينو الإسبانية غير أنها تتم بواسطة الحصى الصغير، المتباين الحجم واللون، حيث تجتهد الفتيات في إدخال كل حصوة في قوس يصنعنه من أصابعهن، عن طريق تشبيك السبابة والوسطى ولعبة “السيس” و”الفيليلات” وهي ألعاب جماعية أو ثنائية تلتصق دائما بالأرض،وبعشق الأرض وتمارس في إطار حلقات مرسومة وخطوط حدودية تتبارى المتنافسات في عدم تجاوزها، وحسن تدبيرها. وقد تشترك الفتيات والفتيان في لعبة بعينها، وإن كانت ثمة اختلافات لوجستيكية، مثل لعبة “البينو” الذي هو عبارة عن باقة من حلقات مطاطية مقطوعة بشكل موفد، ومتناسق من الإطار المطاطي الداخلي لعجلة الدراجة العادية أو النارية، يلف حوله شريط ويصبح “بينو” باقة كروية صالحة للرمي والهز والقذف، في حين يصنع “بينو” البنات من نباتات “الخبيزى” وتمارس لعبته خلال فصل الربيع، عندما تخضر الأرض وتنمو الأعشاب والحشائش.